"رصاص على المُهور" .. كيف أنعشت الحرب الزواج في السودان؟
كثيرون من شبان السودان وجدوا في الحرب فرصة لتحقيق أحلامهم بشأن الارتباط الشرعي بشريكاتهم، والتي عطلها غلاء المهور لأعوام في ظل ارتفاع معدلات البطالة وسط هذه الشريحة.
يكافح عبد الكريم آدم، وهو شاب سوداني في العقد الثالث من العمر، منذ خمسة أعوام في سبيل إكمال زواجه بخطيبته، لكن جهوده تصطدم دائماً بالتكاليف العالية للزفاف في هذا البلد، قبل أن تندلع الحرب وتُمزّق فواتير الزواج، بما فيها المهور الباهظة، ليُحقّق حلمه بدخول القفص الذهبي، بعد مراسم مبسطة.
عبد الكريم، الذي كان يحتاج في السابق إلى مبلغ يصل 8 آلاف دولار أميركي على الأقل لإكمال عملية الزواج، لم تكلفه مراسم زفافه، الذي تم في آب/أغسطس الماضي، سوى 300 دولار، ليستمتع بوجه آخر للحرب الجارية في بلاده، كونها شكلت له نصراً ذاتياً، وتحقيق الحلم الذي ظل يراوده أعواماً بالحصول على شريكة حياته، وفق ما يرويه للميادين نت.
ليس عبد الكريم آدم وحده، لكن كثيرين من شبان السودان وجدوا في الحرب فرصة لتحقيق أحلامهم بشأن الارتباط الشرعي بشريكاتهم، والتي عطلها غلاء المهور لأعوام، في ظل ارتفاع معدلات البطالة وسط هذه الشريحة. وتعكس عدة مؤشرات زيادة كبيرة في معدلات الزواج، خلال الفترة التي أعقبت اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع، منتصف نيسان/أبريل من العام الماضي، إلى اليوم.
وبحسب مصدر في السلطة القضائية في السودان تحدث إلى الميادين نت، فإن طلبات إصدار وثائق الزواج ارتفعت بنسبة تفوق 30 في المئة خلال عام مقارنة بالأعوام الماضية، وهذه النسبة ربما لا تعكس مؤشر الارتفاع الفعلي، والذي يُتوقع أنه أكبر من ذلك كثيراً، نظراً إلى وجود زيجات لا تُوَثَّق، وحصوصاً في المناطق خارج سيطرة الدولة حالياً في غربي البلاد ووسطها.
ما سبب الارتفاع؟
رواية يعززها حسين الشفيع، وهو مأذون شرعي في منطقة كرري شمالي مدينة أم درمان، التي تقع ضمن سيطرة الجيش، والذي كشف بدوره للميادين نت ارتفاعاً كبيراً في معدل الزواج في منطقته، إذ تصله 7 طلبات على الأقل لعقد قران في يوم الجمعة من كل أسبوع، كما يعقد زيجات في غير يوم الجمعة، بينما كان يُكمل زيجتين كل يوم جمعة قبل اندلاع الحرب الحالية.
ويقول الشفيع إن ما لديه من معطيات يعكس حقيقة وجود ارتفاع كبير في معدلات الزواج، نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية للأسر، والضائقة التي سببتها الحرب، والتي دفعت أولياء الأمور إلى إكمال زواج بناتهم في مراسم بسيطة غير مكلفة، بغرض التخلص من بعض الأحمال المعيشية الواقعة عليهم، نسبة إلى وجود فتيات داخل المنزل لهن احتياجات عالية، في ظل عدم وجود مصدر للكسب المالي.
ويقول: "كنا دائماً ندعو إلى تبسيط الزواج وعدم المغالاة فيه، لكن العائلات لم تكن تستمع إلى حديثنا. وكان نتيجة ذلك بقاء الفتيات في المنازل، ولم يتقدم أحد من أجل الارتباط بهن، فتغيرت الأوضاع بعد اندلاع الحرب. وعلى المستوى الشخصي، قمت بتزويج ابنتي خلال الأيام القليلة الماضية، وفق مراسم محدودة".
وبينما كانت أصوات المدافع تُدوّي في مدينة أم درمان، شمالي العاصمة السودانية، نصب عبد الكريم آدم خيمة صغيرة تسع نحو 20 شخصاً، أمام منزل عائلة العروس، واختصر المراسم كلها في عقد القران في المسجد المجاور، مع إعداد وجبة غداء لعدد محدود من الأشخاص، وهم بعض أقربائه وأصدقائه، إضافة إلى شراء بعض الهدايا والملبوسات للعروس.
يقول آدم، في حديثه إلى الميادين نت: "أشعر ببهجة كبيرة لأنني تمكنت من إكمال زواجي بصورة مبسّطة يتلاءم مع حالتي المالية، وهذه الخطوة فشلت في تحقيقها سابقاً، نتيجة للمطلوبات العالية للزفاف، والتي تتطلب تجهيز المنزل بصورة كاملة، ومراسم في صالات باهظة الثمن، ومبالغ كبيرة تُدفع إلى والدة العروسة، وغيرها من التقاليد المكلفة التي تفوق مقدرتي، إذ إنّي حديث التخرج في الجامعة، ولم أعثر على وظيفة بعد".
