أوروبا لا تفتح بيوتها الخالية للمشرّدين.. الآلاف يفترشون الشوارع ملاذاً
مع أن البرلمان الأوروبي بدأ، خلال العام الحالي، الضغط على المفوضية الأوروبية لوضع "استراتيجيةٍ أوروبية عاجلة لمكافحة التشرد"، إلا أن الخطوات التنفيذية لا تزال بطيئةً وغير فعّالة، في ظل نشاط المضاربات ونزعات الربح في السوق العقارية، على حساب سياسات الإسكان.
في تشرين االأول/أكتوبر 2022، شبّه مفوّض الأمن والخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أوروبا "المتميزة" بـ"حديقة"، والعالم من حولها بـ"الأدغال"، التي يمكن أن تغزو الحديقة.
استند الرجل، في نظرته تلك، إلى توافر أفضل "مزيجٍ من الحرية السياسية والآفاق الاقتصادية والتماسك الاجتماعي"، الأمر الذي لم يلاحظه في سائر العالم.
تتعاطى هذه النظرة التصنيفية مع مسائل متشابكة، من الهجرة إلى التنوع وحقيقة الرفاه، اقتصادياً واجتماعياً، لكنها تغفل عن حقائق مهمة، باتت تمثّل ظواهر في قلب القارة العجوز.
واحدة من تلك الظواهر يمثّلها انتشار المشرّدين في الطرقات، وعند مفترقات الشوارع، وفي المواقع السياحية المهمة. وهؤلاء لا يقتصرون على المهاجرين غير الشرعيين، بل إن نسبةً كبيرة منهم من أبناء الدول الأوروبية الأصليين، غير الوافدين في موجات الهجرة، التي كان بوريل يشتكي منها، في مضمون قوله.
الانتخابات الأوروبية الأخيرة أظهرت أرقاماً صادمة بشأن الأمر. وقول بوريل إن على أوروبا أن تكون منتبهةً للوضع وأن تعتني بحديقتها، يستوجب معالجة هذه المشكلة التي باتت ظاهرةً شديدة الوضوح والتأثير.
ففي بداية حزيران/يونيو، قبل أيامٍ قليلة من استحقاق انتخابات البرلمان الأوروبي، كشفت مجموعة "فيانتسا" الأوروربية للمنظمات، وهي مجموعة تعمل مع المشردين تحديداً، أن نحو 900 ألفٍ منهم، منعتهم ظروفهم السكنية من التصويت في الانتخابات.
مسؤولو المجموعة أكدوا أن وجود عنوانٍ دائمٍ مسجّل لدى السلطات يمثل شرطاً مسبّقاً لتسجيل المواطنين في لوائح التصويت. وبالتالي، فإن هؤلاء خسروا فرصة التعبير عن رأيهم في قضية مؤثرة بصورةٍ مباشرة في أوضاعهم.
يتحدث كثيرون من هؤلاء، بصورةٍ دائمة، عن معاناتهم، ويتذمرون من أنهم متروكون من السلطات التي بات ملحوظاً أن جزءاً يسيراً منها يصل بفضل لوبيات مرتبطة بعالم المال والأعمال، الأمر الذي يمثّل تراجعاً دراماتيكياً للتيارات الاجتماعية التاريخية، التي صنعت أنظمة حماية اجتماعية متفوقة عن سائر العالم في السابق، كما كانت الحال في فرنسا بعد الثورة الفرنسية، على سبيل المثال.
الآن، تباينت الأوضاع، وأصبحت التشريعات تميل بصورةٍ متزايدة لخدمة الأرقام بدلاً من خدمة مصاديقها. وهؤلاء يرون أنه بالنسبة إلى الحكومات وعدد واسع من البرلمانات، فإن الوضعية الصحيحة، اقتصادياً واجتماعياً، تمثلها أرقام الحكومة، بينما بالنسبة إليهم فإن الواقع يظهر في الشوارع وعلى مفترقاتها، وفي أحوال الطبقات العاملة والمعطّلة.
ومن الجانب الآخر، يرى أصحاب رأيٍ آخرون أن جزءاً كبيراً من هؤلاء يتّخذون التشرد مهنةً، ويُلقون أعباءَهم على المواطنين الآخرين المنتجين، والذين تساهم ضرائبهم في توفير رواتب عطالة ورعاية للمتشرين الكسالى، الذين يفضلون حياة التسكع ومعاقرة الخمر والتفلت من المسؤولية، على الإنتاج وتحمل المسؤوليات.
يقول مسؤولون أوروبيون إن القارة في حاجةٍ إلى قوة العمل التي تتراجع مع تراجع الولادات، وفي ظل خوف الأوروبيين وقادتهم من التحولات الديمغرافية والمجتمعية التي يُحدثها المهاجرون، فإن مكافحة التشرد وإدخال روّاده في سوق العمل قد يُمثّلان جزءاً من أساليب المعالجة الممكنة.
في مقابل هذه الصورة، تبرز ظاهرة أخرى، تُظهر الأرقامُ تناقضَها الصارخ مع ظاهرة التشرد، وهي وجود ملايين الوحدات السكنية الخالية في دول أوروبية.
في شباط/فبراير الماضي، نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية إحصاءاتٍ تُظهر أن ما يزيد على 11 مليون وحدةٍ سكنيةٍ خالية من السكان في أنحاء أوروبا كلّها. الرقم كبير جداً هو يكفي، بحسب تقديرات الجريدة، لإيواء ضعف عدد المشردين (4.1 ملايين نسمة)، والذين يقول الاتحاد الأوروبي إنهم يعيشون داخل دول الاتحاد بلا مأوى.
تشير الإحصاءات نفسها إلى وجود 3.4 ملايين منزلٍ فارغ في إسبانيا، ونحو مليونين في فرنسا، والعدد نفسه في إيطاليا، وما يقترب من مليونين أيضاً في ألمانيا، في حين لا يصل العدد إلى مليون منزلٍ في بريطانيا. بالإضافة إلى ملايين المنازل الخالية في دول أوروبيةٍ أخرى.
التناقض بين هذه المعطيات والأعداد المتزايدة من المشردين في أوروبا يكشف تناقضاً آخر يُقوّض كلام بوريل بشأن الحديقة والغابة، ويشير بوضوح إلى تراجع كفاءة السياسات الاجتماعية في القارة، واتجاهها نحو مزيد من الغرق في نمطٍ عالمي من خدمة رأس المال على حساب الطبقات الاجتماعية الهشّة.
هذا التناقض ترى فيه منظمة "فيانتسا" فضيحةً مدوية مع عدم تمكين المشردين من إيجاد مأوى، في ظل عدم استغلال تلك المنازل، الأمر الذي يبرز أيضاً ضعف التناغم في السياسات العامة.
ومع أن البرلمان الأوروبي بدأ، خلال العام الحالي، الضغط على المفوضية الأوروبية لوضع "استراتيجيةٍ أوروبية عاجلة لمكافحة التشرد"، عبر تصويتٍ ساحقٍ وصل إلى 349 عضواً مؤيداً، إلا أن الخطوات التنفيذية لا تزال بطيئةً وغير فعّالة، في ظل نشاط المضاربات ونزعات الربح في السوق العقارية على حساب سياسات الإسكان. وهكذا، ترتفع قيمة العقارات على الرغم من خوائها، وتنخفض قيمة البشر في الشوارع.