العطوةُ العشائريّة في العراق.. "هدنة الدم" تسبق القانون
ثمة انتماء روحاني للقبيلة في العراق أبعد من أن يكون صلة نسب فقط، إذ يرى كل فرد أن قبيلته تمتلك التأريخ الأهم، وأنها يجب أن تكون صاحبة الدور الأبرز.
بصرف النظر عن التاريخِ الذي نزحتْ فيه بعض العشائر إلى العراق، إلا أنها باتت ركيزة أساسية في بنية المجتمع وفي بنية الدولة أيضاً.
القوانين العشائرية الشفوية، التي يجري الاتفاق عليها عبر جلسات الشيوخ وهم يشرّعون ويعدلون ويضيفون قوانين ويغيّرون قوانين أخرى بحسب إملاءات الظروف الاجتماعية الاقتصادية والسياسية، هي قوانين تحوز الأثر الأهم في حياة العراقيين وتمتد إلى المدن- الصيغة الراهنة للحداثة- خارج الريف وخارج مضيف الشيخ رئيس القبيلة نفسه.
ثمة انتماء روحاني للقبيلة أبعد من أن يكون صلة نسب فقط، إذ يرى كل فرد أن قبيلته تمتلك التأريخ الأهم، وأنها يجب أن تكون صاحبة الدور الأبرز فيذوب الدين والوطن في لحظة خفية، حالما يرى فرد فرداً آخر من العشيرة نفسها يعتبره ابن عم له، تلك الصلة هي الجانب، الذي يوضح قوة القبيلة ورسوخ دمها في شرايين أفرادها.
ويعد من لا عشيرة له محض وهمٍ أو "مقطوع من شجرة" بحسب التعبير الشائع.
للعشائر قوانين فرضتها الظروف الاجتماعية الغابرة، بعضها يتسم بالقسوة وانعدام الرؤية الواضحة، وبعضها الآخر يبدو منطقياً وملحاً حتى الآن، ومن هذه القوانين هو قانون عام بمعنى أن العشائر تتعامل به من مكان إلى آخر وهو قانون "العطوة".
"العطوة" وجمعها "عطاوي" كلمة مشتقة من الفعل أعطى ومصدرها العطاء، والعطاء هو الخطوة الأولى لدرء الفتنة وحل المشكلة بين طرفين، وتعرف العطوة بأنها الفترة التي تعطى من قبل أهل المجنى عليه لأهل الجاني بعد حدوث الجناية. إذ يقوم طرف ثالث من أهل الجاه والوجه بالتدخل كخطوة أولى لحلّ الأزمة لتُلزم هذه "العطوة" الطرفين عدم الاعتداء، وتترواح مدة "العطوة" بين أسابيع وأشهر حتى تصل إلى سنة كاملة في القتل الخطأ أو القتل العمد، وتبرز في حوادث القتل والشرف غالباً أنها خطوة سابقة وضرورية لإخماد النار قبل انتشارها.
أمير زُبيد السيد معد جاسم مزهر السمرمد، زعيم قبيلة عراقية، يقول للميادين نت: "العطوة هي هدنة للسلم وبداية لحل المشكلة وفق الأعراف المعمول بها".
ويضيف: "الطرف الثالث الذي يتدخّل للحل عادة ما يكون أحد السادة الأشراف الذين يرجع نسبهم إلى النبيّ أو إلى أهل بيته أو يكون أحد رؤساء العشائر الكرام. وإذا كانت القضية قضيةَ قتل، ولها تبعات قانونية، وفيها مطلوبون للقضاء، فثمة من يشترط تسليم المتهمين للقضاء في مدة "العطوة"، ويمكن تمديدها بحسب الطلب المقابل لتسليم المتهمين ثمّ يحدّد الوقت للجلوس وحلّ المشكلة" .
يتّضح من ذلك أن "العطوة" هي واحدة من الإيجابيات، التي صنعها القانون العشائري لا سيما في ظل غياب المشرّع المدني وسلطاته المعنية، يؤكّد مشايخ عشائر دويجات التابعة لإمارة زبيد الشيخ فاضل المحيسن والشيخ سهيل المحيسن، أن العطوة هي مقدّمة للصلح العشائري تمنح الطرف المعتدي من طرف المعتدى عليه بواسطة طرف ثالث، يكون محط ثقة لدى الطرفين، ويتعين ألا يكون مرتبطاً بصلة نسب مع الطرفين.
