"لا تتركوا أيّ شاهد حيّ".. ناجون من "صبرا وشاتيلا" يروون أهوال المجزرة
يقف الإنسان غير قادر على التصديق، أمام أي قصة قد تسرد ما جرى في تلك الأيام، عن الأهوال التي عاشها سكان مخيم صبرا وشاتيلا من الجنسيات الفلسطينية واللبنانية والسورية وعددٌ قليل من جنسيات أخرى. ليبقى من نجا الشاهد الأبرز بذاكرته ودماء شهداء عائلته وأحبائه.
"عم يقتلونا، الحقونا يا ناس، فاتوا عالمخيم وعملوا مذبحة"، ما بالُ هذه المرأة؟ على الأغلب أنها جُنّت!
كانت تلك ردة فعل سكان إحدى المناطق في مدينة بيروت، عندما جاءت سيدة فلسطينية هاربةً من مخيم صبرا وشاتيلا؛ طالبةً النجدة من مسلّحين اقتحموه ونفذوا مجزرة فيه.
لطالما أراد من ارتكب مجزرة صبرا وشاتيلا ردم الذاكرة، وطمر تفاصيل تلك الجريمة المروعة، ولكن في كل عام، وعلى الرغم من تراكم المجازر الإسرائيلية حتى اليوم، حفرت ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا مكاناً خاصاً في صفحات التاريخ، كونها الذروة النكراء التي وصل إليها الحال عقب خروج أكثر من عشرة آلاف فدائي فلسطيني من العاصمة اللبنانية بيروت، بموجب اتفاقية "حبيب"، قبل أسبوعين من تاريخ السادس عشر من أيلول عام 1982.
يقف الإنسان غير قادر على التصديق، أمام أي قصة قد تسرد ما جرى في تلك الأيام، عن الأهوال التي عاشها سكان المخيم من الجنسيات الفلسطينية واللبنانية والسورية وعددٌ قليل من جنسيات أخرى. ليبقى من نجا الشاهد الأبرز بذاكرته ودماء شهداء عائلته وأحبائه.
بلسان من نجا
بدأت المجزرة في الساعة الخامسة بعد ظهر يوم الخميس الموافق للسادس عشر من أيلول 1982، حينما خرجت فتاة تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً مع صديقتها للعب، فرأتا أفراداً يرتدون الزيّ الأخضر الغامق من رجالات سعد حداد، حليف الاحتلال الإسرائيلي، وحزبي الكتائب والقوات اللبنانية.
تروي الفتاة التي خرجت من المخيم هرباً وفضّلت عدم الكشف عن اسمها، أن عدداً كبيراً من سكان المخيم ركضوا حاملين الرايات البيضاء باتجاه المسلحين الذين قاموا بإطلاق النار عليهم، وكانت تلك بداية المجزرة التي استمرت 38 ساعة تحت أعين الاحتلال من خلال منظار رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون في المدينة الرياضية، الذي قرر الاكتفاء "بالإشراف" على ما جرى.
تضيف الفتاة: "ابن عمي عمره 9 أشهر، كان عم يبكي، قوّصوه"، لأنّ مسلّحاً "لم يعد يطيق صوته!". بدأت بعدها بالبكاء قائلة: "إنه الوحيد الباقي من عائلتي"، فأخذه المسلح و"فسخه إلى نصفين".
ناجية أخرى هي وأخوها تروي ما حدث معهما، قائلة: "اختبأنا في الخزانة وقطعنا صوت النّفس حتى ما يسمعوا ويقتلونا"، هربا بعد ذلك حتى وصلا إلى أحد المباني، وقفا تحت الدرج، فلحق بهما مسلحون ما حوّلهما إلى ممثّليْن مُحترفَيْن أدّيا دوراً تمثيلياً، وليس أي دور، بل كان مشهد الموت، ادّعيا في ذلك الوقت أنهما ميّتان.
اعتقل المسلحون النساء والأطفال واضعين إياهم في صف أمام البيوت، وقتلوا الرجال والصبيان، ودُفنت جثث الشهداء في المدينة الرياضية، حيث أقام المسلحون، بحسب أحد الشهود، حفرة كبيرة شبّهها الناجي الحاج محمود (اسمٌ مستعار)، بـ"صحن الشوربة"، لكثرة الجثث المتكدسة فيه، والتراب الذي بات مبلولاً بالدم الكثير. يقول الحاج محمود الذي أجبره أحد المسلحين على دفن الشهداء: "كان شوب يومتها، نار حريق جهنم، والعرق عم يكدنا كد، وكنا ماشيين بطابور عالمدينة الرياضية وريحة الدم بكل مكان".
