الإنجيليون الأكثر تعصّباً لـ"إسرائيل" نواة القاعدة الانتخابية لترامب
يعدّ الإنجيليون الجماعة المسيحية الأميركية الأكثر تعصباً للاحتلال الإسرائيلي، والتي تقدم له دعماً مطلقاً غير محدود في شتى المجالات، ويبدأ نشاطهم المؤيد من الدعم السياسي، عبر التصويت للرئيس الأكثر مناصرة لـ"إسرائيل".
شكَّل الإنجيليون على مدى سنوات طويلة دعامة رئيسية للقاعدة الانتخابية للحزب الجمهوري، إذ يرون أنه يتماشى أكثر مع القيم المسيحية والمواقف المحافظة التي يتبنونها في القضايا الدينية والأخلاقية والاجتماعية.
ولا تمثل الانتخابات المقبلة المزمع عقدها في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل استثناء في هذا السياق، فلطالما كان الرئيس السابق دونالد ترامب، هو الخيار المفضل لديهم.
وفي حملته الانتخابية يحاول ترامب جاهداً مغازلة الإنجيليين، الذين يمثلون نواة قاعدته الانتخابية، بما يعادل نحو 34% من ناخبيه، فكثيراً ما يستخدم في خطابه مصطلحات دينية، ويؤكد أهمية القومية المسيحية للبلاد، ويتعهد بحماية الدين والصليب، ضمن شعارات أطلقها، مثل: "علينا أن نستعيد ديننا، علينا أن نعيد المسيحية إلى هذا البلد"، وقوله: "أقسم أنه لن يلمس أحد صليب المسيح في ظل إدارة ترامب"، وغيرها من الشعارات التي تلقى ترحيباً واسعاً لدى الغالبية العظمى من الإنجيليين.
وقد كشف مركز "بيو" للأبحاث، في استطلاع للرأي أجراه نهاية نيسان/أبريل الماضي، أن 81% من الناخبين الإنجيليين البيض سيتوجهون إلى صناديق الاقتراع لدعم المرشح الجمهوري دونالد ترامب، وأعرب ثلاثة أرباع الناخبين الإنجيليين عن رضاهم عن أداء ترامب في رئاسته السابقة.
كتلة انتخابية مؤثرة
مثّل مطلع ثمانينيات القرن المنصرم نقطة تحوّل للإنجيليين في ما يتعلق بخياراتهم السياسية، لقد أصبحت الأزمة الأخلاقية تثير قلقهم، ولم يعد من الممكن التعويل على التدين الشخصي للرئيس، فهم لا يبحثون عن قس للبيت الأبيض، بقدر ما يريدون رئيساً يسنّ قوانين محافظة، وتغييراً على أرض الواقع.
ولم يعد اختيار الرئيس استناداً إلى مبادئه الدينية، يعطي نتائج حقيقية، وأصبح من الضروري اختيار رئيس يتقاسم معهم وجهات النظر في القضايا الأخلاقية والدينية، ويتعامل معها وفقاً لذلك، وهكذا انقلبت أولوياتهم، فخيارهم هو القرارات التي يصدرها الرئيس، لا انضمامه إلى قداس يوم الأحد، وساقهم هذا التحوّل، إلى التصويت للمرشح الجمهوري رونالد ريغان في انتخابات عام 1980، التي وحّدت غالبية الصوت الإنجيلي.
ولم تكن هنالك كتلة إنجيلية موحدة في الانتخابات الأميركية السابقة ، وكان الصوت الإنجيلي مبعثراً بين المرشحين الجمهوري والديمقراطي، ومع استمرار الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية في الولايات المتحدة بالانحدار بمرور الوقت، أصبح الإنجيليون في قلق مستمر بشأن تلك المسائل، لا سيما المتعلقة بالحرية الدينية ومعدلات الطلاق والإجهاض والمثلية الجنسية والإباحية.
وبالرغم من أن الانتخابات المتتالية بعد ذلك لم تسفر عن تقدم في هذا الاتجاه، فالأزمة الأخلاقية في الولايات المتحدة استمرت وتفاقمت، ولم تجد القيادات السياسية لها حلاً، ولكن الإنجيليين مع ذلك، واصلوا العمل ككتلة انتخابية، وأصبحت الأنظار مصوبة على النفوذ السياسي المتنامي للإنجيليين، وانصبّ قدر كبير من اهتمام السياسيين في ذاك الاتجاه.
