إلى أصدقائي المعتقلين: قصصنا معلّقة على شاطئ غزة.. سنعود لنروي

اليوم، بات الهاتف صديقي، يلازمني بكّل ما يحمله من ملفات تحفظ صور أهلي وأصدقائي. صور تذكرني بنفسي وحياتي وأحبائي. أتصفحه باستمرار، ويعتصر قلبي شوقاً وألماً في كلّ مرّة كأنها الأولى.

  • إلى أصدقائي المعتقلين: قصصنا معلّقة على شاطئ غزة.. سنعود لنروي
    إلى أصدقائي المعتقلين: قصصنا معلّقة على شاطئ غزة.. سنعود لنروي

بعد دخول الحرب على غزة شهرها الثالث، كنت حينها أمكث في المستشفى من جراء تعرضي لإصابات بالغة بعد أن قصف الاحتلال منزلاً انتقلت إليه وعائلتي في خان يونس. وفي أثناء وجودي في غرفة المستشفى مقاسياً آلام الإصابة وفقدان عشرة من أفراد عائلتي نتيجة الاستهداف، جاءني اتصال أسقط مزيداً من الأثقال على قلبي.

إنها أم صديقي عبيدة حرب، أخبرتني، في حديثها، بأنّ الاحتلال الإسرائيلي اعتقل أبناءها عند مفترق الكويتي، شرقي غزة في شارع صلاح الدين، وهو شارع رئيس في القطاع، أراد الاحتلال السيطرة عليه بهدف عزل المناطق الشمالية عن المناطق الجنوبية.

أعرف عبيدة جيداً. 9 أعوام من الصداقة كانت كفيلة بشدّ أواصر الثقة والاطمئنان بيننا. أقصده حين تضيق بي ظروف الحياة فلا أخيب، ويقصدني حين يحتار في أموره لنتشاور. لا تغيب عني أخباره ولا تغيب عنه شؤوني. فشاطئ غزة وبحرها شاهدان على جلساتنا. لا يهمّ ما نفعل. تمضي الساعات ونمتلئ محبةً وفرحاً. وبالمناسبة، لا أذكر أن أسبوعاً مرّ ولم نلتقِ! كيف أختصر وصفي لعبيدة؟ شاب جميل ذو طلّة بهية، حافظ على صلابته على رغم فقده والده الشهيد. حرص بشدّة على رضا والدته، عطوف على إخوته، صنع بنفسه مستقبلاً مشرقاً لم يعتمد فيه إلا على الله وبركة والدته، وأضاف إلى ذلك شغفه الخاص.

صديقي عبيدة وشقيقه أحمد، الذي أعرفه وأعرف أيضاً إخوته الآخرين، اعتقلتهما القوات الإسرائيلية المتوغِلة في القطاع، عند حاجز نصبته في شارع صلاح الدين، وادّعت أنّ المرور هنا "آمنٌ" لنزوح الأهالي إلى جنوبي القطاع، ضمن مخطط إسرائيلي لتهجير أبناء غزة قسراً نحو رفح وسيناء المصرية.

قال لي عمر، وهو شقيق آخر لعبيدة، اعتقله الاحتلال عند الحاجز نفسه، ثمّ أفرج عنه، إنّ الجنود الإسرائيليين قيّدوا عبيدة وعدداً كبيراً من الشبّان المدنيّين العزّل من أبناء القطاع، والذين لا تزال ظروف أسرهم مجهولة، ومنع الاحتلال أيّ جهة دولية من الاطلاع على أوضاعهم، أو الحصول على معلومات تثلج قلوب عائلاتهم. تختزن تفاصيل الاعتقال كثيراً من القهر الذي يراكم فينا شرارة المواجهة، فلقد أجبر الاحتلال الشبان، ومعهم عبيدة، على الاقتراب من الدبابة عند الحاجز، وخلع ملابسهم ليقتادهم إلى مكان مجهول.

