"شبح" الحرائق في الساحل السوري يلتهم جنى أعمار المزارعين

ازدادت أخيراً معدّلات الحرائق في الساحل السوري، وأتت على مساحات زراعية واسعة، وباتت كالشبح الذي يلاحق المزارعين على امتداد مناطق الساحل.

  • الحرائق في الساحل السوري
    الحرائق في الساحل السوري

"النار، التي أتت على أشجار الزيتون في أرضي، لم تحرق الأوراق الخضراء وحسب، بل أحرقت قلبي وذاكرتي المرتبطة بتلك الأشجار منذ 65 عاماً". بهذه الكلمات عبّر أبو علي (73 عاماً) عن ألمه وهو يتذكّر مشهد النار التي تلتهم أشجار ه في أرضه بقرية كلماخو في ريف اللاذقية عند الساحل السوري قبل شهر، التي أدت إلى احتراق عشرات أشجار الزيتون التي يملكها، ما تسبب بخسارة مادية كبيرة له.

أشجار الزيتون تحتاج إلى وقت طويل كي تُثمر من جديد، لكنّ أبا علي لا يهتم كثيراًللخسارة المادية بعد الخسارة المعنوية التي تعرّض لها، فهو يعمل مع والده في الأرض مُذ كان في الثالثة عشرة. واليوم، يقوم بالأمر نفسه مع أبنائه، ويريد استمرار ذلك للأجيال المقبلة، لأن أشجار الزيتون تعني الأرض، واستمرار العمل فيها يعني التمسك بالأرض، كما تفعل جذور أشجار الزيتون تماماً.

خطط حكومية لمواجهة الحرائق

في الأعوام الماضية، ازدادت معدَّلات الحرائق في الساحل السوري، وأتت على مساحات زراعية واسعة. وقبل كل موسم حصاد، يتعرّض المزارعون لخسارة مادية كبيرة، ما ينعكس أيضاً على إنتاج المنطقة من الزيتون والحمضيات، بحيث تُعَدّ الزراعة في أراضي الساحل خزاناً استراتيجياً لسوريا كلها، وخصوصاً الزيتون والحمضيات.

في المقابل، وضعت الحكومة السورية مجموعة من الخطط الوقائية للحد من انتشار الحرائق، وخصوصاً في المناطق الجبلية الوعرة، التي يصعب الوصول إليها. وفي هذا السياق، كشف مدير الزراعة والإصلاح الزراعي في محافظة اللاذقية، المهندس باسم دوبا، للميادين نت، وَضْعَ خطط قبل بدء موسم الحرائق بمشاركة كل الجهات المعنية، سواء الخدمية أو العسكرية، وتحديداً فيما يتعلق بشقّ الطرق الحرجية وصيانة "خطوط النار" في المناطق الجبلية في المحافظة.

وفي شأن خطة المديرية لمواجهة موسم الحرائق هذا العام، يقول المهندس دوبا إن "خطتنا تتمثّل في ترميم 1700 كيلومتر من الطرق، وإقامة 10 كيلومترات من الطرق الجديدة، إضافة إلى توزيع سيارات الإطفاء في أماكن متعددة، ونشر فِرَق مختصة ومزوّدة بالتجهيزات والمعدات اللازمة لإقامة خطوط نار وخطوط العزل".

وأكد دوبا أن محافظة اللاذقية وضعت خطة كاملة لمراقبة كل الأراضي الزراعية، من خلال غرفة عمليات مركزية، مزوَّدة بكل الإحداثيات والخرائط للأراضي المنتشرة في المحافظة وريفها، ليجري إرسال الفِرَق إلى مكان الحريق فور وقوعه، إضافة إلى دعوة المزارعين إلى منع إشعال النيران داخل الأراضي الزراعية، وإحالة المخالفين على القضاء، وخصوصاً أن معدل الحرائق يزداد مع ارتفاع مستوى الجفاف خلال شهر أيلول/سبتمبر، مع بدء جني محصول الزيتون في عموم المحافظة.

شبح حرائق عام 2020 حاضر حتى اليوم

في عام 2020، وقبل بدء موسم قطاف الزيتون، تعرّضت مساحات واسعة جداً من الأراضي الزراعية في محافظتي اللاذقية وطرطوس، في الساحل السوري، لحرائق غير مسبوقة، تسبّبت بخسارة هائلة نزلت بالمزارعين، الذين تحوّلت أراضيهم الخضراء إلى رماد. ويقول المزارع نضال صالح (54 عاماً) للميادين نت، عن تلك الحرائق: "لم أرَ مثيلاً لها في حياتي. لقد التهمت النيران كل شيء، وحوّلت أرضي وأشجار الزيتون إلى رماد. لم يكن أحد قادراً على وقفها، والرياح ساهمت في انتشار ها على نحو أكبر. لقد شاهدت عمري يحترق أمامي، ولم يكن في يدي حيلة لوقف ذلك".

