السلطة للجامع والجماعة.. ماذا تعرف عن تقاليد "مدينة الأمازيغ الفاضلة"؟
سكّان "وادي مزاب" في الجزائر يمتلكون سلطة روحية مطلقة على السكان، يتخذون من المسجد مقرّاً، ومن المقبرة خُلوة لعقد اجتماعاتهم، ويعيشون في مدينة لا حكم فيها يعلو فوق حكم الجامع والجماعة (المسجد والعشيرة).
يعتبرون مدينتهم التي تأسّست قبل 11 قرناً "نسخة إسلامية عن مدينة أفلاطون المثالية"، يُطبقون عليها "حكم الشورى" ويُلزمون أتباعهم بالسير على "نهج الإسلام" في معاملاتهم ويومياتهم.
يمتلكون سلطة روحية مطلقة على السكان، يتخذون من المسجد مقرّاً، ومن المقبرة خُلوة لعقد اجتماعاتهم، ومن حجارتها مقاعد لمجالسهم لتذكّرهم بالموت، فيحرصون على العدل في حكمهم بين الناس.
يحفظون نظاماً عرفياً فريداً قائما منذ قرون، يُعتبرون ورثة "الدولة الرستمية"، و"حرّاس" مذهبها الإباضي في منطقة المغرب العربي الكبير.
من هم سكّان "وادي مزاب" في الجزائر؟
"حلقة العزّابة".. سلطة الجامع والجماعة
مدينة لا حكم فيها يعلو فوق حكم الجامع والجماعة (المسجد والعشيرة). حكم هيئتي "حلقة العزابة" و"ظُمّان العشائر" الذي يسري على كل فرد وكل شبر فيها، من دون استثناء.
هي مدينة في قلب الصحراء الجزائرية، من سبعة قصور (تجمّع عمراني صحراوي)، تلتفّ حول "وادي مزاب"، الذي يبثّ الحياة فيها، وينشر السلام بين العرب والأمازيغ، المتعايشين منذ مئات السنين. هنا في "غرداية"، حاضنة الإباضيين وموطنهم، بعد سقوط الدولة الرستمية سنة 296 هجري- 909 ميلادي.
تشدّك إليها هذه المدينة المصنّفة ضمن التراث الإنساني العالمي المحمي من "اليونيسكو"، بنمطها العمراني الفريد، ونظامها العرفي الذي لا يزال سارياً وصامداً أمام تغيرات الزمن، وظهور هيئات نظامية قانونية وإدارية لتسيير الشأن العام.
ككلّ المجتمعات الأمازيغية، كان أفراد المدينة قبل ذلك يحتكمون لسلطة الجماعة، "ثاجمعث" (مجلس إدارة تقليدي في القرى الأمازيغية الجزائرية) لدى القبائل، و"ثاعشيرث" عند المزابيين، و"إعمّارن" في بلاد الشّاوية، وهي مجموعة من أعيان أهل القرية ومشايخها تُقرّر في أمر العامّة، وتفصل في النزاعات والخصومات.
وبمجيء فلول الرستميين والإباضيين، وانتشار مذهبهم في أرض الشبكة (المنطقة المحيطة بوادي مزاب)، انتقلت السلطة الروحية العليا من "ظُمّان العشائر" إلى "حلقة العزّابة".
"العزّابة".. حلقة الزّهاد التي حمت الإباضية من الاندثار
"حلقة العزّابة" هي "هيئة دينية تتّخذ من المسجد مقراً لها، موجودة في كل مدينة أو قرية من قرى وادي مزاب"، مثلما يعرّفها للميادين نت الباحث في التراث المزابي ومدير مؤسسة "إنسان لأبحاث الفكر والمجتمع" يحيي أزغار.
وقد سُمّيت كذلك "لعزوب أعضائها عن الدنيا ومظاهرها البراقة وملذاتها، والانصراف لخدمة المذهب والمجتمع الإباضيين، والدعوة إلى الصلاح، وتوجيه الناس وإرشادهم إلى الدين الإسلامي، وما فيه المصلحة الجماعية".
تأسست حلقة العزابة وفق أزغار في وادي مزاب، "لتعوّض الإمامة أو قيادة الأمة والمجتمع، بعد سقوط الدولة الرستمية في تيهرت - محافظة تيارت حالياً، غرب العاصمة الجزائر - ونزوح أتباعها جنوباً". مضيفاً أن "تأسيسها كان في القرن الرابع الهجري، والعاشر الميلادي، على يد الإمام أبو عبد الله محمد بن بكر الفرسطائي، الذي ولد بليبيا، وتوفي ودفن بالجزائر (المغرب الأوسط آنذاك)".
ووفق أزغار فإنّ "لحلقة العزابة نظاماً وتقاليد ومنهجاً خاصاً تسير عليه، تعرف بسِيَّرِ العزَّابة، وهي ما يُعبَّر عنها حديثاً بالنظام الداخلي، وعلى أساسه توزَّع المسؤوليات بين أعضائها".