يسرد عمر الحكاية وقد عاش فصلاً من كابوس. عاد وحده إلى أمه، من دون أخويه، فكان سنداً لها في هذه المحنة، التي تعيشها معظم أمهات غزّة. يطارد عمر يومياً أخباراً عن شقيقيه ليهدأ قلب أمّه. وقف مراراً عند حاجز "كرم أبو سالم" وعيناه تجولان بحثاً عن عبيدة وأحمد في قائمة المفرج عنهم. ومع ألم الشوق والغربة، حفر عمر اسميهما وعنواناً على حائط دكانٍ قريب من الحاجز، فإذ عادا عرفا مكان لجوء العائلة في رفح جنوبي القطاع، لعلّ وعسى أن تصلهما رسالة عمر!

قبل الحرب بأيام، وقفتُ وعبيدة عند ميناء غزة، تناولنا الكنافة النابلسية احتفالاً بحصوله على وظيفة بعد فترة طويلة من البحث عن عمل وسط ظروفٍ اقتصادية صعبة يعانيها القطاع منذ الحصار عام 2007. ركنّا السيارة وجلسنا أمامها نتأمل البحر، ولا يحدّ الأفق أحلامنا. خطّطنا كثيراً من المشاريع، وكلّ واحد منّا يستكمل بناء بيته الخاص في الفترة نفسها، فلقد كنا نتشارك في أدقّ التفاصيل. وأنا أنظر إلى ملامحه أقول في رأسي: "ما أبشع الاحتلال حين يحرم شاباً أباه، فيلقي على عاتقه أعباءً منذ الصغر".

أخوان، كانا بلسماً لأمهما التي صبرت على فراق زوجها، تصبر اليوم على غربتهما وفراقهما، بينما كانت لا تتحمّل أن يتأخرا عن البيت أو يطيلا السهرات في الليل. أخجل اليوم من أن أتصل بها. لا أعلم كيف أرتّب الكلمات في الحديث معها، فلا أضغط على جرحها حين تحاول أن تتصوّر حال عبيدة وأحمد، كيف ينامان؟ هل أكلا؟ ما مصيرهما؟ 

في السابع من أيلول/سبتمبر من العام الماضي، زارني زميلي وصديقي الصحافي نضال الوحيدي، بعد محاولات فاشلة لترتيب لقاء بيننا، بعيداً عن العمل. فالعمل في الصحافة يأخذ كثيراً من وقتنا. أصرّ نضال على أن يفاجئني بزيارة لمكان عملي. جلس طويلاً وشربنا أكواباً من القهوة، وبعفويته فتح كاميرا هاتفه والتقط لي صورة من دون أن أنتبه، ولم يرسلها إلي إلا بعد مغادرته. وبمزاحنا نحن الشبان، نشرت الصورة في صفحاتي في مواقع التواصل الاجتماعي بعد ان أشرت إليه في المنشور، وكتبت: "بعدسة نضال الوحيدي بعد أن ضيّفته قهوة". لم أكن أعلم سرّ هذه الصورة. يظن الإنسان أن هناك لحظات عابرة وطبيعية في سير الحياة، إلى أن تصبح يوماً أثمن ما بقي.

التقط نضال الصورة وغادرنا، واختفى في أثناء أدائه واجبه المهني في تغطية معركة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر، بحيث كسرت المقاومة كلّ قيود غزّة، وعبرت نحو أراضينا المحتلّة. ولا نعلم مصيره حتى الآن. يقول البعض إنه اعتقل، ويقول آخرون إنه استشهد.

اليوم، بات الهاتف صديقي، يلازمني بكلّ ما يحمله من ملفات تحفظ صور أهلي وأصدقائي. صور تذكرني بنفسي وحياتي وأحبائي. أتصفحه باستمرار، ويعتصر قلبي شوقاً وألماً في كلّ مرّة كأنها الأولى. أعود أيضاً إلى محادثاتي مع أصدقائي وأهلي، الذين اعتُقلوا أو استُشهدوا، علّني أجد فيها بعضاً منهم. هل توجد رسالة لم ألحظها سابقاً، أنا اليوم أقرأ كلماتهم بطريقة متباينة، يصعب فيها أنّ يصدق الإنسان كلّ هذا الإجرام الإسرائيلي بحق أهلنا. أدقق في كل حرف، في كل مشوار تواعدنا فيه ووثقناه بالصور، أعود بذاكرتي وليتني لم أعُد.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.