الإتجار بالبشر واستعباد الإنسان.. قصص الناجين من سفينة الرقيق الأخيرة
بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، أُجبر 12.5 مليون شخص في أفريقيا على ركوب "سفن العبيد" المتجهة إلى الأميركيتين، فدخل 10.7 ملايين شخص في حياة العبودية. ونتيجة للظروف القاسية، التي تعرضوا لها في متن السفن، مات 1.8 مليون على طول الطريق.
من "وايت ليون" إلى "كلوتيلدا"، سفينتي تجارة الرقيق عبر الأطلسي، تاريخ قاتم من استعباد البشر، الذين حُملوا من القارة السوداء إلى العالم الجديد. حقبة امتدت لتصبغ بأوزارها 4 قرون، دخل فيها الضمير الإنساني في سبات عميق. وبعد مضي أكثر من قرنين على حظر تلك الخطيئة، لا تزال البشرية تئن من وطأة تركة ثقيلة تفوح من أعطافها كراهية لم تتبدد، وبقايا عنصرية مَقيتة للعرق الأسمر.
ويروي متحف التاريخ في مدينة "هامبتون" الأميركية قصة الأفارقة العشرين الأوائل الذين تم استعبادهم ونقلهم إلى فرجينيا، في أواخر آب/أغسطس 1619، ورحلة الأميال الألف البحرية الرهيبة، والتي أمضوها على متن سفينة "وايت ليون"، وحياة الشقاء والاضطهاد التي عاشوها بعد ذلك في المزارع والحقول.
وتذكر التفاصيل، التي قدمها المتحف، كيف قام البرتغال بشنّ هجوم على مملكة ندونغو (أنغولا حالياً) غربي أفريقيا، وأسروا المئات من سكانها، انتزعوهم من حياتهم وبيئتهم، وأبحروا بهم على متن السفينة الإسبانية، "سان خوان باوتيستا" في اتجاه المكسيك، لكن الرحلة لم تمر بسلام، فلقد تعرضت "سان خوان باوتيستا"، في أثناء الطريق، لهجوم السفينة البريطانية "وايت ليون"، التي استولى طاقمها على عشرين من الرقيق، وانطلقوا بهم إلى شواطئ فرجينيا، وباعوهم هناك في مقابل بعض المؤن.
الرقيق نظام أساسي في المجتمع
وبين القرنين السادس عشر والتاسع عشر، سيق 12.5 مليون شخص من أفريقيا إلى حياة العبودية، على متن سفن تجارة الرقيق المتجهة إلى الأميركيتين، وصمد منهم نحو 10.7 ملايين في أثناء عبور الأطلسي، بينما لقي 1.8 مليون منهم حتفه، نتيجة لحياة البؤس والظروف القاسية التي واجهوها طوال الرحلة، من الجوع والعطش والعنف والتقييد بالسلاسل والأغلال.
إنّ تلخيص تاريخ تجارة الرقيق في مجموعة من الأرقام، لا يمكن أن يعطي انطباعاً عميقاً عن البعد الإنساني للمأساة، وفداحة الثمن الذي دفعه ملايين البشر، الذين تلقّوا حكماً مؤبداً بالأعمال الشاقة من دون ذنب اقترفوه. والمثير حقاً للاستغراب القبول الواسع الذي نالته تلك الخطيئة، والإقرار الشائع بفكرة التفوق العرقي، وتسويغ استعباد الإنسان، حتى غدت تجارة الرقيق رائجة، وباتت العبودية أحد النظم الأساسية المعمول بها في المجتمع الأميركي، وأصبح الرقيق أساس الاقتصاد، واليد العاملة التي اعتمدت عليها البلاد في نهضتها وتقدمها.
وجاء قانون فرجينيا، الذي صدر عام 1662 ليرسخ تلك الخطيئة. فبموجب القانون، كان المولود الجديد يتبع وضع أمه في الحرية والعبودية، الأمر الذي يعني أن النساء الأفريقيات المستعبَدات أنجبن أجيالاً بعد ذلك تعرضت للاستعباد مدى الحياة. وأصبح العبيد، بسبب هذا الوضع، طبقة يتم تمييزها على أساس العرق، وتم إخراجها من عداد البشر، فهم وسلالتهم مجرد سلعة يتم شراؤها وبيعها وتوريثها واستغلالها.
وعلى الرغم من أن الكونغرس أقر قانون وقف استيراد الرقيق، والذي بدأ العمل به رسمياً اعتباراً من مطلع عام 1808، وكان المخالفون للقانون معرضين لعقوبة قد تصل إلى الإعدام، فإن تجارة الرقيق غير القانونية بقيت مزدهرة طوال عقود، بحيث لم يتم إلغاء الرق نهائياً حتى عام 1865، وظل الطلب المتزايد على عمالة العبيد من أصحاب المزارع في الجنوب، ولاسيما القطن والتبغ والأرز، محفزاً رئيساً على استمرار تلك التجارة غير المشروعة.
