العلويون في سوريا.. حضور تاريخي بارز وجزء من تنوّع النسيج الاجتماعي

اليوم، يعيش أغلب العلويين في منطقة تمتد بشكل هلالي على الساحل الشمالي الشرقي للبحر المتوسط من شمال لبنان إلى سهول كيليكيا في تركيا مروراً بالساحل السوري، ويشكلون حوالى 15% من سكان سوريا، أيّ حوالى 3 ملايين نسمة.

  • العلويون في سوريا.. حضور تاريخي لا يغيب وجزء من تنوّع النسيج الاجتماعي
    العلويون في سوريا.. حضور تاريخي لا يغيب وجزء من تنوّع النسيج الاجتماعي

في منطقة جنبلا جنوبي العراق، ذاع صيت الزعيم في قبيلة "بني حمدان" أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي، سنة 926 م، الذي كان أبرز ناشري "الطائفة العلوية" في العالم، والتي أسسها محمد بن نُصير داخل العراق في منتصف القرن التاسع الميلادي والثالث الهجري، إلا أن انتشار الطائفة العلوية لم ينتشر على نطاق واسع إلا في عهد الخصيبي، نظراً لما كان يمتلكه من روابط متعددة بين القبائل العربية آنذاك.

لم تسمح الظروف السياسية والدينية داخل العراق في تلك الفترة للخصيبي بمتابعة مشروعه في نشر الطائفة العلوية ليواجه السجن لفترة من الزمن قبل أن يقرر الانتقال إلى حلب، بعدما رأى رؤيا في منامه بأن السيد المسيح يحثّ على الهجرة إلى تلك المدينة، كما ساعده في تحقيق مبتغاه، وجود أقربائه في دولة الحمدانيين بمدينة حلب شمال سوريا، لتكون هذه الهجرة نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ "العلويين".

في حلب، تابع الخصيبي مشروعه في نشر أسس الطائفة العلوية، واستمر بذلك حتى وفاته داخل المدينة، حيث نجح في تلك الفترة في كسب ثقة واحترام الذين دخلوا في هذه الطائفة، حتى تحوّل إلى أحد الرموز الدينية البارزة لديهم، كما أصبح مكان دفنه في حلب مزاراً للعلويين من مختلف الدول حتى اليوم، لما يمثّله الخصيبي من قيمة دينية وأخلاقية كبيرة لهم.

المزار تحوّل مؤخراً إلى حديث الرأي العام داخل سوريا، بعد تداول مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي يُظهر إحراق المزار الواقع قرب ثكنة هنانو بمدينة حلب، ما أشعل احتجاجات شعبية واسعة في مدن اللاذقية والقرداحة وطرطوس وحمص، حيث رفع المتظاهرون شعارات تضامن مع مقام "الخصيبي"، واستغلّ البعض حالة الاحتجاجات الشعبية لإثارة النعرات الطائفية، ليتخلل بعض التظاهرات اشتباكات مسلحة، كادت أن تتحوّل إلى مشهد دموي لا يمكن السيطرة عليه.

فيما أكدت إدارة العمليات العسكرية التابعة للإدارة العامّة الجديدة في سوريا أن حادثة إحراق المزار تعود إلى أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 2024، خلال معارك السيطرة على مدينة حلب، لكن التسجيل المصور بدأ بالانتشار مؤخراً، ما يكشف وجود فئات تعمل على إثارة النعرات الطائفية.

وهذا الأمر أكده أحد المسؤولين عن خدمة المزار في مدينة حلب، يدعى الشيخ أحمد بلال، الذي كشف أن المكان لم يشهد أيّ أعمال تخريبية مؤخراً، وأن الفيديو المتداول يعود إلى تاريخ قديم، داعياً إلى "تحكيم العقل وعدم الانجرار للتصرفات الطائشة والعشوائية التي من الممكن أن تقود إلى تأزيم الوضع الأمني في البلاد".

مخاوف متصاعدة

بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر، واجه العلويون في عموم سوريا مخاطر كبيرة، خاصّة أن العائلة التي حكمت البلاد لمدة تزيد عن 50 عاماً تنتمي إلى هذه الطائفة.

ومنذ اللحظات الأولى التي أعقبت السقوط أعلن وجهاء الطائفة العلوية دعمهم لخيار الشعب السوري، وأنهم جزء لا يتجزأ من النسيج السوري الواحد، خاصّة بعد حالة الفوضى والاعتداء على الممتلكات العامة في منطقة الساحل، وفي هذا السياق يؤكد المحامي حيدر أمير جديد للميادين نت أن أشخاصاً مجهولون اعتدوا على بعض المؤسسات الحكومية في الساحل السوري منها محكمة اللاذقية، إضافة إلى الاعتداء على أملاك خاصّة في اللاذقية وجبلة وطرطوس، لكن سرعان ما تم ضبط هذه الحالة في اليوم التالي، فور وصول قوات الهيئة والأمن العام والدفاع المدني، قبل أن تبدأ الأمور بالعودة إلى طبيعتها تدريجياً، مع قيام الأهالي بالحفاظ على ممتلكات الدولة العامة.

