غزّيون عن إنزال المساعدات: السماء لا تُزاحم والجوع أكرم
المشهد الذي تجمّع فيه 50 ألف إنسان، محاولين الحصول على المساعدات التي أسقطتها مظلة، سعتها 30 طرداً غذائياً فقط، يتجاوز في قسوته عشرات المجازر التي نفّذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية.
يمكن أن نقدّر، أن النشوة التي تصيب الأهالي الذين يتسمّرون برؤوس مشدوهة ناظرين إلى السماء، وهم يراقبون الطائرات التي تلقي المساعدات من الجو، مردها ليس ما يمكن أن يحصلوا عليه، فالنتيجة محسومة عند الأغلب الأعم دائماً باللاشيء ، إنما، لأنها المرة الأولى التي سينتظرون من طائرة تحلّق فوق رؤوسهم، أن تلقي أشياء غير القنابل والصواريخ، وذلك بحد ذاته، أمرٌ يكسر الملل والروتين، فالنفس البشرية مجبولةٌ على حب التجديد.
العشرات من طائرات الشحن العسكري الكبيرة من طراز سي 130، أجرت خلال الأيام الماضية عمليات إنزال مساعدات من الجو، البداية كانت من الطائرات الأردنية، وأخيراً الأميركية.
على أن المشهد وما يتركه في النفس، لا تنحصر حدوده في اللحظة التي تبدأ فيها البراشوتات رحلتها في السماء، عندها، يبدأ الناس التكهّن في النقطة التي ستسقط فيها، في حيّزنا الجغرافي أم في داخل أراضينا المحتلة، على البر، أم في البحر، يطلق الآلاف من الذين يراقبون المشهد التوقّعات بحسابات لا تخلو من الظرافة، يستعين البعض وخصوصاً اليافعين والأطفال، بخبرتهم الطويلة في ملاحقة "الدروبات" في لعبة "ببجي"، فيما يندفع عشرات الآلاف في رحلة ركض طويلة وشاقة، في مطاردة مشيئة الرياح، وبعد رحلة العودة الخائبة، يستفيق الأهالي على ما يفعلونه.
رائد عبد العزيز، هو مبرمج يسكن منزلاً بناه على الطراز الأندلسي، اندفع مزاحماً الآلاف في محاولة الظفر، بطرد غذائي ألقته الطائرات على حي تل الزعتر، لقد لعب معه الحظ، حين سقط البراشوت على بعد مئات الأمتار منه: "لم أجد نفسي إلا مندفعاً ومزاحماً الآلاف من الفقراء، وحين وصلت يدي إلى كيس معكرونة ونصف كيلو تمر، ووجدت أن يداً أخرى تنازعني إياهما.. حينها استفقت"، عاد والد الأطفال الخمسة من دون أن يظفر بشيء: "وجدت أنّ من ينازعني هو أفقر فقراء الحي الذي أسكنه، الرجل ذاته الذي أعطيه زكاة الفطر في كل عام.. تركت ما بيدي وقد تمنّيت أن تنشقّ الأرض وتبتلعني"، قال للميادين نت.
وأضاف: "أنا موظف في الحاسوب الحكومي، زوجتي معلمة، ولدي عملي الخاص الذي يدر علي أرباحاً جيدة، بعدما بنيت المنزل، عشت حياة مكتملة الرفاهية، أصرف كل دخلي الشهري على الكماليات، نعم الآن لا يوجد في منزلي كيلو واحد من الطحين، لكنني مصدوم من سلوكي.. لا أستوعب ما أعيشه الآن".
من وجهة نظر الأهالي، فإن ثمة طرقاً أقلّ امتهاناً من هذا النسق في توصيل المساعدات، يقول الرجل الخمسيني أحمد عايش: "فكرة إنك تقبل بالمساعدة صعبة بحد ذاتها، صعبة لما تصلك لحد البيت، الموضوع يتطلّب أن تحتمل قدراً كبيراً من الانكسار، فما بالك لما تكون مضطر تزاحم الخلق وتركض عشرات الكيلومترات في مطاردة المظلات.. الله الغني يا أخي، الجوع أكرم وأشرف".
أما أبو عدي الملاحي، فقد عاد بنا حين التقيناه من رحلة مطاردة مشابهة، إلى تاريخنا حتى ما قبل العام 1948، يقول: "لما كانت دول الخليج صحراء رمل، كان في فلسطين جامعات ومقاهي وأسواق عامرة ومكتبات، اسألوا العرب كلهم مين إلى علمهم في المدارس، مين المهندسين إلى بنو بيوتهم لحد بداية التسعينيات (..) إلى بيصير الآن إذلال، محاولة لمسخ كرامتنا، مطلوب تصدير هذا المشهد المهين للعالم، بأننا بقايا بشر جوعى، لا أكثر (..) لأ، إحنا مش جعانين، ولا بيوم كنا جعانين، إحنا أكرم الناس وأشجعهم، إحنا بنتعاقب لأننا رفضنا نترك بيوتنا، واخترنا نموت هان، اخترنا نقاوم ونرجع أرضنا".
بوسع كاتب السطور أن يقول، إنه المشهد الذي تجمّع فيه 50 ألف إنسان، محاولين الحصول على المساعدات التي أسقطتها مظلة، سعتها 30 طرداً غذائياً فقط، يتجاوز في قسوته عشرات المجازر التي نفّذتها الطائرات الحربية الإسرائيلية، عدت من هناك، متمنياً لأول مرة أن يحترق هذا الكوكب البائس، أو أن أحتفظ بما رأيت لنفسي، وأن لا يرى أحدٌ هؤلاء الكرام على هذه الشاكلة.