ويضيف: "بدأنا مرحلة جديدة من حياتنا على رغم ظروف الحرب. انتظرنا طويلاً، ولن يتوقف القتال في وقت معلوم، فكان لزاماً علينا أن نجتهد من أجل هذه اللحظة، التي نشعر بفخر وفرح في بلوغها، ويقيننا كبير بأن ييسر لنا الله سبل العيش، ونصيحتي لكل الشبان ألا يتركوا أحوال القتال تبدد أحلامهم في الحياة، وأن يمضوا قدماً".
ملهم زواج الحرب
كان عثمان عبد الله والطبيبة ماريا أحمد، وهما شابان وناشطان في ثورة ديسمبر التي أنهت حكم الرئيس عمر البشير، أول من ابتدآ فكرة الزواج المبسط، فلقد قررا، خلال الشهر الأول من اندلاع الحرب، الانتصار لقصة حبهما التي تطاول أمدها وإكمال زفافهما، الذي اقتصر على عدد قليل من أصدقائهما في زفة قصيرة أمام مستشفى النو في مدينة أم درمان والذي يتطوعان فيه، وكانوا يرددون هتافات مثل "بنادق وين البتحمينا العديل والزين"، وتعني أن الرصاص لن يمنعهم من الزواج ومواصلة الحياة، في اللحظة التي كانت القذائف تتساقط عشوائياً قربهم، ووتيرة العنف في ذروتها.
ومنذ ذلك الحين، صار زواج الحرب مزاجاً عاماً للشبان السودانيين استلهموه من هذه التجربة، وسارع معظمهم من أجل تحقيق أحلامهم بشأن الارتباط الشرعي، فصارت تجري الزيجات في صمت تحت وابل الرصاص ودوي المدافع والطائرات، بخلاف الصخب السابق في مراسم الزفاف، مع غياب معظم الطقوس والتقاليد الخاصة بأهل هذا البلد.
مطلع آب/أغسطس الماضي، جرى تنظيم زواج جماعي لـ60 شاباً داخل مخيم لإيواء النازحين في منطقة أم شجيرات في ولاية القضارف شرقي السودان، بعد أن فرّوا من نيران القتال المحتدم في العاصمة الخرطوم، وغربي البلاد ووسطها، وتخلّله فرح واسع وإظهار لقوّتهم وعدم مقدرة ظروف الحرب على الحيلولة دون تحقيق أحلامهم وحقهم في الزواج.
حسام عبد الرحمن، شابّ من ولاية سنار وسط السودان، هو الآخر استطاع هزيمة ظروف الحرب القاسية والانتصار لقصة حبه وتتويجها بالزواج، مستفيداً من نيران القتال التي قضت على التقاليد السابقة للزفاف، وما يتخللها من مغالاة وتكاليف باهظة، تفوق استطاعة الشبان الذي يرزح 60 في المئة منهم في خانة العاطلين عن العمل.
كسر جدار العنوسة
ويروي عبد الرحمن، في حديثه إلى الميادين نت، أن يخطط منذ عامين من أجل الزواج، وكان يرتب تشييد منزل في منطقته، وبعد اندلاع الحرب فقد مصدر دخله المالي، الأمر الذي اضطره إلى التوقف عن عملية البناء والتي صاحبها إحباط شديد.
ومع تطاول أمد القتال، اكتشف أن الزواج لم يعد في حاجة إلى عناء وتكاليف باهظة مثلما كان في السابق، فتشاور مع خطيبته التي وافقت على فكرة الزواج المبسط، وباركت العائلات، واكتملت المراسم بيسر، وتستمر حياته حالياً على رغم ضائقة الحياة.
وكانت التكاليف الباهظة للزفاف أحد أبرز أسباب عزوف الشبان عن الزواج وارتفاع معدل العنوسة وسط الفتيات في السودان. وتوجد 4 ملايين فتاة في سن الزواج، ولم يتزوجن بعدُ، نتيجة أسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية، وفق تقرير رسمي أصدرته وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية في البلاد خلال عام 2022.
ثقافة الزواج المبسط صارت سائدة حتى في المناطق الآمنة، التي لم تصلها نيران الحرب في السودان، لأن سكان هذا البلد يعيشون واقعاً اقتصادياً بالغ السوء، أفرزه القتال المستمر منذ أكثر من عام، وهو ما حدث مع سلمى، وهي شابة من ولاية كسلا، شرقي البلاد، انتصرت لحبها عبر مراسم زواج بسيطة.
تقول سلمى، في حديثها إلى الميادين نت: "ليست الفتيات من يتمسك بزواج باذخ وتكاليف كبيرة، بقدر ما هي رغبة وسلوك تمارسهما العائلات كنوع من التباهي، الأمر الذي أضر بنا. وعندما اندلعت الحرب اتفقت مع خطيبي على إكمال زواجنا عبر جلسة محدودة نقدم خلالها الشاي فقط، لكنه أصرّ واشترى بعض الذبائح وأقام طقوساً بسيطة مقارنة بالسابق، فاكتمل زواجنا بكل يسر، وسط فرحة الأهل والأصدقاء".