ولفت جديد إلى أن المنطقة شهدت مظاهرة سلمية طالبت بمنع الانجرار خلف الفتنة والحرب الطائفية، شارك فيها أهالي القرداحة من مثقفين وأطبّاء ورجال دين وعمّال وفلاحين، حيث تركّزت مطالب الأهالي على ضرورة تعزيز الاستقرار وحفظ الأمن والسلم الأهلي بعيداً من النعرات الطائفية، من أجل النهوض بالوطن، وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال بناء الإنسان أولاً.

ابن النصير مؤسس الطائفة العلوية

في مدينة الكوفة بالعراق، تفرّد محمد بن نُصير، الذي وُلد في عام 833 م بأفكاره الدينية والعقائدية، ليرسم بأفكاره وأبحاثه وكُتبه طريقاً فريداً في الدين الإسلامي، أساسه تنزيه وتقديس الإمام علي بن أبي طالب.

 محمد بن نصير الذي ينتمي إلى قبيلة "بني نمير" في العراق، كان عالم دين ذو شخصية غامضة وشعبية جذابة في أواسط القرن التاسع الميلادي، وعُرِفَ ابن نصير بأنه "الباب" لأئمة الشيعة المعصومين، وخاصّة الإمام علي الهادي، الإمام العاشر، والإمام الحسن العسكري، الإمام الحادي عشر، لدى الشيعة الإمامية، قبل أن ينفرد ابن نُصير بأفكاره وتوجهاته الدينية.

بعد وفاة ابن نُصير عام 883 م، تولى محمد بن جندب ثم عبد الله بن محمد الجنان الجنبلاني زعامة الطائفة، حيث بقيت ضمن حيّز جغرافي صغير، حتى ظهور أبي عبد الله الحسين بن حمدان الخصيبي.

بعد ذلك، مرّت الطائفة العلوية بمراحل عديدة بين ازدهار وانكفاء في الجبال، وصولاً إلى نهاية الحكم العثماني وبداية الاحتلال الفرنسي، حيث حصل الفرنسيون على تفويض رسمي من عصبة الأمم عام 1922 للإشراف على التطوير السياسي في سوريا، وبموجبه أنشأت فرنسا للعلويين دولة خاصّة بهم على الساحل السوري. وعندما نالت سوريا استقلالها عن الانتداب الفرنسي، كان زعماء الدولة العلوية قد وافقوا على انضمام الدولة العلوية إلى سوريا الموحدة.

اليوم، يعيش أغلب العلويين في منطقة تمتد بشكل هلالي على الساحل الشمالي الشرقي للبحر المتوسط من شمال لبنان إلى سهول كيليكيا في تركيا مروراً بالساحل السوري، ويشكلون حوالى 15% من سكان سوريا، أيّ حوالى 3 ملايين نسمة.

يتركز العلويون في شمال غرب سوريا، وتحديداً في مدينتَي اللاذقية وطرطوس، وهناك تجمعات أخرى في دمشق وريفي حمص وحماة؛ وتتوزع الطائفة العلوية إلى 4 عشائر رئيسية، هي: الخياطين، والمتاورة، والحدادين، والكلبية، حيث تسكن عشائر الخياطين المناطق الجنوبية من الجبال الساحلية وحول نهر الكبير الجنوبي الذي يجري على مسار الحدود اللبنانية، بينما يتركز المتاورة في شمال اللاذقية وشرقها حتى الحدود التركية شمالاً ومنطقة مصياف جنوباً، في حين تسكن عشائر الحدادين في المناطق الساحلية حول مدن طرطوس وبانياس وجبلة واللاذقية، وتتركز عشائر الكلبية حول القرداحة بريف اللاذقية.

يُعرَف العلويون على أنهم مجموعة دينية منفصلة؛ القرآن ليس سوى واحد من كتبهم ونصوصهم المقدسة، وتفسيرهم له لديه القليل من القواسم المشتركة مع تفسير باقي مذاهب المسلمين، ولكنه يتوافق مع أوائل الباطنية.

