"للحديث بقية" في جباليا: غواية الإذلال المتسلسل تُشعل مخيم الثورة
في الوقت الذي ادعى الاحتلال أنه عائد إلى طاولة المفاوضات من موطن قوة، تلقى صورة الإذلال التي لا تزال عصية على التجرع. سيكذب وينفي، ثم ستجبره "بقية الحكاية" على الإذعان مجدداً. ووسط ذلك كله، ستبقى جباليا روح الثورة التي لا تموت.
خلافاً للجماهير التي تحرّقت شوقاً وفضولاً لمشاهدة خطاب الناطق العسكري باسم كتائب القسام أبي عبيدة الأخير، الذي فاجأ الجميع في توقيته وساعة نشره، حظي أهالي مخيم جباليا بميزة السبق في معرفة التفاصيل سلفاً، فهي المعركة الوحيدة منذ بداية الحرب التي يتابعها الشبان والرجال من كثب. أولئك الذين لم يغادروا المخيم حتى اللحظة، سمعوا من المقاومين ذاتهم ما فعلوه، ثم هرعوا من المخيم إلى حيث يتكدّس النازحون يزفّون البشرى: "الشباب قتلوا وأسروا كوم جنود في المعسكر". مضى الخبر في بداية الأمر كأنه واحد من الإشاعات التي خشي الجميع التعاطي معها على أنها حقيقة خشية الخيبة بعد الفرح. وحين أعلن الملثم عن خطاب قرابة منتصف ليلة السبت، صدقت البشرى، واستحالت الإشاعة ألذّ حقائق هذه المعركة.
كان لا بدّ من أن تترك جباليا بصمة خاصة بها. هي منطقة مغايرة عن كل ميادين القتال. نقطة التمايز ليست في الطبيعة الهندسية المزدحمة بالبيوت الضيقة المتراصة، إنما في البناء الاجتماعي الثوري الفريد. جميع الرجال والنساء عايشوا بداية الانتفاضة الأولى عام 1987 التي اشتعلت بين أزقتها وشوارعها. وحين يجلس هؤلاء الذين صبغ الشيب رؤوسهم على عتبات المنازل، يستذكرون مطاردات جيب "شمار كفول" و"الصرصور"، ويستحضرون ذكريات الإصابة الأولى بالرصاص المطاطي، ثم الحي. تلوح في الذهن الحاجة أم محمد التي استطاعت أن تُخلّص ابنها من بين أيادي الجنود، وأم عامر التي سكبت الماء المغلي في وجه أحد الضباط بعدما صفع ولدها الصغير يوماً ما، وليس الشبان الذين يسطرون الملحمة اليوم سوى أبناء وأحفاد جيل الثورة الفريد.
ليس مفاجئاً للأهالي أن يسمعوا خبر استشهاد الشاب العشريني أبو عماد عقل "حيدرة". لم ينسَ الأهل هنا بطل كتائب القسام التاريخي عماد عقل (1992)، "الشبح ذا الأرواح السبعة"، الذي دوّخ جيش الاحتلال في 26 عملية في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل أن يتجاوز 22 عاماً من عمره، نفذها جميعها من مسافة صفر. عادت الروح ذاتها، ليس في ابن أخيه "حيدرة" بطل نخبة القسام فحسب، إنما في جيلٍ كاملٍ من أشباهه يطبقون التكتيك نفسه أيضاً.
اقرأ أيضاً: أبناء جباليا صامدون في كفّ النار: أرواحٌ "احتياطية" خلف مقاومي المخيم
هو المخيّم الذي شكّل أهمّ محطات مهندس القسام الأول يحيى عياش (1995). هو المعسكر الذي خرج منه أول منفذ عملية استشهادية في تاريخنا المقاوم، بطل "أسد الله الغالب"، الذراع العسكرية الأولى لحركة الجهاد الإسلامي أنور عزيز، ومنه أيضاً، وبالتحديد من حي تل الزعتر، خطط ونفذ "جيفارا غزة" محمد الأسود معظم عملياته. تشهد كل حارة من حاراته على ذاكرة حية قريبة وبعيدة لبطل من الأبطال الخالدين: فوزي أبو القرع، ومجدي التلولي، وحاتم السيسي، وإسماعيل أبو القمصان، وهاني أبو سخيلة، ومقلد حميد، وشادي مهنا، وأيمن الرزاينة، ومحمود جودة، وحسن المدهون، ومحمود المبحوح، وعبد الله محيسن، وحسام أبو حبل. فيض هائل من الأبطال الذين لم تغادر أرواحهم شوارع المخيم وأزقته إلى اليوم. تحفظ الأجيال المتقادمة أسماء هؤلاء وسيرهم إلى اليوم.
حادثة خطف الجنود التي أعقبت تصريح المتحدث باسم جيش الاحتلال بيوم واحد، والذي خرج متفاخراً يعلن النصر من مخيم جباليا، عقب تمكنهم من استعادة عدد من جثث أسراهم، تتجاوز في رمزيتها قدر الإهانة المعنوية التي منيت بها المؤسسة الأمنية لدى الاحتلال، وتتجاوز أيضاً البطولة العملياتية للشباب المنفّذين، إذ تقدم جباليا جملة من المفارقات اللافتة، فقد نفذ المقاومون عمليتهم يوم السبت؛ اليوم نفسه الذي نُفّذ فيه هجوم السابع من أكتوبر، وفي 25 أيار/مايو ذكرى عيد المقاومة والتحرير في لبنان.
وفي الوقت الذي ادعى الاحتلال أنه عائد إلى طاولة المفاوضات من موطن قوة، وسط مفترقات الطرق كلها، فإنه تلقى صورة الإذلال التي لا تزال عصية على التجرع. سيكذب الاحتلال وينفي، ثم ستجبره "بقية الحكاية" على الإذعان مجدداً. ووسط ذلك كله، ستبقى جباليا روح الثورة التي لا تموت.