بعد ذلك، رأى الحاج محمود شاباً يدعى إلياس، كان ابن أحد الرجال الذين يعمل الحاج عندهم، فنشأت صداقة بين العائلتين وتبادل للزيارات، وبعد اندلاع الحرب، أصبح والد إلياس مؤيداً لحزب الكتائب اللبنانية، انتبه إلياس للحاج محمود وتذكره، فما كان منه سوى أن اندفع باتجاه أحد رفاقه قائلاً: "دخيلك يا روبير، دخيل اختك، خدمني هالخدمة"، فقال له: "شو بيك؟"، فردّ إلياس: "دخيل اختك هيدا الحاج آخر واحد، هيدا مربّيني، وفي خبز وملح بيناتنا"، فانصاع روبير مُكرهاً لطلب صديقه، وذهب ناحية الحاج محمود طالباً منه الوقوف والسير أمامه باتجاه إلياس، الذي أمسكه من يده وبدأ بالركض بعيداً عن الرصاص الذي كان يُلاحق الناس، طالباً منه ألّا يلتفت خلفه، فوصلا إلى جانب السفارة الكويتية وكانت الجثث المتكدسة لا تزال تتوالى أمام أعينهما.
يقول الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله في روايته "أعراس أمنة": "هذه الحكايات اليتيمة التي لا يكتبها أحد، فالحكاية التي لا نكتبها، أتعرف ما يكون مصيرها؟ إنها تصبح ملكاً لأعدائنا". ما سبق من قصص المجزرة ليس إلا بعضاً من مئات القصص التي تحكي عن النجاة من ذلك اليوم، فصبرا وشاتيلا ليس حكاية الموت فقط، بل حكاية فصول النجاة من شراهة الإجرام، التي مر بها كل من استطاع البقاء حيّاً.
القاتل إن حكى
عند الساعة الثالثة والنصف من صباح يوم الأربعاء الواقع في 15 أيلول/سبتمبر عام 1982، اجتمع أهم مساعدي أمين الجميل العسكريين مع رافيل ايتان، قائد الأركان الإسرائيلي وأمير دوري المسؤول الرسمي عن الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، واستعدوا لاجتياح ما كان يُسمى في ذلك الوقت "بيروت الغربية"، خلافاً للوعود التي قطعوها للولايات المتحدة الأميركية ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد رحيل الفدائيين، ولكن كان لمقتل رئيس لبنان الأسبق بشير الجميل الأثر الأبرز الذي قلب كل المعادلات.
نشرت مجلة "ديرشبيغل" الألمانية بعد وقوع المجزرة شهادة لأحد عناصر الميليشيات الذي أقرّ أنهم اجتمعوا قي مكان، حيث قام مسؤولون في حزب الكتائب بالقول لهم: "حضرتم هنا بملء إرادتكم لتثأروا للجريمة البشعة بحق بشير الجميل".
وأضاف: "حضر بعدها 12 عنصراً إسرائيلياً يحملون الخرائط ويتكلمون اللغة العربية للتخطيط لكيفية الدخول"، عند وصولهم إلى مدخل المخيم بعد محاصرته من قبل الدبابات الإسرائيلية، كانت الأوامر على الشكل الآتي: "أحرقوا الأرض، لا تتركوا أي شاهد حي، اعملوا كل شي بسرعة." اللافت أن الشاهد قال: "عمليتنا لم تعط النتائج المطلوبة، إذ إن آلافاً من الفلسطينيين استطاعوا الهرب، ما يعني أنّ عدداً كبيراً منهم لا يزال حياً".
في كتابة "حرب الألف سنة حتى آخر مسيحي" الصادر عام 1984، ينقل الكاتب جوناثان رندل عن مجلة "جيش" الاحتلال الإسرائيلي "سكيراه حودشيت" أن " القوات اللبنانية قتلوا كل الأطفال والنساء والرجال والحيوانات". وأضافت المجلة أن "أفراد القوات اللبنانية استخدموا في وحشيتهم القنابل اليدوية والسكاكين والفؤوس والبنادق، حفروا صلباناً في أجساد الموتى، وبقروا بطون الحوامل، لغموا العديد من الجثث، وقطعوا الأطفال".
نفى بعد ذلك حزب القوات اللبنانية مسؤوليته عن المجزرة، مُدّعياً قيامه بتحقيق خاص وتقديم تفاصيله إلى أسعد جرمانوس، المدعي العام المكلف بالتحقيق في المجزرة، الذي اعتبر بعد إصداره تقريراً نشرته الصحيفة الإسرائيلية "يديعوت أحرونوت"، أن قضية المجزرة "كذب ومبالغة، فليس هناك إلا مئتا قتيل".
المفارقة تكمن في قول أحد الشهود من الذين شاركوا في المجزرة: "ستعرفون عدد الضحايا حين يحفر نفق للمترو في بيروت".
906 شهداء و484 مفقوداً، في حصيلة غير نهائية حتى يومنا هذا لمجزرة صبرا وشاتيلا، فيما يصل العدد التقديري للشهداء إلى 3500 ضحية.