استعمار أجساد الفلسطينيات بالعنف والتعدّي الجنسي.. أسيراتٌ محرّرات يروين تجربتهن
إنّ فهم العنف الجنسي واستغلال أجساد النساء كأدوات لمحاربة المستعمرين ضروري جداً، إذ يظهر ذلك جليّاً في سياقات الاستعمار الاستيطاني الذي تُنتهك فيه جنسانية النساء المحليات وسلامتهن الجسدية، لأنهن مصدر ولادة الأجيال المُقبلة
لقد شكّل " نظام السجن" إحدى الأدوات القمعية الأكثر استخداماً في منظومة القهر التي يمارسها الاستعمار على مدار التاريخ في كل أنحاء العالم، وفي فلسطين بشكل خاص. فمنذ الانتداب البريطاني وحتى الاستعمار الاستيطاني الصهيوني؛ كُرّست المنظومة ذاتها، التي انتهجها كثير من الدول الاستعمارية في العالم بحق الشعوب وحركات التحرّر الوطني، ولا تزال تلك المنظومة السجينة مستمرة ضمن تواصل ملحوظ على مستويات الفكر والممارسة داخل منظومة الاستعمار، وتخضع لمزيد من التطوير والمغالاة في القمع والقهر والتنكيل.
هناك الكثير ممّا يمكن قوله حول تجربة العيش كمُستعمَر، لكننا سنسلّط هنا الضوء على معنى أن تكون جسداً مُستعمراً عبر تجسّد الاستعمار في الجسد بلا وعي تحت النظام الاستعماري. ففي فلسطين المحتلة، لا يتخيّل الفلسطينيون أجسادهم إلا من خلال نقاط التفيش والحواجز والبطاقات الشخصية والتصاريح (ثالوث السيطرة الاستعمارية)، إضافة إلى السجون والموت. وعليه، فإن عدم قدرة الفلسطينيين على تخيّل المكان إلّا من خلال هذا الثالوث يعكس المدى الذي يتجسّد به في أجسادهم وتصوّراتهم عن الحياة. فهذا الثالوث ليس مجرّد أداة للسيطرة على الجسد الفلسطيني، إنّما يُنقش في المكان أيضاً. ومن هنا، نستنتج أن ما يميّز النسخة الصهيونية للاستعمار الاستيطاني هو إنتاج المُستعمَر كذوات/ مواضيع جسدية ميتة في المكان.
وبالتركيز على السجون، تُفيد إحصائيات مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، بأن قرابة مليون فلسطيني وفلسطينية تعرّضوا للاعتقال أو الاحتجاز أو التحقيق، منهم ما يزيد عن 17 ألف أسيرة فلسطينية منذ عام 1967 حتى اليوم. وقد لجأت "إسرائيل" إلى نظام السجن بشكل مكثّف خلال معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر لعام 2023، فوسّعت دائرة الاعتقال وكثّفت استخدامها لأدوات الانتهاك والتنكيل بالأسرى والأسيرات الفلسطينيين من خلال استهدافها لعنصرين وهنا: الجسد والروح.
ممارسات الاستعمار والاستيطان للأرض والجسد الفلسطينيين
نستكشف من خلال هذه المادة الكيفية التي تحاول بها "إسرائيل" استخدام أجساد الأسيرات الفلسطينيات كأدوات ابتزاز وأساليب إخضاع ممنهجة من خلال فعل الاعتقال.
إذ تعرّضت الأسيرات الفلسطينيات إلى انتهاكاتٍ مأساوية ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر لعام 2023، أبرزها العنف الجنسي المتمثّل بالتهديد بالاغتصاب، والتفتيش العاري المهين للأسيرة نفسها، والتفتيش العاري الجماعي لعدد من الأسيرات مع بعضهن بهدف الإذلال، والتحرّش الجنسي اللفظي، واستخدام الدورة الشهرية كوسيلة للضغط الجسدي والنفسي على الأسيرات، من خلال حرمانهن من الفوط الصحية والملابس اللازمة للتغيير، واستعمال الحمام، وانتهاك الخصوصية والتصوير القسري من دون حجاب للمحجبات وتداول صورهن على الهواتف الشخصية للجنود والمحقّقين، والمسّ بالمعتقدات الدينية عبر نزع الحجاب بالقوة، والسب والشتائم المهينة، وحرمان الأسيرات من الاحتياجات الأساسية لهن، وانعدام مواد النظافة الشخصية والازدحام بالغرف.
