السوريون في الساحل يحيّنون أفراحهم مع موسم جني الزيتون

يحتل موسم الزيتون مكانةً كبيرة في حياة عائلات الساحل السوري، فهو مهمّ لهم من الناحية الاقتصادية لأنهم ينتظرونه كي يخزّنون مؤونة بيوتهم.

  • السوريون في الساحل يحيّنون أفراحهم مع موسم جني الزيتون
    السوريون في الساحل يحيّنون أفراحهم مع موسم جني الزيتون

تعودُ زراعة الزيتون في الساحل السوري إلى أزمنةٍ متوغلة في القدم، حيث عُثر في مملكة أوغاريت الأثرية على رسوم ولقى أثرية وجرار زيت زيتون، كانت تُملأ وتصدر إلى بلدان حوض المتوسط، كما أن زيت الساحل السوري كان ثميناً يُتاجر به مثل الجواهر والمعادن.

ويحتل موسم الزيتون مكانةً كبيرة في حياة عائلات الساحل السوري، فهو مهمّ لهم من الناحية الاقتصادية لأنهم ينتظرونه كي يخزّنون مؤونة بيوتهم من زيتون المائدة ومن زيت يستخدمونه في مأكولاتهم، من دون سائر الأنواع الأخرى.

أما من الناحية الاجتماعية، فتفرغ المدن من سكانها وتكثر الإجازات الجماعية من الوظائف، لتذهب الأسر إلى قراها لجني المحصول، ويروي الآباء لأبنائهم كثيراً من الحكايا عن الذكريات والمواقف وأغاني الميجانا والمواويل التي ترافق هذا الموسم.

وكانت سوريا قد احتلت المرتبة السابعة عالمياً في إنتاج زيت الزيتون عام 2018، فيما كانت تحتل المرتبة الرابعة عالمياً قبل عام 2011 بـ200 ألف طن.

كل خطط الزواج والشراء.. مرتبطةٌ بالموسم

بعصاه القصيرة والصلبة، "يضرب" أبو حيدر ثمار الزيتون القريبة من متناول يده "ضربة تجريبية"، فتسقط على مجموعة من الأغطية وأفرشة النايلون، التي وضعت تحت الشجرة مغطية كامل مساحتها ويقول للميادين نت: "هذه العصا نسميها ناتورة، وهناك نوع آخر أيضاً نسمّيه "راط"، يكون طويلاً ومرناً فنستخدمه لضرب الحب في أعالي الشجرة، الذي لا تصل إليه الأيدي".

يبدي الرجل السبعيني عدم رضاه عن استعانة أبنائه بعدد من العمال في قطف الزيتون، ويشرح: "كانت الدنيا خيّرة على زماننا، فكان الموسم فرصة لتجتمع القرية كلها، ويساعد أهلها بعضهم بعضاً، فلا نحتاج إلى أحد من الخارج، وكلٌ يستفيد من الموسم".

يستعد الناس لموسم القطاف قبل أشهر من نضج الثمار، إذ يعمد المزارعون بحسب أبو حيدر إلى "تقليم الأشجار بشكل دوري، والاعتناء بنظافة الأرض، ونزع الأعشاب الضارة والأشواك التي تقف حائلاً دون التقاط الثمرة، أو التي تدمي اليدين في أثناء جمع المحصول".

يجلس ابن قرية كفريا في ظل شجرة، قطف العمال ثمارها، يراقب السماء من بين الأغصان ويقول: "تأخرنا هذا العام في القطاف بسبب تأخر نزول المطر، الوقت الملائم في العادة يكون بين شهري تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر هنا في اللاذقية، لا يمكننا أن نبدأ إلا بعد نزول المطر ولو مرة واحدة على الأقل كي تمتلئ الثمار بالزيت، وكي تغتسل الأشجار وتنظف من الغبار والحشرات وتلين غصونها الجافة".

يستذكر أبو حيدر كيف كانت الحياة الاجتماعية في قريته مرتبطة تماماً بمواسم الزيتون والزيت، "فزواج الأبناء والأعراس والأفراح، وشراء الآلات والجرارات والحيوانات والأثاث المنزلي وغيرها، تكون في الموسم، أو بعد جني المحصول وبيعه في الأسواق".

الجد لخمسة أحفاد يبدي تفاؤله بموسم جيد هذا العام بعد "سنة معاومة"، وظروفٍ متعددة من قلة أمطار وجفاف للتربة.

