أسباب تراجع "العدالة والتنمية".. بماذا تأثّر صوت الناخب التركي في الانتخابات المحلية؟
الحملات الانتخابية كان لها دور في التأثير على الناخب التركي، فقد عملت المعارضة على الوصول إلى الشارع التركي، ومحاولة لمس نبضه، وركّزت في حملاتها على هموم الناس ومعاناتهم اليومية وما يلامس حياتهم المستقبلية.
انقلاب هائل في مزاج الشارع التركي، كشفت عنه نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، فقد داوم الناخب التركي على مدى أكثر من عقدين من الزمن على تقديم حزب "العدالة والتنمية" كخياره الأول، ما يدفع للتساؤل عن الدوافع التي حملته على الانحياز إلى حزب "الشعب الجمهوري" من جديد في الانتخابات الأخيرة، بعد إقصائه عن الصدارة لأمد طويل.
ولعل المعاناة اليومية التي يعيشها المواطن التركي والهمّ الداخلي كان السمة الطاغية على الجو العام للانتخابات، والمحرّك الأساسي في تحديد الناخب لخياراته، وعلى ما يبدو فإنّ الأتراك أرادوا إيصال رسالة قوية عبر صناديق الاقتراع، والتلويح بقدرتهم على تغيير المعادلة، للضغط على الحكومة القائمة للاستجابة لمطالبهم، والعمل على تحسين الظروف المعيشية ومستوى الخدمات، الذي بدأ بالتراجع بشكل كبير ومطرد في السنوات الأخيرة.
كما بدا واضحاً عند بعض فئات الناخبين الرغبة في الضغط على السلطات لتغيير سياساتها فيما يتعلّق ببعض القضايا الخارجية، على رأسها التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي والحرب في غزة.
ومما لا شك فيه، أن الحملات الانتخابية كان لها دور في التأثير على الناخب التركي، فقد عملت المعارضة على الوصول إلى الشارع التركي، ومحاولة لمس نبضه، وركّزت في حملاتها على هموم الناس ومعاناتهم اليومية وما يلامس حياتهم المستقبلية، ونجحت بعض الأحزاب المحافظة في سحب الناخب التركي إلى صفها، من خلال الدعوة إلى مقاطعة الاحتلال الإسرائيلي ودعم غزة.
التدهور الاقتصادي
لطالما كان الهمّ الاقتصادي دافعاً قوياً لدى الناخب التركي للتمسّك بخيار "العدالة والتنمية"، الذي حقّق تحسّناً ملموساً في هذا الجانب على مدى سنوات من اعتلائه السلطة، غير أن التدهور الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه البلاد مؤخراً، انعكس على الحياة اليومية للمواطن التركي، الذي بدأ يئنّ من جرّاء المسؤوليات المادية، التي غدت أكبر مما يمكن لشريحة كبيرة من الشعب تحمّلها.
ويرى المواطن التركي أن على الحكومة تحمّل مسؤوليتها في هذا الشأن، لذلك، جاءت نتائج الانتخابات تعبيراً عن ثورة على الأوضاع الاقتصادية التي أصبحت خانقة في البلاد. وفي هذا الصدد يقول يافوز علي، مصوّر يعمل في القطاع الخاص: "الناس تريد التغيير، الحكومة أهملت جوانب أساسية في حياتنا، فالغلاء وعدم ضبط الأسعار في الأسواق، ولا سيما في المواد الغذائية الأساسية، وكذلك الزيادة غير المعقولة في إيجارات البيوت أرهقت المواطن، ولا نرى كذلك، تحسّناً ملموساً في المساعدات الممنوحة لكبار السن والحوامل".
وقد سبّبت قضية رواتب المتقاعدين، الذين يصل عددهم إلى ما يقارب 15 مليوناً، معضلة انتخابية لحزب "العدالة والتنمية"، فقد أحجم كثيرون عن التصويت لهم، لعدم الاستجابة لمطلبهم، المتمثّل في زيادة رواتبهم، التي تبلغ في الوقت الحاضر 10 آلاف ليرة، بينما يبلغ الحد الأدنى للأجور 17 ألف ليرة، الذي ينخفض كثيراً عن خط الفقر في البلاد، والذي تجاوز 45 ألف ليرة.
وتحاول الحكومة تنفيذ إجراءات لتحسين الأوضاع المالية في البلاد، وأعلنت عن برنامج إصلاحي للاقتصاد، يتضمّن تخفيض التضخّم، ولكن فيما يبدو لم تكن الإجراءات التي قامت بها الحكومة ونتائجها حاضرة في حياة الأتراك اليومية، بما يكفي لإرضاء طموحاتهم وتوقّعاتهم، أو ما يرفع من العبء المالي الذي يرزحون تحته.
ويعبّر شنار أوغلو - موظف في القطاع الخاص - في حديثه للميادين نت عن هموم المواطن التركي التي لم تستطع الحكومة القائمة التعامل معها، قائلاً: "انخفاض قيمة الليرة وارتفاع مستوى الفقر وزيادة الإيجارات، هذه مشاكل يعاني منها الناس باستمرار، ولطالما وعدت الحكومة بحلّها، ولكنها لم تحلّها لسنوات، بل على العكس، تتفاقم هذه المشكلات مع مرور الأيام، لذلك يريد الناس تغيير الحكومة".
