الخرطوم.. بلاد النيلين تئنّ تحت وطأة العطش

في مفارقة محزنة، تثار التساؤلات بصورةٍ مستمرة لدى الأوساط المحلية حول دواعي العطش في الخرطوم، حيث يلتقي النيلان الأبيض والأرزق، فيما تعزو السلطات الحكومية هذا النقص إلى تعطل بعض محطات الإنتاج خلال فصل الصيف.

  • الخرطوم.. بلاد النيلين تئنّ تحت وطأة العطش
    الخرطوم.. بلاد النيلين تئنّ تحت وطأة العطش

في الخرطوم، يلتقي النيلان الأبيض والأرزق، ليرسما لوحة كونيّة متناهية الجمال، قبل أن تتدفق مياهها العذبة في نهر النيل الذي يغطي رقعة واسعة من عاصمة السودان. ومع ذلك، تعيش البلاد على وقع أزمة حادة في مياه الشرب لأشهر، في مفارقة محزنة تثير التساؤلات بصورةٍ مستمرة لدى الأوساط المحلية عن دواعي العطش في هذه المدينة الخضراء.

وتكشف إحصاءات رسمية وجود عجز في مياه الشرب في ولاية الخرطوم التي يسكنها نحو 13 مليون شخص بنسبة 200 ألف متر مكعب، أي ما يعادل حوالى 200 مليون لتر. وتعزو السلطات الحكومية هذا النقص إلى تعطل بعض محطات الإنتاج خلال فصل الصيف، وحاجة محطات أخرى إلى صيانة دورية، وهو ما لم يتوفر بسبب شح الميزانيات المخصصة لهذا الغرض، فضلاً عن تزايد الكثافة السكانية في العاصمة.

هذه المُبررات لم تكن مقنعة للعديد من سكان الخرطوم والفاعلين في المشهد السوداني، الذين يرون أن أزمة المياه بالعاصمة تعكس فشلاً حكومياً ذريعاً، قبل أن يبدوا سخطهم الواسع على السلطات المعنية ببلادهم لإهمالها هذا الملف الخدمي المهم، وسط دعوات لإقالة كل المسؤولين الحاليين في القطاع، واستبدال آخرين بهم، يمتلكون الكفاءة لمعالجة هذه المشكلة.

وما تزال عاصمة السودان تعتمد على العربات البدائية "الكارو" لمواجهة أزمة مياه الشرب في الأحياء السكنية، بواقع 6 آلاف جنيه سوداني للبرميل الواحد (نحو 11 دولاراً)، الشيء الذي زاد تكاليف الحياة على سكان المدينة، في ظل أوضاع اقتصادية طاحنة تمر بها البلاد.

عبء إضافي

  • أزمة المياه ليست جديدة على سكان الخرطوم. وقد ظلت تتكرر مع حلول فصل الصيف في كل عام
    أزمة المياه ليست جديدة على سكان الخرطوم. وقد ظلت تتكرر مع حلول فصل الصيف في كل عام

ويشتكي سكان الخرطوم من انقطاع متكرر لمياه الشرب داخل المنازل لفترات طويلة قد تمتد إلى أسابيع وشهور، الأمر الذي يدفعهم إلى تغطية حاجتهم من المياه عن طريق شرائها من أصحاب العربات البدائية، وبأسعار عالية، وهو ما يشكل عبئاً إضافياً لا يطاق.

يقول أحمد عبد الله، أحد سكان أم درمان، إنه يضطر إلى السهر بشكل يومي أملاً في قطرات مياه قد تأتي ليلاً تروي عطشهم، فيتحقق حلمه تارة، ويخيب ظنه في كثير من الأحيان، فيمضي لسد حاجته من المياه التي تباع بأسعار باهظة تفوق طاقته، لكنه مجبر على ذلك، لأن الحياة لا تسير بلا ماء، بحسب وصفه.

ويضيف عبد الله في حديثه إلى الميادين نت: "أزمة المياه ليست جديدة على سكان الخرطوم. وقد ظلت تتكرر مع حلول فصل الصيف في كل عام، ولكن لا توجد إرادة حقيقية لمعالجتها، ونعتقد أنَّ الدولة متقاعسة جداً تجاه هذا القطاع، إذ إنها تكتفي بالفرجة، وكأنها تتلذذ بمعاناة المواطنين".

ويتابع: "من المحزن أن نعاني العطش والمياه متدفقة من حولنا. الأمطار التي تهطل بكميات كبيرة في موسم الخريف. يجب أن يتحلّى مسؤولو هيئة المياه وكل القائمين على  هذا القطاع الحيوي بالمسؤولية، ويعترفوا بفشلهم. إن الدولة تسند هذا الملف إلى أشخاص يمتلكون القدرة على حل هذه المشكلة بشكل جذري".