وبمرور الزمن، أصبح الإنجيليون قوة سياسية لا يستهان بها، ولها ثقلها في صناديق الاقتراع، ما جعلها قادرة على فرض شروطها وإملاء أجندتها على المرشحين، الذين يتسابقون لخطب ودّها واستمالتها، غير أن الإنجيليين البيض في غالبهم أصبحوا الكتلة الانتخابية الأكثر ثباتاً داخل الحزب الجمهوري، وبالتالي ساهموا بشكل مباشر في دفع الحزب الجمهوري نحو مواقف اجتماعية محافظة بشكل متزايد.
خط ديني أصولي
تعدّ الطائفة الإنجيلية من أقوى الجماعات الدينية في الولايات المتحدة، وأكثرها عدداً، حيث يمثل أفرادها نسبة تصل إلى 24%، بحسب مركز "بيو" للبحوث، ويقدر عددهم بنحو 100 مليون نسمة، ومع أن أعداد الإنجيليين البيض قد بدأت تتضاءل مع مطلع القرن الحادي والعشرين، فإن الإنجيليين من أصل لاتيني أعدادهم آخذة بالتصاعد.
ولا يمكن تحديد تعريف منضبط للطائفة الإنجيلية، فهي عبارة عن مجموعة من الكنائس المستقلة، يجمع بين أتباعها خط يميني محافظ، انبثق من رحم البروتستانت، وتميز عن الخط البروتستانتي التقليدي بعدد من المعتقدات، أهمها الإيمان بمفهوم "الولادة الثانية" بالتوبة والهداية، لذلك يطلق عليهم أيضاً "المولودون من جديد". ويتمسك الإنجيليون بشدة بالسلطة المطلقة للكتاب المقدس وحده، وتسليط الضوء على تضحية يسوع وصلبه، والدعوة إلى نشر الإنجيل في جميع أنحاء العالم.
وفي الولايات المتحدة يضم الإنجيليون مجموعة واسعة من الطوائف المسيحية، تشمل: الأصوليين (اليمين الديني)، والإنجيليين الجدد أو (الإنجيليين المعتدلين)، والخمسينيين واليسار الإنجيلي وجزءاً كبيراً مما يسمى بحركة الكنيسة الناشئة.
الإنجيليون في الولايات المتحدة بغالبيتهم هم إما إنجيليون معتدلون، أو أعضاء في اليسار الإنجيلي، أو جزء من حركة الكنيسة الناشئة، وعلى الرغم من أن الإنجيليين الأصوليين يشكلون الأقلية، غير أنهم ما زالوا يمثلون قوة فاعلة داخل الثقافة الأميركية.
وفي حين لا يجمع بين هذه الطوائف نشاطات دينية مشتركة، فإن ما يوحدها إطار من الاهتمام الجاد بالجانب الديني، فغالبية أفرادها تحضر القداس الأسبوعي والمناسبات الدينية وتصغي إلى الزعماء الدينيين أو الروحيين، وتتبنى مواقف محافظة من القضايا الأخلاقية والاجتماعية، ولا يعنى ذلك اتفاقها الجازم على المسائل كافة، إذ قد يختلف الإنجيليون في تعاطيهم مع بعض القضايا، مثل الإجهاض والمثلية الجنسية، بحيث يكون بعضهم أكثر تزمتاً وتطرفاً، بينما يتخذ آخرون منحىً أكثر انفتاحاً.
الجذور الدينية
والفكر الإنجيلي هو عبارة عن نتاج قرون عديدة من التطور، ويرتبط بشكل مباشر بحركة النهضة والإصلاح الديني، وقد جاءت بواكيره مع حركة المهاجرين الإنكليز من أصحاب الفكر "البيوريتاني"، الذين قدموا الولايات المتحدة في القرنين السابع والثامن عشر الميلاديين، وأسسوا مستعمرة لهم في العالم الجديد، في المنطقة التي أطلق عليها "نيو إنكلاند".
وكانت الحركة "البيوريتانية" أو "المذهب التطهيري" حركة دينية إصلاحية بروتستانتية، تسعى إلى تطهير الكنيسة الإنكليزية من تحكم الدولة وسيطرتها، والاعتماد على الكتاب المقدس مصدراً للدين، دون ما يشوبه من أقوال رجال الدين والقديسين. وقد تعرض أتباعها للاضطهاد في بريطانيا ودول أوروبية أخرى، بسبب الفكر الذي كانوا يحملونه، ما حملهم على الهجرة إلى الولايات المتحدة.
