"أهوال البحر أرأف المخاطر".. البحارة السوريون يواجهون استغلال السماسرة
يتنافس السماسرة كل عام على جذب أعداد الخريجين الكبيرة واستغلال حاجتهم الماسة، إذ أصبحت الشركات وملاك السفن يفضلون العمالة من الجنسية السورية إضافة إلى الهندية والمصرية، لأنهم يدفعون عمولة عالية للحصول على فترة التدريب ويقبلون براتب قليل.
ورث أبناء الساحل السوري عن أجدادهم الفينيقيين حب البحر، الذي لا يزال يُشكّل مصدر رزق رئيسي للكثيرين منهم، حتى أنّ العمل على متن السفن التجارية تاريخياً، كان يقتصر عليهم، لكنّ أسهم هذه المهنة ارتفعت بشكل كبير بعد عام 2011 بين الشباب السوري، بسبب رواتبها التي تُمنح بالعملة الصعبة في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد.
ويبلغ عدد البحارة السوريين نحو 80 ألفاً، يعملون على حوالى 1000 باخرة تحمل أعلاماً أجنبية، بينما انخفض عدد السفن التي ترفع الأعلام السورية من 350 إلى ثلاث سفن حكومية فقط، إذ غادرت أغلب الشركات الخاصة مقراتها في البلاد، واتجهت إلى رفع أعلام دول أخرى لتجنّب العقوبات.
السماسرة.. وُجهة الباحث عن عمل!
"ما اجتمع سوريان، إلا وكان حديث السفر ثالثهما"، هذا ما قاله الطالبين بشار وأحمد الذين كانا يشربان القهوة معاً، جالسين على أحد المقاعد في الكورنيش الغربي باللاذقية.
عدة أشهر فقط تفصلهما عن التخرج من الأكاديمية البحرية التي دفع الأهل "دم قلبهم وكل ما يملكون" من أجل تحقيق حلم أبنائهم بالدراسة فيها، على أمل أن يتقاضوا من عملهم على متن السفن مستقبلاً رواتب مجزية تنقذهم من جحيم ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية بعد الحرب.
لكن أحلام العمل في هذا القطاع دائماً ما تصطدم بعائق الخبرة، أو ما يعرف "بأول سفرة"، يشرحها الطالب بشار للميادين نت: "نتخرج بصفة طالب ضابط، أو "كاديت"، بعد عامين من الدراسة، ويجب علينا كي ننال الشهادة، أن نمضي في البحر خدمة لمدة سنة واحدة على أي سفينة تجارية، وعلى عكس خريجي أي كلية أو معهد، لا نذهب للبحث عن فرصة عمل مباشرة بل نذهب إلى السماسرة".
يتنافس السماسرة كل عام على جذب أعداد الخريجين الكبيرة واستغلال حاجتهم الماسة، إذ أصبحت الشركات وملاك السفن يفضلون العمالة من الجنسية السورية إضافة إلى الهندية والمصرية، لأنهم يدفعون عمولة عالية للحصول على فترة التدريب ويقبلون براتب قليل.
فتجري العملية بأن يكون السمسار وسيطاً بين الخريجين وبين الشركات وأصحاب السفن الذين يطلبون بحارة بشرط الخبرة، برواتب لا تتعدى 500 دولار (حوالى 8 مليون ليرة سورية) في الشهر، وبمبلغ سمسرة يصل أحياناً إلى 3000 دولار.
"من أين نأتي بالخبرة؟!" يتساءل أحمد، ويتابع: "بسبب ظروف البلاد لم يتح لنا كأجيال جديدة التعلم والاحتراف كما أتيح للأجيال السابقة. يجبروننا أن ندفع كل ما نملك من أجل هذه السفرة الأولى".
تنتشر إعلانات السماسرة في صفحات فيسبوك، وتمتلئ هواتف الطلاب بأرقام مختلفة لهم، وبرغم أن الكثيرين نجحت معهم هذه الطريقة وسافروا، لكن في المقابل هناك الكثيرون أيضاً ممن تعرضوا للنصب والاحتيال، كما حدث مع أحد أصدقاء بشار الذي قال: "باع صديقي الأرض التي يمتلكها والده واستدان مبلغاً إضافياً كبيراً من المال من أجل أن يدفع للسمسار الذي رسم له أحلاماً وردية، لا بل وجلب شباناً كشهود على أنهم سافروا معه سابقاً ليدعم موقفه، لكن الذي حصل أنه وبعد استلامه المال اختفى، ولم يستطع صديقي القيام بأي إجراء قانوني لأن السمسرة غير مُجرّمة بالقانون السوري".
"الواقع لا يشبه أحلامنا"
يقضي البحار عمار شيخ سليمان أكثر وقته هذه الأيام مع أبيه الستيني، ضمن دكانهم الصغير الذي يبيع المواد الغذائية، في أحد الأحياء الشعبية في مدينة اللاذقية. "ما أدفأ هذا المكان!"، أبادر بالقول ليرد عليّ العم أبو عمار: "كله بفضل تعب وكد ابني الجدع الكابتن أبو قصي".