ينفث الدخان من لفافة تبغه العربي، ويختم: "من يوم ما إجت الحرب ما شفنا الخير".

الزنانة.. تقليد أهل إدلب المتوارث

أمام بيتها الريفي في مشقيتا، تجلس أم أحمد وتفرز الزيتون الذي قطف حديثاً والذي سوف يخصّص للمائدة، فتضع الحبوب الكبيرة في جانب والسوداء في جانب آخر، وتشرح للميادين نت: "الزيتون فنون، فقسم أبقيه عندي في البيت، أغسله وأحليه بـ"القطرونة" ونسميه بلهجتنا الإدلبية "المكلوس"، نرسل جزءاً آخر إلى الكسارة، ثم نضعه في الماء ونضيف إليه الليمون، وهذا النوع يسمى "المكسّر"، أما النوع الآخر والكبير فهو "المجرح" إذ نقطعه بالسكين إما بشكل طولي أو عرضي، ويوضع في ماء الحمض، وبعض الأنواع ينزع لب الثمرة ويوضع الفلفل الأحمر والمكسرات ويترك في الزيت".

وقبل حلول موعد الغداء، تجهّز المرأة الخمسينية "زوادة" الطعام كي تأخذها إلى زوجها الذي يعمل مع الجيران في قطاف محصولهم، وتقول: "الماء البارد أولاً.. وأضع كل ما توافر من الحواضر أو الطعام الذي لا يحتاج إلى وقت طويل لإعداده، مثل البيض المسلوق والبطاطا المسلوقة والبندورة والخيار والمكدوس وبعض الزيت والملح والخبز".

لموسم قطف الزيتون مكانة خاصة في قلب ابنة إدلب، فقبل أكثر من ثلاثين عاماً تعرفت إلى زوجها في أثناء العمل في الأرض، وتضيف: "في الماضي كانت الصبايا تتزين قبل الذهاب للقطاف، فالموسم كان يعد فرصة ذهبية لإيجاد العريس أو العروس، حتى إنه كان يعد بمثابة موعد غرام للقاء العاشقين، فكانت الإشارات والإيماءات والضحكات تملأ المكان".

تضحك أم أحمد وتغمز بعينها ثم تقول: "لا تذكري هذا الموضوع أمام أبو أحمد، فهو لا يحب ذلك، لربما يخجل".

يعمل أبو أحمد بجدٍّ وجهد لافتين بالنسبة إلى رجل في عمره، وذلك بشهادة أصحاب الأرض والعمال جميعاً، لكن كل هذا "لا يعني شيئاً" بالنسبة إلى الرجل الذي هُجّر من بيته، وسُلب أراضيه وأرزاقه.

يرتشف قليلاً من الماء البارد الذي أحضرته زوجته، ويقول للميادين نت: "أنا من جسر الشغور في ريف إدلب، وانتقلت إلى الإقامة بين هؤلاء الناس الطيبين منذ أكثر من سبع سنوات، ومثلي مثل كثيرين من أبناء قريتي، انتهت بي الحال عاملاً في أراضي الآخرين بدلاً من أرضي كي أعيش وأطعم أسرتي".
 
ثمة كثير من العادات المشتركة والاختلافات بين المحافظتين فيما يخص موسم قطاف الزيتون، لكن الأفضلية تبقى "لمسقط الرأس والقلب" كما يطلق ابن إدلب على قريته، ويشرح: "تعودنا كل عام أن نقوم بالـ"زنانة" كتقليد متوارث، وهي عبارة عن رغيف خبز كنا نجلبه ساخناً من التنور أو المخبز مباشرة، ونضع عليه حبات الرمان لكون موسمه يزامن موسم قطاف الزيتون، ثم نسكب فوقه الزيت الطازج المعصور حديثاً، ونقوم بإطعام العاملين في الحقل والمعصرة وكل الحاضرين منها، كانت أيام خير وكرم فبكل بساطة كان من الممكن أن يصل استهلاك الزنانة إلى نحو 5 كيلوغرامات من الزيت".

"جورة جهنم".. في معصرة الزيتون!

ينهمك مصطفى بدّور صاحب إحدى معاصر الزيتون في ريف الحفة في مناقشة عدد من الفلاحين، في أجرة عصر الكيلوغرام الواحد التي حدّدتها المحافظة بـ200 ليرة سورية في حال كان العرجوم الناتج عن عملية العصر لصاحب المعصرة، وبـ250 ليرة سورية في حال عودة العرجوم إلى المزارع.

