"نظام العدالة ليس صارماً".. هاجس الجريمة يشغل أذهان الناخبين الأميركيين
تشير الإحصائيات المحلية إلى أن نحو ستة من كل عشرة بالغين يضعون الحد من الجريمة على رأس أولويات الرئيس والكونغرس لهذا العام، ويُعدّ الجمهوريون أكثر تشدّداً في ذلك.
تُشكّل الجريمة في الولايات المتحدة مصدر قلق متزايد يقضّ مضاجع العديد من الأميركيين، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لعام 2024، تحتلّ قضايا الجريمة والسلامة مركزاً متقدّماً في اهتمامات الناخبين، حيث ترى غالبية ساحقة منهم أنّ الحفاظ على سلامة المجتمع أمر في غاية الأهمية.
وتشير الإحصائيات المحلية إلى أن نحو ستة من كل عشرة بالغين يضعون الحد من الجريمة على رأس أولويات الرئيس والكونغرس لهذا العام، ويُعدّ الجمهوريون أكثر تشدّداً في ذلك، ووفق استطلاع نشره مركز بيو في نهاية شباط/فبراير من العام الجاري، يعتبر نحو 68% من الجمهوريين أن الحد من الجريمة يمثل أولوية قصوى بالنسبة لهم، بينما لا يميل لذلك سوى 47% من الديمقراطيين.
وفي الوقت نفسه، لا يرى أغلب الأميركيين أن نظام العدالة الجنائية صارماً بما فيه الكفاية للتعامل مع الجريمة، لاسيما الجرائم المالية، مثل: الفساد السياسي والاحتيال المؤسسي. أو الجرائم الشخصية على الأفراد، مثل: الاعتداء الجنسي والعنف المنزلي والاتجار بالبشر.
ومن بين أشكال الجريمة، تُمثّل الهجرة غير النظامية القضية الأشد خلافاً بين الناخبين، إذ يقول أغلب الديمقراطيين إنّ القوانين الحالية لنظام العدالة فيما يتعلق بالمهاجرين غير النظاميين مبالغ فيها، فيما يعتقد أغلب الجمهوريين بأنّها متساهلة للغاية في حقهم.
العدالة الجنائية.. بين الإصلاح وفرض قوانين رادعة
تعتقد النسبة الأكبر من الناخبين أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أكثر صرامة في التعامل مع الجريمة من المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس، وعلاوة على ذلك، يعتقد البعض أنّ ترامب في حال وصوله إلى الرئاسة ربما يكون الأفضل بينهما في التعامل مع الجريمة، حيث يميل كثير من الناخبين إلى قوانين أشدّ صرامة مع أنواع معيّنة من الجرائم.
ولطالما اعتمد ترامب في حملته الانتخابية خطاباً متشدداً عند الحديث عن المجرمين، وفي فترة ولايته السابقة، دعا إلى فرض عقوبة الإعدام على تجّار المخدرات، وفي الوقت نفسه، تحظى العديد من سياسات العدالة الجنائية التي تدعمها هاريس بشعبية بين الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، مثل توجهاتها في معالجة التغيب المدرسي، ومحاولة ترسيخ جملة من المقترحات قانونياً، مثل سن قانون وطني يضع ضوابط استخدام الشرطة للقوة.
وفيما عدا قضايا معدودة، لا سيما برنامج التأهيل والتدريب المهني للمجرمين غير العنيفين، الذي يؤيده 85% من الأميركيين، بحسب استطلاع نشرته مؤسسة يوغوف في منتصف آب/أغسطس الماضي، فإن كلا المرشحين يتبنيان اتجاهين مختلفين إلى حد كبير في التعامل مع الجريمة، فالجمهوريون يطرحون عادة حلولاً للجريمة ترتكز في غالبها على رفع مستوى العقوبات، وزيادة عمليات الشرطة، بينما يسعى الديمقراطيون بشكل عام لإصلاح النظام.
معدلات الجريمة
يتعارض التصور السائد في المجتمع الأميركي حول معدّلات الجريمة مع البيانات الرسمية في البلاد، ففي حين يُعبّر أغلبية الأميركيين عن قلقهم من تزايد معدلات الجريمة، تؤكد الإحصاءات الرسمية أن تلك المعدلات تشهد انخفاضاً واضحاً منذ عقود.
ويلعب الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً محوريّاً في تكوين انطباعات الأميركيين حول طبيعة الجرائم ومعدلاتها، حيث يتم نشر مواد هائلة متعلقة بأنواع الجرائم المختلفة، ما يزيد من شعور المواطنين بتفاقم الأوضاع.
وفي اتجاه آخر، تشير أرقام مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، إلى تضاؤل معدلات الجرائم العنيفة في البلاد من العام 1993 وحتى العام 2022 إلى النصف، وتثبت انخفاضاً أكثر حدّة في معدّل الجرائم ضد الممتلكات. أما بيانات مكتب الإحصاءات الجنائية الأميركي فتعطي تقديرات أكثر انخفاضاً مما سجّله مكتب التحقيقات الفيدرالي بأكثر من عشرين نقطة.