دفعت هذه الحرائق الحكومة السورية إلى تعويض المزارعين في أراضي الساحل، بمبالغ مالية لترميم ما يمكن ترميمه. كما نفّذت عدداً من المشاريع من أجل إعادة إحياء الأراضي، وبدء عملية الإنتاج من جديد، وخصوصاً أن تلك المنطقة تشكّل رافداً كبيراً للاقتصاد الوطني، نظراً إلى طبيعتها المتميزة وزراعاتها المتنوعة، ولكونها منطقة سياحية جاذبة داخل سوريا.

باتت تلك الحرائق شبحاً يطارد المزارعين على امتداد الساحل السوري. فعند وقوع أي حريق في منطقة جبلية وعرة، يخشى المزارعون أن يمتدّ وينتشر، ويتكرر معه سيناريو الحرائق الكارثي لعام 2020. واليوم، مع ارتفاع معدلات الحرائق، وصعوبة العمل في المناطق الجبلية الساحلية، يؤكد قائد فوج الإطفاء في اللاذقية، مهند جعفر، للميادين نت، أن الوحدات الإطفائية في المحافظة تعمل بأقصى طاقة ممكنة، وهي في حالة استنفار دائم خلال الفترة الحالية، كما أنها في أعلى جاهزية لمواجهة أي حريق ينشب في الأراضي الزراعية في مختلف المناطق في اللاذقية.

وأضاف جعفر أنّ الفترة الحالية من العام تشهد ازدياداً في معدّلات الحرائق، نتيجة الرياح الشرقية الجافة وبدء موسم قطاف الزيتون، بحيث يلجأ بعض المزارعين إلى تنظيف أراضيهم عبر أساليب غير آمنة، مثل عمليات "الإحراق"، وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى اشتعال نيران كبيرة يصعب على المزارعين إطفاؤها، أو السيطرة عليها.

خسائر أشجار الزيتون لا يمكن تعويضها

يشرح المزارع عاطف فندي، من قرية بلورة في ريف اللاذقية، للميادين نت، الأضرار التي تعرَّضت لها أرضه من جرّاء الحرائق المتلاحقة. ويقول: "مُنِيت بخسائر، بلغت نحو 80% في محصول الأرض التي أملكها، وتحديداً أشجار الزيتون والليمون. اقتلعتُ الأشجار المحترقة بصورة كاملة، فيما حافظت على الأشجار التي لم تتضرر كثيراً، علّي أستفيد منها بعد نحو 10 أعوام، إن عادت إليها الحياة".

ويضيف فندي: "أملك نحو 100 شجرة زيتون. وطوال 20 عاماً من العمل في الأرض، لم أُضطر إلى شراء ليتر واحد من زيت الزيتون، إلّا أنني، خلال العامين الأخيرين، بسبب الحرائق المتلاحقة وتضرّر موسم الزيتون على نحو غير مسبوق، وجدتُ نفسي مضطراً إلى شراء كمّيات قليلة من الزيت، نظراً إلى ارتفاع ثمنه. لكنّ الأمر لم يقف عند هذا الحد، فلقد بدأ بعض الأمراض يصيب المزروعات الأخرى، مثل الخيار واللوبياء والباذنجان، وهذا ما فاقم المشكلة أكثر، وضاعف خسارتي المادية على نحو كبير".

عقول تائهة، ووجوه حزينة، وأفواه تعجز عن الكلام. هي حال كثيرين من المزارعين في الساحل السوري، ممّن أتت النيران على أراضيهم. فالنتائج الكارئية، التي خلّفتها الحرائق في الأراضي الزراعية والغابات المثمرة، أرخت بثقلها المدمّر لأحلام أولئك المزارعين، الذين تكبّدوا خسارة لا يمكنهم الخروج من تحت وطأتها، وستظل آثارها الناجمة عن التهام النيران لأشجار الزيتون حاضرةً أعواماً طويلة. ومع كل موسم مقبل لقطاف الزيتون، ستحترق أحلام المزارعين، كما احترقت ذكرياتهم مع احتراق محاصيل هذه الأرض تماماً.