"الطرفان غير راضيين" يقول مصطفى، مشيراً إلى آلاته الحديثة التي تختلف عن سابقاتها، ويضيف: "إنها أكثر سرعة بمعدل 4700 دورة في الدقيقة، وأعلى نظافة وجودة، فضلاً عن زيادة إنتاجها وقلة هدرها، حيث تستخرج ما يزيد على 98% من زيت حبة الزيتون، لاعتمادها على تقنية الطرد المركزي".

أما عن الطرق التقليدية القديمة التي استخدمت قديماً، فيقول بدور: "كانت تدعى "العجول" وهي عبارة عن أسطوانتين حجريتين كبيرتين متصلتين بمحور، تطحنان الزيتون إلى درجة معينة، لكنها متعبة وبطيئة وتهدر نحو 20% من الزي".

ينهي الرجل الأربعيني الذي ورث المعصرة عن والده مفاوضاته مع الفلاحين بجملة "الحمدلله اللي راحت أيام حكاية جورة جهنم"، ويشرح: "انتشرت في الماضي أسطورة بين الفلاحين مفادها أن صاحب المعصرة يقوم بتمديد أنبوب خفي يصل بين قعر الحوض الذي يتجمع فيه الزيت، وبين حفرة أخرى يكون صاحب المعصرة قد أعدها خصيصاً لذلك، وبالتالي سرقة جزء من الزيت خلسة عن صاحب المحصول، وهنا يحصل تبادل اتهامات عديدة داخل المعصرة، حيث يصر المزارع في أحيان كثيرة على أن كمية الزيت ناقصة ولا تتوافق مع سمعة أرضه ومحصوله، وهنا يغلظ صاحب المعصرة الأيمان أن يده لم تمتد إلى الزيت، لكن يكون قصده أن الزيت لم يسرقه بيده بل بالخرطوم".

"زيت الخريج" سرّ أهل جبلة.. إلى الواجهة من جديد

إن الزائر لقرى ريف جبلة في مثل هذا الوقت من كل عام، لا بدّ أن يشاهد أمام أغلب البيوت أوعية كبيرة فوق مواقد الحطب، قد يخطر في بال الزائر احتمالات كثيرة عما تحويه تلك الأوعية، لكن حتماً لن يكون الزيتون أحدها.

الحقيقة أن هذا مشهدٌ مألوف في تلك القرى، وهو جزء من عملية استخراج "زيت الخريج" من حبوب الزيتون المسلوقة، "ويعود تاريخ هذه العملية إلى زمن قد يكون أقدم من عهد أوغاريت، كما أنه كان يصدر إلى عدد من الدول الواقعة ضمن حوض البحر المتوسط، والدليل على ذلك أنه عثر ضمن مقابر فرعونية في مصر على جرار تخزين مستوردة من الساحل السوري وغالباً من سهل جبلة"، بحسب السيدة مُهجة صقر ابنة قرية الصنوبر.

وتشرح المعلمة المتقاعدة للميادين نت طريقة الحصول على هذا النوع من الزيت قائلة: "ننقل الزيتون المسلوق إلى سطوح المنازل باستخدام القفير الذي يُصنع من أعواد الريحان، ثم تُفرش الحبوب وتُغطى، لتُكشّف بعد أيام وتترك لتجفّ تحت أشعة الشمس، نحو عشرة أيام ثم تُجمع في أكياس خيش، وتنقل إلى المعصرة".

لا يبالي السكان بالكلام التحذيري الذي يقوله مكتب الزيتون في وزارة الزراعة كل عام حول عدم صلاحية هذا النوع من الزيوت للاستهلاك البشري، لكون حموضته تزيد على 5% أي هي أعلى بنحو 2% من النسبة التي تسمح بها منظمة الصحة العالمية.

وتختم السيدة الستينية: "كاد استخدام هذا الزيت ينقرض في أيام الرخاء، أيام عز ما قبل الحرب، نحن وأجدادنا اعتدنا تناوله ولم يصبنا شيء، ثم كيف يريدون منا عدم استخدامه، وأسعار الزيت العادي محلّقة، ولا قدرة لنا على شرائه برواتبنا الحكومية التي تكفينا أجور طرقات فقط".