جديرٌ بالذكر أنّ هذه السياسات ليست جديدة، فقد كانت تمارس منذ بدء احتلال عام 1967، لكن سلطات الاحتلال عادت لتمارسها اليوم بشكل أعنف وأكثر وضوحاً.
ينتهك الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي أجساد النساء الفلسطينيات فعلاً ومجازاً، إذ إن ممارسات الاستعمار والاستيطان للأرض والجسد الفلسطينيين؛ تُشكّل جزءاً من البُنية الثابتة واليومية للاستعمار. والملفت في هذه الممارسات أنها تُعتبر شبه مخفية في الحياة اليومية، لكنها تنكشف حين تتكثّف في حالة صدام أو حرب أو توتر سياسي، كما هو الحال في الحرب الجارية على قطاع غزة الآن. وعليه، نستنتج أن جسد الفلسطينية يُعتبر حلبة لممارسات الاستعمار الاستيطاني، وبالتالي، فإن فهم العنف الجنسي واستغلال أجساد النساء كأدوات لمحاربة المستعمرين ضروري جداً لفهم البنية الأوسع للقوة الاستعمارية، وللآليات التي تستخدمها لفرض الهيمنة العرقية، وللمنطق الذي تعتمده لإبادة الآخر. يظهر ذلك جليّاً في سياقات الاستعمار الاستيطاني الذي تُنتهك فيه جنسانية النساء المحليات وسلامتهن الجسدية، لأنهن مصدر ولادة الأجيال المُقبلة.
شهادات حيّة
قابلت الميادين نت كلّاً من فيروز سلامة (25عاماً)، وربى عاصي (22 عاماً) ولمى خاطر (47 عاماً). جميعهن أسيرات محررات من سجن الدامون خلال صفقة التبادل الأخيرة بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، وجميعهن تعرّضت أجسادهن للانتهاك المباشر، كما أنهن شاهدات على ما حصل ويحصل داخل أقبية التحقيق وجدران الزنازين.
تقول المحررة فيروز سلامة، وهي طالبة ماجستير في جامعة بيرزيت، والتي اعتقلها الاحتلال من سكنها الكائن في قرية بيرزيت في تاريخ السادس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر لعام 2023 عند الساعة الثالثة فجراً، إنّ "فكرة انتهاك الجسد هي ليست شيئاً يكون خارج تفكير المنظومة الأمنية الإسرائيلية عندما تقرر اعتقال أي صبية في أي مكان، بل إنه يكون حاضراً في ذهنهم منذ لحظة الاعتقال، ومنذ لحظة خلع باب بيتك وأنت جالس فيه، وهو حيّزك الخاص الذي تكون مرتدياً فيه ما شئت، وفجأة بنخلع باب البيت وبتلاقي جنود فوق راسك، وهم مش ناس طبيعين، هم جنود مسلحين، وفي هذه اللحظة، أي تحرّك إنت بتعمله ممكن يخسرك حياتك، تحديداً في فترة الحرب وهي فترة الاستنفار الأمني وإطلاق النار على الفلسطيني بأي لحظة، من هذه اللحظة تحديداً، لحظة خلع باب البيت، يبدأ انتهاك الجسد".
وتُضيف سلامة: "لاحقاً، يتواصل انتهاك الجسد من خلال التعامل مع جسد الأنثى بصفته أداة عقاب لها حتى من دون التعرّض المباشر لها، من دون ما يضربك جندي، جسدك بكون أداة عقاب إلك، فعندما يتم اعتقالك والدورة الشهرية عندك، فهذا بحد ذاته ألم، لأن جسدك انتهك، فقد تم استئصالك من حيزك الخاص اللي بتحافظي فيه على نظافتك الشخصية وكل احتياجاتك بمكانك الخاص، وتم اقتيادك لمكان مجهول، ولاحقاً تتعرّضين للتفتيش العاري قبيل مرحلة التحقيق، وأنت ستمرّين بهذه المرحلة قسراً شئت أم أبيت. في هذه المرحلة، تجبرين على الدخول إلى غرفة وهنا يُطلب منك خلع كل ملابسك، وهنا لا خيار للرفض، فيصبح التفتيش عارياً وقسرياً أيضاً، وهنا يتجسّد مفهوم انتهاك الجسد بشكل مباشر وعيني".