ومن الجدير بالذكر أن الانخفاض كان مضطرداً في الغالب، غير أنّ بعض السنوات شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في معدل الجريمة العام أو في أنواع بعينها، أو في مناطق مخصوصة، فعلى سبيل المثال، ارتفعت معدلات الجريمة في سنة 2020 إلى أعلى مستوياتها، مقارنة بالسنوات التي سبقتها، ولم تعاود المعدلات الانخفاض كما كانت سابقاً حتى العام 2023. وبين عامي 2019 و2021، انخفضت جرائم الممتلكات مثل السطو والسرقة، بينما ارتفعت معدلات جرائم القتل بنحو 40% والاعتداء الشديد حوالى 50%.
وتشكل الأرقام المتعلقة بالجريمة تحديّاً للسلطات الأميركية، وتدفع إلى مزيد من الإنفاق الموجه نحو جهود مكافحة الجريمة، بدلاً من توجيهها إلى التنمية الاجتماعية. وفي دراسة أُجريت في جامعة شيكاغو، تم نشرها في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، تم تقدير التكلفة السنوية للجريمة في الولايات المتحدة ما بين 4.71 إلى 5.76 ترليون دولار، بما في ذلك، التكاليف المباشرة لإنفاذ القانون والعدالة الجنائية وخسائر الضحايا والتكاليف غير المباشرة للردع الخاص والخوف والمعاناة والوقت الضائع في محاولة تجنّب الجريمة والتعافي منها.
جذور تاريخية
رافقت الجريمة وأعمال العنف تاريخ المجتمعات الأميركية منذ عصر المستعمرات الأولى في القرن السابع عشر الميلادي إلى يومنا هذا، فقد تعرض الأميركيون الأصليون للعنف والتهجير والاجتثاث بشكل ممنهج على يد المستوطنين الجدد على مدار 300 عام، وشاع آنذاك القتل الجماعي والحرق والإبادة في قرى وتجمعات السكان الأصليين.
ولاحقاً، سجّل التاريخ القرن الثامن عشر باعتباره بداية ازدهار الجريمة في المستوطنات نفسها، فقد واصلت بريطانيا على مدى ذلك القرن نقل محكومين بجرائم مختلفة إلى المستوطنات الإنكليزية في الولايات المتحدة، حتى بلغ عددهم عشرات الآلاف، ودأبت السلطات البريطانية على اتخاذهم خدماً متعاقدين.
وبالرغم من انخراط كثير من المحكومين في النظام الجديد، غير أن بعضهم انفلت من النظام، وعاود ممارسة الجريمة، ومنذ أوائل القرن الثامن عشر، ترعرعت جرائم العنف مثل السرقة والاغتصاب والقتل والحرق العمد في مدينة فيلادلفيا، حتى أصبحت تُعرف باسم "عاصمة الجريمة" في المستعمرات.
وقد زادت حدّة الجريمة بحلول منتصف ذلك القرن، حيث أخذت بريطانيا تفرض ضرائب أكبر على المستوطنات، الأمر الذي جلب الفقر والبطالة، ورافق ذلك، زيادة كبيرة في تدفّق المهاجرين، وأدى الازدحام الحضري في المدن إلى تأجيج التوترات الاجتماعية وارتفاع معدلات الجريمة العنيفة، وفي تلك الآونة، نافست نيويورك، التي تضخم عدد سكانها، فيلادلفيا على اللقب.
وفي الريف أخذ اللصوص يُغيرون على المزارعين، وتربّص قُطّاع الطرق بالمسافرين، وأدى تدهور الأوضاع الأمنية إلى تشكيل المواطنين أول مجموعة أميركية من المتطوعين عام 1767، والتي سعت إلى ملاحقة أفراد العصابات ومعاقبتهم.
العصابات المنظمة وجرائم العنصرية
وفي القرن التاسع عشر، بدأت تظهر عصابات الجريمة المنظمة والعصابات ذات التوجه القومي، وتنامت تلك العصابات في العديد من المدن، وعلى وجه الخصوص المدن المكتظة، مثل نيويورك وفيلادلفيا، وتشكلت في الغالب من المراهقين واليافعين، وخاضت معارك دامية، وارتكبت كافة أنواع الجريمة، وقادت العديد من أعمال الشغب في أنحاء كثيرة من البلاد، وقد ساهمت أعمال العنف تلك في تطوير عمل قوات الشرطة في معظم المدن الأميركية.
وأثناء الحرب الأهلية التي نشبت في النصف الأول من ستينيات القرن التاسع عشر، خلّفت أعمال العنف أكثر من 600 ألف ضحية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، دخلت البلاد في طور الجرائم العنصرية ضد السود، الذين كانوا يكافحون بعد تحررهم لتعليم أنفسهم وتأهيلها، وأسّس العديد منهم أعمالاً تجارية أو زراعة بسيطة، ولكن أحداث العنف الأكثر شراسة وانتشاراً كانت مُوجّهة نحوهم على وجه خاص، فتعرّض نحو 2000 من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية للشنق، في الفترة الواقعة بين العامين 1882 و1903.