من جهته، يقول إبراهيم الطاهر (37 عاماً) إن الدولة تنهب المواطنين، إذ يقومون بدفع فاتورة شهرية للمياه قهراً، في حين لا تتوفر هذه الخدمة، فالإمداد يكون مقطوعاً لأسابيع وأيام. وقد قامت السلطات الحكومة بربط جبايات المياه بشراء الكهرباء، حتى لا يمتنع المواطنون عن دفعها.

ويضيف الطاهر في حديثه إلى الميادين نت: "ندفع فاتورة المياه للدولة، ونضطر إلى شرائها من عربات الكارو بأسعار عالية. هذا ليس عدلاً. كما أنّه يشكل ضغطاً كبيراً على كثير من العائلات الضعيفة. وإلى جانب ذلك، إنّ وضع مياه الشرب في الخرطوم لا يعكس الوجه الحضاري لعاصمة بلادنا التي ينبغي أن تكون منارة للاستقرار الأمني والخدمي".

واقع مخجل

  • هناك 13 محطة نيلية في العاصمة تنتج نحو 950 متراً مكعباً في الخرطوم، إلى جانب 1400 بئر ارتوازي
    هناك 13 محطة نيلية في العاصمة تنتج نحو 950 متراً مكعباً في الخرطوم، إلى جانب 1400 بئر ارتوازي

يرى الخبير الاقتصادي أحمد خليل أنّ من المخجل أن يعاني سكان الخرطوم العطش، في حين تمر بالمدينة أعظم 3 أنهر على مستوى العالم، تحمل مياهاً عذبة صالحة للشرب والاستخدامات الأخرى في كل فصول السنة. ويقول: "إننا نشعر بخيبة أمل وحزن كبيرين على هذا الفشل، الذي سوف يجلب لنا سخرية العالم".

ويقول خليل خلال حديثه إلى الميادين نت: "جميع الحكومات المتعاقبة فشلت في حل أزمة المياه في الخرطوم بشكل جذري. رغم ذلك، ما زالت الدولة متمسكة بالسيطرة على هذا القطاع، وكان الأولى أن يتم إشراك القطاع الخاص في حل هذه الأزمة المستمرة بإعادة تأهيل شبكات المياه المتهالك وصيانة المحطات الإنتاجية وغيرها من المطلوبات. وبعد ذلك، يمكن سداد التكاليف من الرسوم الشهرية التي يتم تحصيلها من المواطنين لقاء هذه الخدمة".

وشدد على ضرورة التركيز على المحطات النيلية لحل مشكلة مياه الشرب في ولاية الخرطوم، فهي أقل كلفة، وأكثر أمناً من الآبار الجوفية التي تواجه خطر التلوث، وفق تقارير موثوقة أصدرتها وزارة الري السودانية، وذلك نتيجة لحفر آبار الصرف الصحي عشوائياً، والتي تمر محلياً بـ"السايفون".

وبحسب مدير هيئة مياه ولاية الخرطوم محمد علي العجب، هناك 13 محطة نيلية في العاصمة تنتج نحو 950 متراً مكعباً في اليوم، إلى جانب 1400 بئر ارتوازي، بعضها مرتبط بالشبكة العامة، وبعضها الآخر يغذي أطراف المدينة. ومع ذلك، هناك عجز يومي في إمداد مياه الشرب يبلغ 200 ألف متر مكعب.

وقال العجب في تصريحات نقلتها وكالة السودان للأنباء الرسمية "سونا" إن هيئته تخطط لحفر المزيد من الآبار الارتوازية لحل أزمة المياه في الخرطوم، والتي أرجع أسبابها إلى زيادة النزوح من أطراف البلاد إلى العاصمة، ما شكل ضغطاً سكانياً عالياً، إلى جانب زيادة الاستهلاك مع ارتفاع درجات الحرارة، فضلاً عن تعطل بعض المحطات الإنتاجية وحاجتها إلى عمليات الصيانة والتأهيل.

هذا الأسبوع، تسلم مجلس السيادة دراسات من هيئة المياه في ولاية الخرطوم لإنشاء 3 محطات نيلية ضمن مساعٍ لحل أزمة مياه الشرب في العاصمة السودانية، لكن سكان هذه المدينة سئموا الوعود الحكومية التي تكثر مع ذروة الأزمة في الصيف، وتختفي في فصول العام الأخرى التي تشهد في الغالب استقراراً في الإمداد المائي.