وقد استطاع الإنجيليون الانتشار من خلال إنشاء مؤسسات تعليمية وفنية ومدارس دينية، وساهم بشكل كبير في حركة التوسع، بروز شخصيات إنجيلية صنعت نقلة في تاريخ الطائفة، مثل المبشر بيلي غراهام الذي كان على علاقة وطيدة بالعديد من الرؤساء الأميركيين، وكان بمنزلة المرشد الروحي لهم.
وأصبح الإنجيليون أكثر تنظيماً بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، إذ تمكنوا من إنشاء مجموعة من المنظمات التي تضم أطباء وعلماء ورياضيين وغيرهم، بهدف نشر الدعوة والقيام بالنشاطات الثقافية والدينية والاجتماعية المختلفة، وأسسوا منظمات فاعلة مثل: "منظمة الشباب من أجل المسيح"، و"الرابطة الوطنية للإنجيليين"، ولاحقاً أنشأوا محطات إذاعية وشبكة بث تلفزيوني استخدموها لأغراض التبشير.
جبهة داعمة لـ"إسرائيل"
يعتبر الإنجيليون الجماعة المسيحية الأميركية الأكثر تعصباً للاحتلال الإسرائيلي، والتي تقدم له دعماً مطلقاً غير محدود في شتى المجالات، ويبدأ نشاطهم المؤيد من الدعم السياسي، عبر التصويت للرئيس الأكثر مناصرة لـ"إسرائيل"، وإبقائه تحت ضغط مستمر لتحقيق "انتصارات" في هذا المجال، مروراً بمعوناتهم المادية التي تتدفق إلى الاحتلال بالملايين، ناهيك بالجهود الإعلامية المؤازرة، وتأسيس الجمعيات الناشطة في هذا المجال، مثل منظمة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل"، والتي يربو عدد أعضائها على 10 ملايين فرد، فضلاً عن تطوّع الكثيرين منهم للعمل بأنفسهم في المستوطنات الإسرائيلية.
ويعتبر الإنجيليون دعم الكيان الإسرائيلي مسألة عقدية، فهم يؤمنون بأن "إسرائيل" هي مفتاح نبوءة نهاية الزمان، وما يتصل بها من المعركة الفاصلة (هرمجدون)، وإقامة الهيكل وعودة المسيح المخلص الذي سيحكم العالم من القدس، وينشئ عالماً مسيحياً يزعمون بأنه سيهزم الشر ويجلب السلام.
والعديد من الإنجيليين يدعمون "إسرائيل" وفقاً لروايات العهد القديم التي تروي أن اليهود هم "شعب الله المختار"، وقد جاء في الكتاب المقدس، أن الله قال للنبي إبراهيم: "أبارك مباركيك، ولاعنك ألعنه، وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض"، وهذا الخطاب ينطبق عند الإنجيليين على "إسرائيل" وعلى اليهود، الذين يُنظر إليهم على أنهم الوارثون لذلك الخطاب، وعليه فإن الولايات المتحدة مُجبرة على تقديم دعم لا مشروط لتنال البركة الموعودة.
ووفقاً لذلك، أصبحت الصهيونية المسيحية سائدة بين الإنجيليين الأميركيين، الذين يقفون مع الاحتلال في كل حروبه، ويؤيدون السيطرة الإسرائيلية التامة على فلسطين التاريخية، ويدعمون النشاط الاستيطاني على الأراضي المحتلة.
وعلى إثر معركة "طوفان الأقصى" في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، انتفض الإنجيليون، وسارع قادتهم الدينيون في جميع أنحاء الولايات المتحدة إلى إبداء تعاطفهم مع الاحتلال، وأصدر 90 قسيساً بارزاً وقادة آخرون بياناً إنجيلياً لدعم "إسرائيل"، أكدوا فيه حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، وتعهدوا بإرسال مساعدات عاجلة بقيمة 5 ملايين دولار.
وتبعث الفجوة بين الأجيال في مجتمع الإنجيليين بارقة أمل، لقلب الوضع الراهن رأساً على عقب، ولعل ذلك يتحقق في غضون عقد أو عقدين، حيث تؤكد استطلاعات الرأي أن المجتمع الإنجيلي الذين تقل أعمارهم عن الـ40، أقل ميلاً بكثير إلى دعم "إسرائيل"، بل يبدي الشباب اهتماماً أكثر بقضايا العدالة الاجتماعية فيما يتعلق بالصراع الدائر في الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعزّز دعمهم للموقف الفلسطيني على حساب العدوان الإسرائيلي.