ترهّل إداري وتراجع في الخدمات
على مدى سنوات درجت البلديات في تركيا على تقديم خدمات ذات مستوى مميّز، وكان الشارع التركي يعبّر عن رضاه بمستوى أداء البلديات، خصوصاً التي يديرها "العدالة والتنمية"، غير أنّ المستوى العام تراجع في السنوات الأخيرة، بصورة أقلقت المواطن. وفي السياق ذاته يقول علي في حديثه للميادين نت: "هناك تراجع كبير في الخدمات من قبل البلديات التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية، وقد شعر الناس بذلك، فهناك غياب الاهتمام بإعادة إعمار المباني القديمة غير المضادة للزلازل، وكذلك هنالك تراجع ملحوظ في نظافة الشوارع والأسواق".
ولم تكن الشؤون البلدية هي المعيار الوحيد لدى الشارع التركي في الانتخابات الأخيرة، بل مثّلت الانتخابات - كما يرى مراقبون - شكلاً من أشكال الاستفتاء العام على الحزب الحاكم، وعلى الرئيس رجب طيب إردوغان، حيث يعزو المواطنون المشاكل البلدية إلى الترهّل العام الذي أصاب حزب "العدالة والتنمية" بعد سنوات طويلة من الحكم، وأدى إلى انتشار الفساد في مؤسسات الدولة المختلفة.
وهو الأمر الذي يؤكده شنار أوغلو، قائلاً: "في الفترة الأخيرة من عمر العدالة والتنمية، الذي استمر منذ 22 عاماً، حصل ترهّل إداري وزيادة في الفساد وقلة الجدارة وتدهور النظام الصحي وزيادة في الضرائب مع صعوبة العمل في مؤسسات الدولة، وهو ما أثّر على ثقة الناخب التركي بالحزب".
العدوان على غزة
ولم تقتصر الانتخابات المحلية التركية على الاهتمام بالسياسات الداخلية، بل تعدّتها إلى السياسة الخارجية للدولة، فقد كانت الحرب على غزة حاضرة في الانتخابات، وعبّر بعض الناخبين عن موقفهم الرافض لضعف مستوى تفاعل الحكومة مع ما يجري من إبادة جماعية وتجويع بحق المدنيين في غزة، وذلك عبر إبطالهم أصواتهم من خلال كتابة شعارات داعمة لغزة.
ويبدو أن الأتراك المحافظين، على وجه الخصوص، يرغبون بمواقف أكثر جدية من قبل الحكومة بخصوص الاعتداء الإسرائيلي المتواصل على فلسطين، وقد طالبت فئات من الشعب بدعم أكبر لأهل غزة، وتنفيذ مقاطعة رسمية للاحتلال، ولا سيما فيما يتعلق بالتبادل التجاري، الذي يعد مزدهراً بين الدولتين. وفي تصريح لـلميادين نت، يقول رسول أوزغور: "لم أصوّت لـلعدالة والتنمية، وكان أحد الأسباب المهمة، هو سياسة الحكومة المتراخية مع إسرائيل، كان يجب أن تقطع التجارة معها".
قاعدة " العدالة والتنمية" الانتخابية مع التغيير
لقد أشارت نتائج الانتخابات الأخيرة بوضوح إلى رغبة الشارع التركي في كثير من أطيافه في التغيير، بل إن رياح التمرّد على السياسات الداخلية والخارجية في البلاد، نالت من القاعدة الانتخابية التقليدية لـ"العدالة والتنمية"، إذ امتنع نحو 10% من أعضاء الحركة وأنصارها عن التصويت في الانتخابات، كإشارة تحذيرية للحكومة على سياساتها، وخصوصاً فيما يتعلق بالأوضاع الاقتصادية، إذ لم تَعد تُجدِ نفعاً في السنوات الأخيرة.
وكان هذا سبباً رئيسياً في تأخّر "العدالة والتنمية" في مؤشّر عدد الأصوات، حيث حصل على المركز الثاني لأول مرة منذ ما يزيد عن 20 عاماً، بنسبة وصلت إلى 35.5% من المجموع الكلي للناخبين، بينما رفعت أصوات الناخبين حزب "الشعب الجمهوري" ليتبوأ المركز الأول، بنسبة أصوات بلغت 37.7% من المجموع الكلي.
واستطاع حزب "الشعب الجمهوري"، أن يستحوذ على رئاسة بلديات 35 مدينة كبرى ومحافظة، وفي الوقت الذي لم يتحقّق الفوز لحزب "العدالة والتنمية" إلا في 24 بلدية، بخسارة تقدّر بـ15 بلدية مقارنة بالانتخابات السابقة، ناهيك عن خسارة كبيرة في البلديات الفرعية، وسيطرة المعارضة على الأغلبية داخل المجالس البلدية لكل من أنقرة وإسطنبول.
مستقبل غائم
على إثر صدور نتائج الانتخابات المحلية الأولية، ألقى الرئيس التركي خطاباً من شرفة المقر الرئيسي للحزب بأنقرة، وأعرب عن اهتمامه بمطالب الناس، وأشار إلى استلامه رسالة الناخب التركي، وقال: "لم نحقّق النتائج المرجوّة من الانتخابات المحلية، وسنحاسب أنفسنا، وسندرس الرسائل الصادرة عن الشعب".
وأكد إردوغان في خطابه أن النتيجة تشكّل "نقطة تحوّل"، وتعهّد بالمضي في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي اعتُمد في العام المنصرم، كما أعلن أن البلاد لن تذهب إلى انتخابات مبكرة، وأنهم يملكون وقتاً كافياً لاستدراك الوضع، وإصلاح الخلل قبل الانتخابات المقبلة المزمع عقدها في عام 2028.
ومع هذه الوعود التي قدّمها الرئيس التركي يبقى السؤال قائماً، هل سيتمكّن الأتراك من الحصول على مطالبهم، وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية بحلول الانتخابات المقبلة، أم أن الفترة المقبلة ستعزّز خيارهم نحو ضرورة التغيير؟