وعن الهدف الأساسي من سياسات انتهاك الجسد للفلسطينيات، تقول فيروز: "يحاولون انتهاك الجسد للإناث تحديداً حتى يخلقوا انكساراً داخلياً، بمعنى أنّ الصبية تخسر ذاتها قبل أن تصل إلى مرحلة التحقيق أو السجن، لأنه إذا إنت انكسرت من جوا بهذا الانتهاك المباشر، فأنت تصبحين جاهزة لعمليات الضغط والتعذيب المباشر وغير المباشر داخل أقبية التحقيق أو ما بعد ذلك. وعليه أنت كأنك تصبحين إنساناً ذليلاً، إنساناً مُنتهكاً من أبسط حقوقه وهو الحفاظ على جسده".
وحول سؤال فيروز عن طريقة التصدّي لمحاولات انتهاك الجسد الممنهجة، يمكننا أن نسترشد بفرانز فانون (طبيب نفسانيّ وفيلسوف اجتماعي) الذي استنتج أن المستعمَر لا يمكنه إلّا أن يكون عصابياً، فهو مقيّد ومحاصر جسدياً، يقول فانون: "أول ما تتعلمّه الذات المُستعمَرة هو البقاء في مكانها وعدم تجاوز حدودها. من هنا تأتي أحلام المستعمَر، أحلاماً عضلية، أحلام الفعل، أحلام الحيوية العدوانية". هو حلمٌ بجسدٍ حرّ ومن أجله، أو عملية للتحرّر تبدأ- استناداً إلى معرفة الضرورة- بتحرير الجسد المستعمَر من وضمن الواقع الاستعماري المصطنع، إلى شيء جديد.
التهديد بالاغتصاب
تقول المُحرّرة لمى خاطر وهي كاتبة فلسطينية اعتقلها الاحتلال في السادس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر لعام 2023، وقد تم الإفراج عنها ضمن صفقة التبادل الأخيرة بعد أن تعرضت للتهديد بالاغتصاب وبحرق أبنائها والتنكيل بهم، "نحن خرجنا بالصفقة، ولهذا السبب تعمّد الاحتلال أن يستنزفنا جسدياً من خلال الإتعاب، فقد مكثنا في زنزانة الانتظار في سجن عوفر لمدة 12 ساعة من الثانية ظهراً حتى الثانية فجراً في اليوم التالي، قبل أن نصعد إلى باصات الصليب الأحمر التي أخرجتنا خارج السجن، هذه الزنزانة كانت باردة، بلا أغطية، مكثنا على البلاط، بلا طعام ولا شراب. هذا الإضافة إلى التهديدات المستمرة بإعادة الاعتقال وعدم الالتزام بشروط الصفقة. وبالتالي، كانت هناك محاولة انتقام واضحة من الأسيرات حتى اللحظة الأخيرة قبل التحرّر".
وتُضيف لمى حول ظروف الاعتقال والتحقيق: "تم تعريضنا للتفتيش العاري، للضرب، للشتائم البذيئة والتهديد بالإبعاد إلى غزة والتهديد بالقتل. وفي معسكر كريات أربع تعرضت للتهديدات الكثيرة، أبرزها وأكثرها قُبحاً التهديد بالاغتصاب والتهديد بحرق أبنائي، وبقيت عيوني معصوبة طوال الوقت حتى خلال التحقيق والأيدي مقيدة بالقيود البلاستيكية التي تضغط بشدة على اليدين إلى درجة الشعور بالشلل، وخلال وجودي في معسكر عوفر تم إبقاؤنا أنا ومجموعة من الأسيرات داخل الزنازين مقيدات ومعصوبات الأعين، ولاحقاً بعد التحقيق معنا ونقلنا إلى سجن الشارون، وهو المركز الأكثر بشاعة من ناحية الانتهاكات الجسدية التي تُنفّذ فيه بحق الأسيرات، كنا 6 أسيرات وتم وضعنا في زنزانة ضيقة مليئة بالقاذورات وبدون مياه وطعام وبقينا فيها لأربعة أيام".
