الفقر والسكن والرعاية في بريطانيا.. تحدّيات اجتماعية تواجه ستارمر
في بريطانيا، وصل حزب العمّال السلطة بفوزٍ عريض وكاسح على المحافظين. لكن هذا الفوز، لا يضمن للناخبين تحقّق رؤاهم في سياسات الحزب بعدما تولّى السلطة. وفي انتظار ذلك، لا بدّ من تفصيل تحدياتٍ راهنة تؤرّق الساسة كما العامة في المملكة المتحدة.
أبرزت المحطات الانتخابية الأخيرة في أوروبا ميلاً عارماً إلى إعلاء القضايا الاجتماعية على سلّم الاهتمامات لدى الناخبين. وقد تجاوزت الجماهير ثنائية اليمين - يسار لتركّز على السياسات الاجتماعية للساسة المُرشّحين، فيما بدا أنها استجابةٌ شعبية ملحّة لما فرضته الأزمات الاقتصادية والمالية والصحية والأمنية في السنوات الأخيرة من انعكاساتٍ سلبية حادّة على مجتمعات القارّة.
في بريطانيا، وصل حزب العمّال السلطة بفوزٍ عريض وكاسح على المحافظين. لكن هذا الفوز، لا يضمن للناخبين تحقّق رؤاهم في سياسات الحزب بعدما تولّى السلطة. وفي انتظار ذلك، لا بدّ من تفصيل تحدياتٍ راهنة تؤرّق الساسة كما العامة في المملكة المتحدة.
الأغلبية المريحة للعمّال، قد تسهم في إعطائهم هامشاً زمنياً وهوامش مترافقة في الخيارات، لكنّ المهلة غير مفتوحة، كما تشير الحياة السياسية في المملكة، ومصداق ذلك سقوط ليز تراس بعد أقل من شهرين من تولّيها مكتب رئاسة الوزراء في "10 داونينغ ستريت".
الفقر واحدة من أبرز القضايا المؤثرة في بريطانيا اليوم، مع تزايد أعداد المسجّلين في بنوك الطعام، والذين لا يجدون ما يقتاتون عليه بصورةٍ يومية. حيث يزورها الكثير من المواطنين بعدما يكونون قد أنفقوا خلال الأسبوع كلّ دخلهم على الكهرباء والغاز، خصوصاً في فصل الشتاء. وقد شهدت الطلبات على خدمات الجمعيات الخيرية ارتفاعاً كبيراً، مع تزايد أعداد المُشرّدين وأولئك الذين ينامون في العراء إلى مستويات لم يسبق لها مثيل.
رئيس الحكومة الجديد كير ستارمر لا يُكثر الآن من وعوده في هذا السياق، لكنه بحسب مواقفه المعلنة يتطلع إلى النمو الاقتصادي كرافعةٍ تمكّنه من إيجاد حلول للفقر. وفرص هذا النمو لا تزال محفوفةً بالمخاطر، خصوصاً مع تأثيراتٍ سلبية وضغوط من أزمات أوسع من بريطانيا نفسها.
لكن في ظل ذلك، يزداد التفهم العام لطالبي هذه الخدمات، فبعد أن كان 40% من البريطانيين لا يصدّقون حاجة هؤلاء قبل عقدين من الزمن، ها هم اليوم ينقصون عن 20%. وهي أرقام قدّمها موقع "ذا كونفرسايشن" في تقرير موسع.
ويؤثر الفقر في بريطانيا على حيوات الأطفال الذين يعاني أربعة ملايين منهم ظروفاً قاسية، تصل في كثير من الأحيان إلى حال الفقر المدقع، وهؤلاء أيضاً من المعتمدين على بنوك الطعام المنتشرة في المملكة.