كما أنها "تعمل بالتنسيق مع ظُمّان العشائر من الأعيان وكبار القوم، وأقدم اتفاقية مكتوبة بين الطرفين مؤرخة عام 1405 ميلادي، وفيها تحدّدت القوانين التي تسيّر المجتمع المزابي، والعقوبات المترتبة على مخالفتها".
تمثّل الهيئتان وفق يحي أزغار "ركيزتين أساسيتين لتسيير المجتمع، تشرف الأولى وهي العليا على الشؤون الدينية والفكرية، وتتفرّع عنها هيئة الطُّلبة، وهم حفظة القرآن الذين يقفون على تنفيذ قرارات الحلقة. بينما تتولّى الثانية الجانب الاجتماعي، ويتفرّع عنها العْوَام وهم أعين الظُمّان التي تراقب العشيرة، وتسهر على احترام أعرافها وتقاليدها".
وللنساء أيضاً حلقتهنّ الخاصة، تسمّى "ثيمسيريدين" باللهجة المزابية، وتتولى مهمة الفتوى والتعليم القرآني والفقهي للمجتمع النسوي، وتبليغه قرارات حلقة العزابة.
"التخلّف عن حلقة العزابة فرار من الزحف"
تتكوّن العزّابة من 12 عضواً: شيخ الحلقة، المؤذن، الإمام، والوكيل، وهم بمثابة مستشارين مكلفين بالأوقاف وبيت المال.
إلى جانب 5 غسّالين مكلّفين بالجنائز والدفن، و3 "فُقْيان" ويسمّون أيضاً "العُرفاء"، ودورهم تعليم الصغار في "المحاضر"، وهي أقسام لتلقين الأخلاق وتعليم القرآن والفقه واللغة العربية وآدابها. وتشترك الحلقة النسوية في المهام ذاتها، مع سقوط الإمامة والآذان.
في هذا السياق، يقول الباحث في التراث ومدير "معهد الحياة للتعليم القرآني" صالح بن أحمد أبو العلا لـلميادين نت، إنّ "العضوية في حلقة العزابة فرض على من وقع عليه الاختيار، لا يجوز رفضه، ومن يفعل يعتبره القوم عاصياً كالفارّ من الزحف.. والانتساب للحلقة ليس متاحاً لأيّ كان، بل لمن توفرت فيهم الشروط ونجحوا في الاختبار".
أما الشروط، بحسب ابن أحمد أبو العلا هي "أن يكون حافظاً لكتاب الله تعالى، مشمِّراً في طلب العلم، ومن عُمّار المسجد، مواظباً على صلاة الجماعة، مثالاً في التقوى والصلاح والاستقامة، بعيداً عن مواقع الشبهات من المحرّمات، محصّناً بالزواج غير أعزب، نائياً بنفسه عن الفتنة والفوضى".
كذلك أن "يكون عادلاً في أحكامه، حكيماً في قراراته، كيِّساً أديباً ذا رأي سديد، حافظاً لسِيَر ونظم الحلقة ومحافظاً عليها، وأيضاً صاحب مهنة أو حرفة، لا يكثر ارتياد الأسواق".
وأما كيفية الاختيار عندما يحتاج مجلس العزابة عضوا جديدا إما لوفاة أحد أعضاءه أو لعجزه عن القيام بمهمته، ينتقون بالتشاور بينهم الشخص المستوفي للشروط المطلوبة، ويعينون أحدا منهم يراقبه سرّا مراقبة دقيقة، من دون أن يشعر بذلك هو أو أحد سواه.
تدوم المراقبة ثلاثة أشهر على الأقل، ويمكن أن تستمرَّ سنة أو أكثر إذا اقتضى الأمر ذلك. وإذا أثبتت المراقبة أن الشخص المرشّح أهل ليكون "عزّابياً"، تستدعيه الحلقة للمثول أمام مجلسها في المسجد العتيق، من دون أن يعلم سبب استدعائه.
عند الحضور يبلّغه شيخ العزابة الذي يرأس الاجتماع عن سبب استدعائه، فيقول: "لقد اتفقنا يا فلان أن تتحمّل معنا هذا العبء الثقيل، وهذه المسؤولية الشاقة في مرضاة الله، وقد جاء دورك الآن".
يتعرّف الوافد الجديد بعدها إلى مهامه "المقدّسة"، ويستمع إلى نصائح توجيهية. يدعوه شيخه "ليكون في مستوى وظيفته الجديدة الرفيعة، ويجتهد في صلاح المجتمع وخدمة الأمّة وترقيتها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون القدوة الحسنة في مجتمعه".
ثمّ يسأله عن رأيه: هل يقبل هذا التكليف أم يرفضه؟ لا يمتلك "العزابي" خياراً غير القبول، وعندها يتعهد بالعمل والإخلاص، فيفسحون له بينهم لينضم إلى الحلقة.