يضحك الشاب الثلاثيني ويقول للميادين نت: "أنا أعمل في الإبحار على متن السفن، التي يستغل أكثر أصحابها حاجتنا الماسّة إلى العمل، بشكل عام هناك فروق كبيرة بين رواتب الشركات الخاصة العربية والأجنبية، ورواتب الشركات الخاصة في سوريا، أما الموانئ الحكومية فتمنح أقل من ربع هذه المبالغ، صحيح أن رواتبنا قليلة ولا تتناسب مع القوانين العالمية للبحار، ولا المخاطر التي نواجهها، لكنني استطعت أن أوفر بعض المال لأرد جزءاً من جميل أبي عليّ، وأفتتح له هذا الدكان ليكون مصدر رزق له وليسلّي نفسه في غيابي".
عند عودته من كل رحلة، يُقابَل البحار الوحيد في الحي بوابل من الأسئلة التي يطرحها الأهل والجيران، الأطفال منهم خصوصاً عن المدن التي زارها والأطعمة التي جربها والأجانب الذين قابلهم، لكن "الواقع لا يشبه أبداً ما صوّرته لنا الأفلام والمسلسلات"، بحسب شيخ سليمان، الذي يشرح: "لا أعلم كيف أستطيع أن أفهمهم أننا كبحارة سوريين، مُنعنا منذ بداية الحرب من حقنا في النزول حتى على أرصفة الموانئ في أغلب البلدان، حتى أنني أعرف بحّارة طردوا بسبب ذلك، كما أننا نُعامل معاملة سيئة في الموانئ العربية أكثر من الموانئ الأوروبية، عدا عن أننا بتنا نخضع لمراقبة صارمة وتدقيق كبير، بسبب استغلال البعض منا لوظيفتهم والهروب إلى دول أخرى، ما جعل أصحاب الشركات مالكة السفن يطلبون مبالغ تأمين كبيرة منا وتوقيع تعهّدات".
"كذهاب الجندي إلى المعركة"، هكذا يُشبّه الشاب الثلاثيني ذهابه إلى رحلته البحرية، فهو لا يعرف إذا ما كان سيعود أم لا، نظراً إلى العواصف الشديدة واحتمالات الموت الكبيرة التي تواجههم، بالإضافة إلى الظروف السيئة على متن الباخرة، التي يعددها: "العنصرية المقيتة تجاهنا كسوريين مؤذية للغاية، تنعكس على حصصنا في المياه والطعام التي تعد الأقل والأسوء نوعاً، من ناحية أخرى نعاني من التأخر في استلام مصروفنا الشهري، كما أن الكثيرين منا يخضعون للتحقيق بسبب جنسيتنا السورية، ويُترَكون لمواجهة مصيرهم لوحدهم بمجرد الوصول إلى المطارات، من دون تأمين سبل العودة إلى البلاد".
تخلق الحياة بين البحارة على متن الباخرة روابط وأواصر من نوع آخر، إذ تجمعهم الغربة والبعد عن الأهل، فيتناوبون على رعاية المريض منهم، ويتّحدون في مواجهة العواصف تمسكاً بأمل النجاة بأرواحهم، إذ إنهم "لا يهمّون أحداً"، على حد تعبير البحار الشاب الذي ختم حديثه قائلاً: "بعض البحّارة قضوا غرقاً ولم يستلم أهاليهم الجثمان، بسبب تهرب مالك السفينة، لقد أصبح التخلي عن السفن والطاقم شائعاً، بسبب تراكم الديون على مالك السفينة ومنعها قانونياً من الرسو في أي ميناء".
هل تُصلح النقابة ما أفسده السماسرة؟
بعد عقود من النضال والمطالبات المتكررة، أحدث الاتحاد العام لنقابات العمال في سوريا، العام الماضي، نقابة جديدة تحت اسم نقابة البحارة والعاملين في أعالي البحار، ومقرّها طرطوس.
تعنى هذه النقابة بقضايا السوريين العاملين على مختلف السفن التجارية، سواء المملوكة لسوريين أو المسجلة تحت العلم السوري أو في دول أخرى بمختلف رتبهم وفئاتهم، وذلك التزاماً بأحكام اتفاقية العمل البحري الدولية لعام 2006.
وأكد الكابتن محيي الدين طعمة رئيس النقابة أنه سيكون للبحارة السوريين حول العالم فوائد كثيرة من الانضمام للنقابة، "فهي ستكون عوناً لهم، وتؤمّن استرجاع حقوقهم من شركات التأمين، وتساعد في عودة من ينجو من غرق سفينة، وتعيد جثمان من غرق إلى أهله".
"أولى الخطوات التي اتخذتها النقابة هي محاربة السمسرة، وهو ما جعلها تتعرض للمحاربة وتشويه السمعة رغم حداثة تأسيسها"، بحسب الكابتن طعمة، الذي عزا أسباب قلة عدد المنتسبين إلى قيام بعض الشركات بتهديدهم بعدم منحهم فرص للعمل على سفنهم.