كلوتيلدا.. رهان الاستعباد
وتروي قصص تجارة الرقيق ما وصل إليه المجتمع الأميركي من استهتار بقيمة الحياة البشرية لأولئك الذين تم استعبادهم. إن قصة "كلوتيلدا"، آخر سفينة عبيد تصل إلى شواطئ الولايات المتحدة، والتي رست في مدينة موبيل في ولاية ألاباما في تموز/يوليو 1860، بعد خمسة عقود من إلغاء تجارة الرقيق الأميركية، تكشف الوضع المتردي في تلك الآونة.
البداية كانت عبر رهان لا تتعدى قيمته 1000 دولار، قام به تيموثي ميهير، أحد الملاك الأثرياء، والذي راهن على إمكان التملص من الحظر بنجاح، وتفاخر في قدرته على استيراد سفينة محمَّلة بالبضائع البشرية تحت أعين السلطات من دون القبض عليه. وبالفعل، استطاع الفوز وكسب الرهان، ولم يُعاقب على جريمته قط.
وكانت "مملكة داهومي" (جمهورية بنين الحالية)، غربي أفريقيا، تمتلك من حروبها مع جيرانها آلاف الأسرى، الذين عرضتهم للبيع، فقام القبطان وليام فوستر، الذي استأجره ميهير للمهمة، بعد فحص الأسرى بطريقة مهينة، بشراء 110 أسرى بـ 100 دولار للفرد الواحد، وحملهم في رحلة إلى المجهول. وكان معظم الرقيق من المراهقين والأطفال. كان الشبان محور اهتمامهم، فهم أقدر على العمل وإنجاب الأطفال طوال أعوام كثيرة.
وعبر رحلة مخيفة محفوفة بالمخاطر في عباب المحيط الأطلسي استغرقت 45 يوماً، كان العبيد مكدسين في مكان غير صالح للاستخدام البشري. كانوا عراة مكبلين في قاع السفينة في ظلام دامس، غير قادرين على الوقوف بسبب انخفاض السقف، حيث القذارة رهيبة والرائحة لا تطاق، فضلاً عن قسوة المعاملة وقلة الماء وسوء الطعام. وفي ظل تلك الظروف لم يستطع بعضهم النجاة، فكان مصير جثته القذف إلى قاع المحيط.
وتحت جنح الظلام تسللت "كلوتيلدا" إلى خليج موبيل، لتفرغ حمولتها البشرية. وعلى أمل أن تختفي إلى الأبد، وتأخذ معها أدلة الجريمة النكراء، قام ميهير وأعوانه بإضرام النار في السفينة، التي تداعت وهبطت إلى مثواها الأخير، واختفت في أعماق مياه نهر موبيل، بينما سيق العبيد عراة إلى المستنقعات، من أجل إخفائهم عن أعين السلطات، إلى حين يتم بيعهم.
وكانت أسعار العبيد ارتفعت بصورة كبيرة في أعقاب قانون الحظر، حتى إن ميهر باع العبد الواحد بألف دولار أو أكثر. وكان العديد ممن على متن السفينة يمتلك مهناً محترمة، مثل الفلاحة والتجارة والصناعات الحديدية. كانوا ضحية الحروب وتجار الرقيق، ولم يكونوا، كما يشاع، مجرد أفراد من قبائل متوحشة.
وفي غضون يوم واحد، ذاع ذكر سفينة الرقيق غير المشروعة في المدينة بأكملها. وكتبت الصحف المحلية الخبر، ووصل إلى مسامع السلطات الرسمية، فأرسلت ضابطاً للتحقيق في الأمر. وفي نهاية المطاف أُسدل الستار على القصة، إذ خرج التحقيق بنتيجة مفادها عدم وجود أدلة تدين ميهر.
وفي كتابها المؤثر، "الناجون من كلوتيلدا: القصص المفقودة لآخر أسرى تجارة الرقيق الأميركية"، ذكرت المؤرخة البريطانية هانا دوركين أن ظروف أولئك الذين كانوا على متن "كلوتيلدا" كانت موثقة بصورة فريدة من نوعها، وأكدت أن المواد الأرشيفية المتعلقة بالسفينة والناجين منها، بصورة جماعية، تمثل السجل الأكثر تفصيلاً بين سفن تجارة العبيد، وهي القصة الوحيدة بينها، والتي يمكن روايتها بصورة شاملة، من وجهة نظر المستعبَدين.
