أهالي غزة يُعيدون تسوية أراضيهم من أجل زراعتها.. لأنّ "الحياة فيها عبادة"
قبل شهرين، ترك جيش الاحتلال أراضي شمالي قطاع غزة الزراعية، عقب توغل بري استمر ثلاثة أشهر، ولم يُبق فيها أرضاً واحدة لم تنل منها جرافاته. أما المنازل، فدمر أكثر من ثلثيها.
يتباهى سكان بلدة بيت لاهيا، في شمالي قطاع غزة دائماً، بأنهم أفضل من زرع وأنتج الثمار والخضروات. المدينة الزراعية التي تحاذي السياج الفاصل أقصى شمالي قطاع غزة، عُرفت تاريخياً بأن سكانها الأكثر إبداعاً في انتاج كل أنواع الخضار والفواكه الموسمية، من دون أن ننسى الفراولة، أو "الفريز"، أو التوت الأرضي، باللهجة اللهوانية المحلية.
في شارع العطاطرة مثلاً، حيث تنتشر محالّ بيع الأسمدة والبذور والأدوية الزراعية، ستجد أن أحدهم يعلق على الجدار شهادة تقدير حصل عليها في عام 1995، لأنه فاز حينها بإنتاج أفضل فراولة على مستوى قطاع غزة والبلاد المحتلة، وسيزهو ثانٍ بأنه ملك البندورة، وثالث بأنه سيد البصل والثوم. أمّا المنازل هناك، فتروي مداخلها، التي تزينها الأزهار النادرة وأشجار الظل الكبيرة، ونباتات الياسمين، حكاية الغرام بالزراعة، تلك التي تتوارثها الأجيال، كابراً عن كابر.
قبل شهرين، ترك جيش الاحتلال أراضي الشمال الزراعية، عقب توغل بري استمر ثلاثة أشهر، ولم يُبق فيها أرضاً واحدة لم تنل منها جرافاته. أمّا المنازل، فدمر أكثر من ثلثيها. يمكن القول إن ملامح البلدة، أسوة بكل شمالي القطاع، طُمست تماماً. وحدها طباع الناس وما عشقوا، هي التي لم تغيرها أطنان القذائف.
في شارع البذور والأشتال، التقى الميادين نت أبا عدنان، وهو شيخ لا تنبئ بنيته الجسدية القوية بأنه تجاوز السبعين بثلاثة أعوام، باحثاً عن أشتال البندورة والجرجير والملوخية، إذ بدأ منذ أسابيع تسوية أرضه من مسار الجرافات، تمهيداً لإعادة زراعتها. يقول للميادين نت: "نظفت 700 متر وردمت الحفر التي أحدثتها الجرافات، وحرثتها. والآن رح أزرعها، يومياً بيصير قصف. وارد جداً نزرع وما يكون في العمر وقت إنو ناكل من حصادنا. الموضوع مش مادي. صحيح المجاعة والشح دفعتني أسرع، وأبذل جهد عضلي بحاجة لآليات وحراثات حتى تنجزه، لكن والله، أنا بزرع لأنو معروف في كل الحضارات البشرية، إنو الزراعة إشارة الاستقرار والبقاء، والخيمة رمز النزوح والرحيل (...) أنا بزرع أرضي حتى تفهم الطيارة الإسرائيلية إلي بتراقبنا، إنو هذه الأرض الحياة فيها عبادة، وحتى الموت فيها سعادة".
أما في حي تل الزعتر، فيكرر أبو ياسر أحمد المشهد اللهواني. هناك، حيث تضيق الأراضي وتتراصّ المنازل المقصوفة، انهمك الرجل الذي نالت الحرب من ابنته الوسطى وشقيقه الأكبر، في تنظيف سطح منزله من ركام القصف. يقول للميادين نت: "من يوم ما انسحب الجيش من الحي، في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر، دفنت أخي أبو محمد، ونظفت غرفة وحدة في بيتنا المدمر حتى أسكن فيها، وبلشت أنظف السطح، من أعمدة الإسمنت إلي تطايرت من منازل الجيران إلي نسفوها، والحجارة وبقايا قذائف. أمضيت شهراً كاملاً لحد ما خلصت تنظيف، وزرعت كل الخضار الرمضانية، والحمد لله، أكلت وأطعمت جيراني".
خلال اللقاء، لم تفارق الابتسامة وجه الرجل المعروف في الحي بعشقه للزراعة. لقد سمى بناته الخمس بأسماء نباتات وورود. استُشهدت نسرين، وبقي لديه سوسن وكميليا وأزهار وداليا. اختلق للعشرات من نباتات الزينة والظل مكاناً بين الدمار. يتابع حديثه: "من يوم ما زرعت السطح، صار فيه معادل موضعي في حياتي للقصف والدم والمجازر. أكثر الناس كان برأيهم إنو مش وقته، بدري، انتظر لما تخلص الحرب. لكن، بالنسبة إليّ، الخضار حياة، ومراقبة نمو النباتات ورعايتها يومياً، كان أفضل مبرر دفعني كي أتمسك بالعيش في بيت مدمّر وحي خطير يتعرض يومياً للقصف".