تنفصل الطقوس العلوية عن الإسلام السائد بطرق عدة مهمة، كما يؤمن البعض منهم بالتقمص، أي انتقال الروح بعد الموت إلى جسد حيوان أو إنسان آخر، لكنها ليست أساسية في عقيدتهم، خاصّة أن العلويين حافظوا تاريخياً على الكثير من معتقداتهم وطقوسهم وأفكارهم الروحانية طيّ الكتمان.

الشيخ أديب ديوب أبو عيسى أحد الوجهاء في منطقة القرداحة يؤكد للميادين نت أن العلويين كما يسميهم الأكثرية، والنصيرية كما يسميهم البعض هم جزء لا يتجزأ من المكونات العربية الإسلامية عامّة والسورية خاصّة، وتعود تسمية "النصيرية" إلى محمد بن نُصير النميري مؤسس الطائفة.

ويرى الشيخ أبو عيسى أن "العلويين من المسلمين الشيعة ولكنهم يُتهمون بالغُلاة، لأنهم يُغالون بحب الإمام علي الخليفة الراشدي الرابع رضي الله عنه، لذلك فهم جزء لا يتجزأ من المسلمين الذين يشهدون بأن لا إله إلا الله، وأن النبي محمد سول الله، إلا أن الظلم الذي تعرّضت له الطائفة دفعها للانطواء على نفسها"، بحسب رأيه.

وعن المناسبات الدينية التي يحييها العلويون، يشير أبو عيسى إلى أن العيدين الرئيسين للعلويين هما عيد الأضحى وعيد الفطر، كما يوجد مناسبات أخرى مثل عيد الغدير وهو عيد الولاية الكُبرى، وأيضاً يوجد أعياد ترتبط بمناسبات أو أحداث تاريخية ويكون الهدف منها الاستذكار والعبادة، مثل عيد "انقضاء الحر من البرد" في شهر تشرين الأول و"انقضاء البرد من الحر" في شهر نيسان، وهذه المناسبات ترتبط أيضاً بالزراعة.

ولفت إلى أن العلويين في سوريا موجودون منذ مئات السنين، وكان لهم مساهمات كبيرة في تاريخ البلاد، كما صدّروا قامات سياسية وأدبية وثقافية واجتماعية عديدة، مؤكداً أنهم اليوم "يريدون بناء وطن حرّ، لأنهم يؤمنون بأن الدين لله والوطن للجميع، وتنادي الطائفة اليوم بسوريا الموّحدة بكل طوائفها ومكوناتها، ولا تريد تقسيم نظري ولا جغرافي، بل تسعى إلى بناء الدولة جنباً إلى جنب مع باقي المكونات السورية ومع الإدارة الجديدة في البلاد".

أهمية كُبرى للمزارات

لم يُعرف العلويون في تاريخهم بممارسة الطقوس الدينية العلنية، فهم كفرقة باطنية يحرصون على إبقاء طقوسهم سرية، لكن زيارة المقامات جهراً يخرق ذلك الأمر.

تحتلّ المقامات والمزارات مرتبة بارزة في التقاليد الدينية للطائفة العلوية، وتعتبر زيارتها واجباً مقدساً، وهي أماكن مباركة برفاة أصحابها من العباد الصالحين الذين يملكون كرامات معينة، ويقصدها الكثيرون طلباً للخير والشفاء والرزق، ويصل عددها في المناطق السورية إلى نحو 400 مزاراً تنتشر في محافظات اللاذقية وطرطوس وحماة وحمص وحلب.

كما تبرز أهمية المزارات في الأعياد الدينية المختلفة، لتكون بمثابة مكان يجتمع فيه المريدون من مختلف المناطق، للتعبير عن فرحهم وابتهاجهم بكل مناسبة دينية.

ولعلّ أبرز المزارات الخاصّة بالعلويين مقام الشيخ أحمد قرفيص في منطقة جبلة بريف اللاذقية، والذي يعدّه العلويون "أبو النذور"، ففي هذا المزار وحسب الثقافة الدينية للعلويين ينذر الشخص لصاحب المقام بالذبائح إن تحقق حلمه سواء بالسلامة من مرض أو تحقيق نجاح في الحياة، ويسمى مقام الشيخ أحمد قرفيص بالمقام الذي لا تجف دماؤه من كثرة ذبح النذور عند القبر. 

ولمقام زين العابدين بحماة أهمية كبيرة لدى الشيعة والعلويين على حد سواء، ففي مكان المقام المرتفع تقام الاحتفالات والطقوس الدينية والذبائح، وفي هذا المقام أيضاً كانت تقام المحاكم من قبل الشيوخ المسؤولين عن المقام إذ يحضر أطراف الخلاف بكامل رضاهم إلى مقام زين العابدين للاحتكام لدى الشيوخ في الجرائم والجنح.