أفريكا تاون
كانت حادثة "كلوتيلدا" على أعتاب الحرب الأهلية الأميركية، التي اندلعت عقب عدة شهور فقط من رسو السفينة وبضاعتها في موبيل. ومع نهاية الحرب، تم تحرير كل العبيد الذين جاءوا على متن السفينة. وأصبح المحرَّرون، الذين أمضوا خمسة أعوام في العبودية، موضع اهتمام المؤرخين والباحثين، الذين أجروا معهم مقابلات، روى فيها المحررون ذكرياتهم في أفريقيا، وكشفوا تجربتهم القاسية في أثناء عبور الأطلسي، وحياة التمييز العنصري والإذلال اللذين تجرَّعاه.
وبعد التحرر، كافحوا لشق طريقهم في حياة جديدة، غرباء في عالم ليس عالمهم، ولا يملكون وسائل العيش فيه. وهذه ريدوشي، التي يعتقد أنها آخر من فارق الحياة من الناجين من "كلوتيلدا"، تروي حياة الأشغال الشاقة والضرب المتكرر الذي تعرضت له في أثناء أعوام الاستعباد، ثم كفاحها المرير بعد التحرر، لمواجهة الاستغلال الاقتصادي والعنصرية ومنع الحقوق السياسية. لقد اضطرت إلى البقاء في ممتلكات سيدها السابق، حيث لا مأوى آخر تلجأ إليه، فلم تستطع الهروب من الفقر، ولا التخلص من العبودية إلا اسمياً.
حاول بعض الناجين، عقب انتهاء الحرب، جمع الأموال والعودة إلى أفريقيا، لكن جهود هؤلاء لم تحقق نجاحاً يُذكَر، فقاموا بشراء قطع من الأراضي من سيدهم السابق تيموثي ميهير، وأنشأوا مجتمعاً خاصاً بهم عُرف باسم مدينة أفريقيا (أفريكا تاون)، ونصّبوا لهم زعيما.
أخذ المجتمع الذي أسسوه شكل الهيكل الاجتماعي التقليدي الذي عرفوه في أفريقيا، وبنوا نظاماً وفق التعاليم التي تعلموها عندما كانوا أطفالاً. لقد أنشأوا منازل وزرعوا البساتين وربّوا الماشية ومارسوا الصيد، وأسسوا متاجر ومخازن وشركات، وشيدوا كنائس ومدارس ودور سينما، وحافظوا على تراثهم ولغاتهم الأصلية، ونقلوا ثقافتهم وتقاليدهم إلى أطفالهم.
ومع تأكيد قدرتهم الاستثنائية على التحمل، لم يفقد هؤلاء الناجون قط إحساسهم العميق بالانتماء إلى أرض وشعب بعيدين. فبعد عقود من التحرر، أجرى بوكر واشنطن مقابلة مع الناجي من كلوتيلدا، أوسيا كيبي، وسأله عما إذا كان يأمل العودة إلى وطنه يوماً ما. أجاب كيبي: " إني أعود إلى أفريقيا كل ليلة في أحلامي".
الصندوق الأسود لآخر الرحلات
أعاد اكتشاف حطام "كلوتيلدا"، عام 2018، فتح ملف القضية من جديد. لقد تم الكشف عن الدليل الذي ظل مخفياً، وأثار ذلك ضجة في أوساط المهتمين من المؤرخين ودعاة حقوق الإنسان، وأبرزت الصحف والمجلات الموضوع في عناوينها ومقالاتها.
وتحت عنوان "سفينة الرقيق الأخيرة"، ألّف بن رينز، المراسل المحلي، والذي كان أول من اكتشف الحطام، كتاباً، نشره عام 2022، وهو العام نفسه الذي شهد إصدار الفيلم الوثائقي "السلالة" (Descendant). لقد تم استحضار التاريخ المشترك للأميركيين من أصول أفريقية، والذين أُجبروا على مواجهة حياة البؤس والعنف، والكفاح لتخطى صدمة اختلال ميزان العدالة الإنساني، والتي نُقلت إليهم جيلاً بعد جيل، وصراع نسل الناجين مع تاريخ عائلاتهم المؤلم.
وفي حين جلبت "كلوتيلدا" الشؤم إلى المختطفين في زمن جبروتها، كان حطامها فأل السعد لنسلهم وأحفادهم، فـ "أفريكا تاون"، التي بدأت تتهاوى تحت وطأة النزوح الجماعي والفقر والمشاكل البيئية، شهدت إقبالاً سياحياً ملحوظاً وانتعاشاً على إثر اكتشاف الحطام، وافتُتح متحف بيت التراث الأفريقي وسفينة كلوتيلدا، والذي يخلد ذكرى الناجين، ويحكي إحدى قصص الجشع البشري والعنصرية.