المحاولة بالمساس بكرامتنا
أمّا ربى عاصي وهي طالبة في جامعة بيرزيت في السنة الثالثة، فقد اعتقلها الاحتلال من بيتها في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر لعام 2023، وقد تم الإفراج عنها ضمن الصفقة الأخيرة. يُذكر أن هذا الاعتقال هو لثاني لربى، فقد مكثت في سجون الاحتلال لمدة 21 شهراً قبل سنوات قليلة.
تصف ربى انتهاك الجسد الخاص بالأسيرات الفلسطينيات من منطلق تجربتها الخاصة ومن كونها شاهدة على تجارب أسيرات أُخريات: "الاحتلال يحاول دائماً أن يروّج لفكرة احترام خصوصية النساء عند الاعتقال، ولكن هذا غير موجود، ليس فقط من اليوم ولا من السابع من أكتوبر، وإنما منذ لحظة وجود الاحتلال على أرضنا، ومن اللحظة التي يدخلون فيها على بيوتنا وبيعتقلونا من عائلاتنا، الكثير من الصبايا تم تهديدهن بالاغتصاب عند الاعتقال، وعند حديثهن عن موضوع الاغتصاب للمحاميين تم نقلهن للاستجواب مرة أخرى وتهديدهن بعدم الحديث، وفي مركز الشارون تم وضعنا في القسم الخاص بالمدنيين، وبالتالي كان تعرّضنا للعنف وللتحرّش اللفظي أمر محتمل، وطوال الوقت توجّه إلينا الشتائم من السجناء الإسرائيلين الجنائيين".
وتتابع: "هذا بالإضافة إلى التحكّم بأجسادنا داخل السجن عبر وضعنا طوال الوقت تحت مراقبة الكاميرات، في الساحات داخل السجن، وفي الحمامات، وهذا يعني انتهاكاً كاملاً للخصوصية، هذا إلى جانب تفتيش الإناث بشكل عارٍ ومن ثم ضربهن وهن عاريات تماماً، يتمّ تقييدنا/ كلبشتنا من الخلف، فلا تستطيعين حتى أن ترفعي شعرك عن عينيك، ويجعلونك تنزلين رأسك طوال الوقت وأنت تمشين، ممنوع أن ترفعي رأسك، حتى أنهم ينزلون رأسك غصباً، وحتى إيماءات الوجه يحاولون السيطرة عليها والتحكّم بها وذلك من أجل سلب النفس".
وأضافت: "كان هناك حقد كبير من السجانين والسجانات من الطريقة التي روحنا فيها بالصفقة، طريقة الانتصار، فتم تفتيشنا ونحن عاريات وبطريقة مهينة، وكانوا يتحكمون بالطريقة التي نحرك بها أجسادنا، فمثلاً كان يُطلب من البنات أن يجلسن وهن يتفتشن بشكل عارٍ، أو أن يفتحن فمهن ويقومون بالتفتيش أسفل ألسنتهن وبين أسنانهن، وبالتالي هم يحاولون أن يقوموا بالابتزاز الجسدي والنفسي لنا للمساس بكرامتنا بشكل مباشر".
الكثير من كتابات أدب السجون التي خطّها الأسيرات والأسرى من داخل المعتقلات بأقلامهم الحرّة تُفيد بأنه في عصر ما بعد الحداثة؛ لم يعد جسد الأسير هو المستهدف مباشرة، إنما الروح والعقل هما المستهدفان، لكن الجسد هو الوسيلة الأكثر استخداماً من قبل العدو للوصول إلى الروح.
جدير بالذكر أن كل ما تحدّثنا به لا يزال يحصل الآن داخل سجن الدامون حيث يوجد 80 أسيرة، غالبيتهن اعتقلهن الاحتلال من قطاع غزة، هذا إضافة إلى الأسيرات الموجودات من الضفة الغربية والقدس وأراضي فلسطين المحتلة 48، من بينهن أسيرة حامل في شهرها الرابع وأسيرة مُسنة تبلغ من العمر 82 عاماً من قطاع غزة.