أمّا "إذا رفض وأصرّ على الرفض، فإنه يُعلن عاصياً كالمتولّي يوم الزحف، ويهدّده الشيخ بالعقوبة التي يخشاها الجميع.. إدخاله في البراءة".
التمرّد عن العرف خروج عن الشرع
لإعلان البراءة طقوس خاصة، كما يصفها عضو حلقة عزابة قصر "آث يزقن" ورئيس "جمعية آميدول الخيرية" أحمد بن محمد نوح للميادين نت: "قبل صلاة العصر يعتلي الإمام (شيخ الحلقة) منبر المسجد العتيق، معلناً بلسان مزابي أن: فلان بن فلان يَلّاَ التَّبْرِيَتْ نِ إِمْسَلْمَنْ". أي "فلان ابن فلان في براءة من عقيدة المسلمين، وكل من يتعامل معه فإنه في حكم البراءة مثله".
ويضيف نوح: "تعدّ البراءة في المجتمع المزابي أمراً جللاً، ترتعد له العشائر، وترتجف له قصورها السبعة، فهي تعني أن أحدهم تجاوز حدود الله وأتى منكراً كبيراً، أو تطاول على أعراف المجتمع، والعرف في وادي مزاب في مرتبة الشرع".
المُجاهر منبوذ والمتحرّش منفي خارج المدينة
منذ لحظة الإعلان، يحرّم على المتبرئ منه دخول المسجد والصلاة فيه، وتُمنع التجارة معه، فلا يباع له ولا يبتاع منه. ولا تجوز مصاهرته، فلا يُزوّج إن كان أعزباً، ولا يتزوج من بناته، وتُمنع عنه زوجته، فتحزم أمتعتها وتعود إلى بيت أهلها، وإلا فإنها ستصبح في حكمه متبرّأ منها.
وقد تطاله عقوبات أخرى حسب نوع مخالفته، فيدفع غرامة مالية إذا غشّ في تجارته، أو يُنفى من المدينة لفترة معينة إذا تحرّش بامرأة، أو يحبس في سجن بجوار المسجد إذا جاهر بسُكْر أو تعاطي المخدّرات.
يصير المُذنب "منبوذاً" بحكم "البراءة"، حتى يتوب عن ذنبه، ويردّ المظالم، ويعتذر لمن أذنب في حقه، ولضامن عشيرته، وشيخ حلقته.
ثمّ يتقرب من الإمام قبل صلاة العصر، ويقرّ التوبة بين يديه، فيعلن الإمام أن "فلاناً في ولاية المسلمين"، ولا ضير في التعامل معه.
نموذج استثنائي
في حديث للميادين نت، يؤكّد الباحث في التراث المزابي إبراهيم رمضان، أن "نظام العزّابة أسّس لمدينة استثنائية، تتميّز عن باقي مدن الأمازيغ".
مبانٍ متقاربة المساحة والارتفاع، نظام سقي (نظام الفقّارة باللهجة المحلية) يقسّم الماء بالتساوي بين العائلات، ولباس تقليدي موحّد للحياة اليومية وآخر للمناسبات الدينية والاجتماعية.
سقف محدّد لمهر الزواج لا يجوز لأسرة العريس تجاوزه، ولا لأسرة العروس اشتراط ما يزيد عنه، أطباق متفّق عليها في الولائم كما المآتم لا يمكن تبديلها إلا بإذن "الحلقة".
"التطاول في العمران والتباهي بالمظاهر محرّم في عرف العزّابة، ليبدو الجميع سواء: فقراء وأغنياء، بالكاد يميّز الغريب تفاوتاً بين الطبقات الاجتماعية المختلفة"، وفق رمضان. كذلك فإنها مدينة لا يدخلها عاصٍ ولا مجاهر بالذنب، ولا يعيش فيها تارك صلاة.
بالإضافة إلى أنه "لا يبيت فيها ظالم ومظلوم، لا يجوع يتيم، ولا تحتاج أرملة أو مطلقة لأنها في وَلاية الحلقة والعشيرة. ولا يحجب جارٌ ببنائه السكني الشمس عن جار، ولا تطلّ شرفته على حرمة بيته، ومن يفعل يطاله عقاب العزابة وتلحقه لعنة العشيرة".
ويرى عبد الرزاق قسوم، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في تصريح لـلميادين نت أن "للجماعة والعشيرة والعزّابة سلطة تفوّقت على سلطة القانون والقضاء، لأن هذا الأخير تسلّل إليه الفساد، وكثر فيه الاجتهاد والتأويل، بينما تقومّ الأولى على مبدأ: يد الله مع الجماعة، وتستند في أحكامها على العقيدة الإسلامية، ومبدأ الشورى، وتوحيد الكلمة، وجمع الصفوف، والإصلاح بين المتخاصمين، والمقصد من ذلك حماية المجتمع من الخطأ، وتصحيحه إذا وقع".