فـ"العطوة" إذن هدنة يجرى عبرها التوصّل إلى حل نهائي للنزاع العشائري، إذ يمتنع المصلحون وأصحاب الجاه والوجه- بحسب التعبير العشائري- من شرب الشاي أو القهوة إلا بعد أخذ الأمان من أهل المجنى عليه وبعد ذلك يتوصّل الطرفان إلى حل سلمي عن طريق دفع الدية أو ما يسمّى الفصل لتغلق القضية العشائرية وتطوى شفوياً.
ويدعم هذا الرأي شيخ قبيلة جحيش، السيد مغير النصر، بقوله للميادين نت: "العطوة هي بداية للصلح العشائري، وهي صلح موقّت تتراوح مدته بين أسبوع وعشرة أيام وأشهر أحياناً، تمنح للطرف المعتدي أو صاحب الذنب من طرف المعتدى عليه بواسطة طرف ثالث يتزعّم الصلح وهو الذي سيكون مسؤولاً عن جلب الطرف المعتدي في فترة "العطوة" عبر وفد كبير يسمّى "المشية" ومن خلاله يقوم أهل الطرف الجاني المعتدي وذووه بتقديم الدية المتّفق عليها وإتمام الصلح".
وبينما يرى رئيس قبيلة بني عجيل صالح عمران الزنبور أن "العطوة" هي لغة التفاهم لإنهاء النزاع بين الطرفين والاستعداد لحل المشكلة، فإن للقانون رأيه فيما يخص هذه الإجراءات الفورية، التي تلجأ إليها القبيلة للحفاظ على السلم ومنع إراقة الدم، إذ يوضح وليد عبد الحسين جبر، المحامي والإعلامي، عبر صفحة "مسارات قانونية" في فيسبوك ويوتيوب - الوجهة القانونية – فيقول: "ينظر القانون العراقي نظرة إجلال واهتمام إلى القبائل والعشائر لما لها من دور في الحفاظ على الأمن والسلم المجتمعي ومعاونة السلطات القضائية في حلحلة المشكلات، وإلى ذلك أشارت المادة (45) من الدستور الدائم لجمهورية العراق عام 2005 في البند الثاني منها فنصت على التالي: تحرص الدولة على النهوض بالقبائل والعشائر العراقية، وتهتم بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون، وتعزّز قيمها الإنسانية النبيلة، بما يسهم في تطوير المجتمع، وهي تمنع الأعراف العشائرية، التي تتنافى وحقوق الإنسان".
لذلك فإن القانون والقضاء في العراق يحترمان الأعراف والتقاليد العشائرية، بما لا يعارض الدستور والقانون، خصوصاً في الجرائم الجنائية، التي تتدخّل العشائر في إنهاء آثارها من حيث إعطاء ذوي القتيل الدية ويسبق جلسة "الفصل العشائري"، التي هي تشبه إلى حد كبير جلسة المرافعة في المحكمة، فيحكم شيوخ القبائل والعشائر بمقدار الدية، التي يجب دفعها من عشيرة المعتدي إلى ذوي المعتدى عليه وهذه الجلسة تسبقها ما يعرف بـ"العطوة".
ويوضح جبر للميادين نت قائلاً:" إن الشكوى الجزائية، التي تقدّم إلى محكمة التحقيق تتضمّن اتخاذ الإجراءات الجزائية ضد مرتكب الجريمة وفرض العقوبة عليه، وتتضمّن الشكوى التحريرية الدعوى بالحق المدني (التعويض المالي) ما لم يصرّح المشتكي بخلاف ذلك. وعند حصول الجلسة العشائرية، ودفع "الفصل" العشائري فإن المشتكي سوف يتنازل يقيناً عن شكواه، والتنازل عن الشكوى يستتبعه تنازل المشتكي عن حقه الجزائي، ولا يستتبعه التنازل عن الحقّ المدني ما لم يصرّح بذلك".
ويختم حديثه مبيناً أن التنازل عن الحق المدني لا يستتبع التنازل عن الحق الجزائي إلا في الأحوال التي ينص عليها القانون أو إذا صرّح المشتكي بذلك، وهو لا يؤثّر في دعوى الحقّ العام في أي حال، ما يعني أن حصول الجلسة العشائرية ودفع "الفصل" العشائري اللذين تتقدمهما "العطوة" العشائرية، أمر له تأثير في الإجراءات القانونية من حيث تخفيفها أو تشديدها بخصوص مدة العقوبة أو الحكم المحدّد للجريمة قانوناً.