هذه القضية المُلحّة في غير دولةٍ أوروبية، يجدها حزب العمال في بريطانيا مدعاة قلقٍ بالغ، مع ارتفاع الفاتورة الصحيّة بموازاتها، وضغط ذلك على الإنفاق العام على المدى القصير والمتوسط، بالإضافة إلى الخطط المستقبلية المنتظرة منه. وقد تكون قضية مكافحة الفقر امتحاناً صعباً للحزب الذي أعطاه الناخبون نجاحاً غير مسبوق، من أجل أن يثبت أحقيته بتلك الثقة.
تحدي آخر لا يقل أهميةً وهو يتعلق بملف الرعاية الاجتماعية، ومن ضمنها ملف هيئة الخدمات الصحية الوطنية، خصوصاً في ظل إقبال على المستتشفيات يفوق قدرة القطاع على استيعابه، ما يضع الحكومة أمام ضروراتٍ مُلحّة، منها ما يرتبط أيضاً بإصلاح مؤسسات الرعاية، وتطوير سياساتٍ وقائية طويلة الأمد، لتقليص الطلب على أسرّة المستشفيات. وذلك في ظلّ ضيق هوامش الإنفاق العام على القطاع، مع وجود أزماتٍ أخرى مُركّبة. وارتفاع كلفة الرعاية الصحية، بموازاة ارتفاع سنّ البريطانيين بوتيرةٍ متسارعة.
هذه التحديات صعبة لأن الحلول سوف تتطلب التزاماً طويل الأمد بالموارد، وسوف تكون هناك تكاليف سياسية، فضلاً عن الفوائد المترتبة على معالجتها.
كل هذه التحديات وصلت الآن إلى نقطة الأزمة، حيث أصبح التحرك مطلوباً على وجه السرعة. إذ إنّ حلّ هذه التحديات أمر حيوي لتحقيق أهداف النمو والإصلاح التي يتبناها حزب العمال.
في الحملة الانتخابية، لم يتحدث حزب العمال كثيراً عن خططه في أغلب هذه المجالات. ولكن الآن وقد أصبح في الحكومة، فسوف يحتاج إلى وضع استراتيجية متماسكة خشية أن تؤدي هذه الخطط إلى إعاقة الأهداف المركزية لحزب العمال، وإعاقة أمل الحزب في إعادة بناء الثقة في الحكومة.
ويبقى ملف الإسكان أيضاً واحداً من أهمّ الملفات التي تشكل تحدّياً لحكومة كير ستارمر، الذي وعد حزبه ببناء 300 ألف منزلٍ سنوياً، بينها حوالى 35 ألفاً بتمويلٍ من القطاع العام، ونصف هذا الرقم سيكون مخصصاً للإيجار، الأمر الذي يتطلّع إليه البريطانيون كمصدر أمل لخلق الوظائف وتحريك قطاعات الأعمال المرتبطة به، فضلاً عن فائدته المباشرة لناحية توفير المزيد من المساكن لهم. وقد ركّز حزب العمال على هذه القضية خلال حملته الانتخابية، وأعلن عن انعطافة في نظام التخطيط لها.
وترتفع أسعار المساكن وإيجاراتها في بريطانيا بصورةٍ أدت إلى زيادة معدلات التشرد بين المواطنين، وهو ما يؤدي بدورته إلى دوّامةٍ من المشكلات الاجتماعية لشرائح لم تعد محدودة من المجتمع.
وعلاوةً على ذلك، هناك تحديات كثيرة سوف تحدد شكل الوجه الاجتماعي للسياسات العامة لحزب العمال، حيث ينتظر البريطانيون نتائج ملموسة مثل تقليص طوابير الانتظار على لوائح المستشفيات، وانخفاضاً في معدلات البطالة، وتقليص الفاتورة التعليمية، لا سيما في المرحلة الجامعية، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، التي لا تزال تُعدّ في النقاش العام في البلاد واحدةً من أكثر المشكلات إرهاقاً للاقتصاد. وهي ما سوف يُحدّد مصير حكومة ستارمر في وقتٍ ليس ببعيد.