وكان القرن العشرين عصر التحالفات بين المنظمات الإجرامية، التي سارعت للسيطرة على نشاطات المقامرة والدعارة والمخدرات وغيرها من الأنشطة غير القانونية لكسب المال، وهيمنت العصابات على البنوك في الغرب الأوسط والجنوب.
ومع دخول البلاد في أزمة اقتصادية خانقة في مطلع الثلاثينيات، ارتفعت معدلات الجريمة إلى أوجها، وبصورة صادمة بدأت تنخفض لاحقاً مع استمرار تلك الأزمة، ونشوب الحرب العالمية الثانية، فانخفض معدل القتل بنسبة 50% بين عام 1933 وأوائل الأربعينيات، وانخفضت الجرائم الخطيرة الأخرى في الفترة نفسها إلى الثلث.
وبانتهاء الحرب، اشتعلت موجة عدائية جديدة ضد الأميركيين الأفارقة، وقُتِل أكثر من أربعين شخصاً من المطالبين بالمساواة من الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية في الجنوب أثناء حركة الحقوق المدنية التي استمرت بين العامين 1954 و1968.
وانفجرت أعمال الشغب في أواخر الستينيات في المجتمعات الأميركية من أصل أفريقي في مدن مثل لوس أنجلوس ونيويورك وديترويت وغيرها، وعادت جرائم الشوارع للارتفاع من جديد، ووصلت إلى ذروتها في السبعينيات، وفي أوائل الثمانينيات نمت الجرائم المتعلقة بالمخدرات، ومع أوائل التسعينيات انخفضت جرائم العنف بشكل حاد، وحلّت محلّها جرائم الكراهية المستندة إلى الانتماء العرقي والديني والتوجّه الجنسي.
في عام 1994، سنّت إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أكبر مشروع قانون فيدرالي شامل لمكافحة الجريمة، وعملت على زيادة أعداد العاملين في مجال الشرطة وإنفاذ القانون وبناء سجون جديدة، ورفع الموارد المخصصة لذلك، وإنشاء مكتب العنف ضد المرأة، ومكتب خدمات الشرطة الموجهة نحو المجتمع، وأثمر ذلك عن انخفاض جليّ في معدلات الجريمة على مستوى البلاد، ولكن ذلك صاحبه زيادة كبيرة في أعداد المسجونين.
إعاقة التنمية المجتمعية
تُعدّ الجريمة واحدة من أكثر المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الأميركي، حيث تأتي في المرتبة الثانية كمصدر قلق عام بعد مشاكل الاقتصاد والأوضاع المعيشية، ويعمد العديد من الأميركيين إلى الهجرة خارج المدن ذات معدلات الجريمة الأعلى بحثاً عن مجتمعات أكثر أماناً.
وتؤثر الجريمة بشكل مباشر على حياة الأفراد وتنمية المجتمع، إذ إنّ شعور الأفراد بالأمان أو انعدامه يساهم بشكل كبير في تحديد قراراتهم وكيفية تعاملهم مع الآخرين، وبالتالي جودة حياتهم وقدرتهم على الاندماج في المجتمع.
وتعيق الجريمة التنمية المجتمعية في مناطق عديدة من البلاد، حيث يتسبب ارتفاع معدلات الجريمة، لاسيما الجرائم العنيفة وجرائم الممتلكات في فشل المشاريع التجارية، التي توفر قاعدة اقتصادية للمنطقة، وينجم عن إغلاقها تراجع الموارد المالية للسكان، وهو الأمر الذي يحدّ من فرص النمو الاقتصادي والاجتماعي، ويُحفّز في الوقت نفسه ارتفاع معدلات الجريمة، وعلى سبيل المثال، شهدت بعض أحياء شيكاغو عقب سحب الاستثمارات التجارية لعقود جملة من جرائم القتل واستخدام الأسلحة النارية.
وتُعدّ المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، والتي تعاني من عدم المساواة الكبيرة في الدخل وانخفاض التحصيل التعليمي وانتشار البطالة والفقر، أكثر عرضة لارتفاع معدلات الجريمة، بينما يعزز ارتفاع التحصيل العلمي فرص الكسب، مما يُقلّل من حاجة الأفراد إلى الانخراط في السلوك الإجرامي.
وتعمل السلطات الأميركية على الحدّ من الجريمة بوسائل عديدة، أبرزها تنشيط برامج تعليم وتأهيل المحكومين، والعمل على دمجهم في المجتمع، كما تُشجّع القطاع الخاص على المساهمة في معالجة العوامل المؤدّية للجريمة، عن طريق خلق فرص عمل وزيادة موارد الضرائب، واستخدامها في دعم التنمية المجتمعية وتعزيز البنية التحتية المحلية، بما في ذلك برامج السلامة ومبادرات تنمية الشباب وبرامج القوى العاملة.