مقابر جماعية ووجوه في "معارض الجثث": آلاف الليبيين القتلى مجهولون!
لم تعد ترهونة اليوم تلك الجنّة المعروفة بأراضيها الخصبة ومزارعها وزيتونها، فأحد عشر عاماً فترة كانت كافية لتجعل منها مدينة مهجورة، مكلومة، تنام على رفات أبنائها، وتستيقظ كل صباح على اكتشاف "مكبّ" جديد، تتتكدّس فيه عظام وجماجم بشرية.
في ترهونة، المدينة الريفية الهادئة في الشرق الليبي، زرع "فبراير" الموت في الأرجاء، وغطت رائحة الجثث المنبعثة من المقابر الجماعية على نسمات "الربيع العربي".
ومثل عمال تنقيب عن الآثار، ينتشر "الحفّارون" في الورشة المفتوحة، بلباسهم الطبي العازل، يأخذ كل واحد مكانه، داخل المستطيل المرسوم بالجير الأبيض، ويشرع في الحفر.
لم تعد ترهونة اليوم تلك الجنّة المعروفة بأراضيها الخصبة ومزارعها وزيتونها، فأحد عشر عاماً فترة كانت كافية لتجعل منها مدينة مهجورة، مكلومة، تنام على رفات أبنائها، وتستيقظ كل صباح على اكتشاف "مكبّ" جديد، تتتكدّس فيه عظام وجماجم بشرية، اعتُقِل أصحابها ثمّ قتلوا بدم بارد، من طرف جماعة "الكاني" المسلّحة، المتحالفة مع قوات خليفة حفتر.
أزهار في "معرض الجثث"
تماماً كحال ليبيا منذ إطاحة نظام الرئيس السابق معمر القذافي، متأرجحةً بين أمل بلوغ التغيير المنشود، وهاجس الانحدار نحو مزيد من الفوضى السياسية.. تتمسك أزهار ميلاد محمد هرودة بخيط رجاء دقيق، في العثور على إخوتها الإحدى عشرة المفقودين.
يجرّها ذلك الخيط إلى التفتيش عنهم في المعتقلات القسرية، بترهونة وبنغازي، علها تجدهم أحياء. لكن سرعان ما يقطعُ الرجاءَ كابوسُ المجازر الجماعية، ويسوقها للبحث عنهم في "معارض الجثث"، و"بنوك الحمض النووي" الخاصة بالأموات.
لوحات مأساوية بدماء الأبرياء
تأخذنا أزهار ميلاد هرودة في حديث إلى الميادين نت، إلى يوم طُبع في ذاكرتها، الثاني عشر من كانون الثاني/يناير من عام 2021، في صفحة الإعلانات بالجريدة تشدّها دعوة عامة إلى حضور معرض من نوع خاص، في مدينة بنغازي، حيث تعيش نازحة هرباً من مذابح ترهونة.
في الصالة الواسعة عُلِّقت لوحات فوتوغرافية، وُضعت أسفلها صناديق زجاجية، داخلها مقتنيات خاصة: ثياب خَرقة، حلي متواضعة، مفاتيح سيارات صدئة، سبحات شيوخ انفرطت خرزاتها، ورضاعات أطفال، أطفأ بريقها جميعاً الوحل.
كان ذلك عرضاً ليس مألوفاً، حتى في بلد قضى عشرية حرب واقتتال بين أبنائه، حيث بدت الجدران الناصعة مشوّهة، وبدت عليها المعروضات مثل الندبة السوداء.
وسط صور الجماجم المهشّمة، والأشلاء الناضحة بالدماء، وقفت أزهار تبحث عن ضالتها المفقودة منذ خمسة أعوام، رفات ابنَي خالها، الأول سُحِل بسيارته حتى فارق الحياة، بسبب ارتكابه مخالفة مرورية، وأُعدِم الثاني رمياً بالرصاص، لاعتراضه على قتل شقيقه!
قبل أن تهمّ بمغادرة "المعرض"، استوقف أزهار تذكار ثمين، تمنّت في قرارة نفسها ألا تجده هناك أبداً، زوج أقراط، وعباءة سوداء ملطّخة ببقع دم جافة، تعلو فوقها صورة جثّة امرأة اخترقت رأسها رصاصتان، تحلّل جلد وجهها، لكنّ صرخة ألم ظلّت محفورة، أعمق من ذلك القبر الذي استخرجت منه.
صرخة أيقظت أزهار من حلم تتمسك به منذ الخامس من نيسان/أبريل 2020، حلم إيجاد أخواتها الثلاث المختطفات في تلك الليلة على قيد الحياة.
لم تعد الجثة رقم 3274 مجهولة، هي لضحية أخرى من آل هرودة، إنها ليلى، التي تجاوزت منتصف عقدها الرابع، مضطربة نفسياً، بريئة القلب كطفلة صغيرة.
تتساءل أزهار بحرقة: "ماذا فعلت لهم شقيقتي، التي تعاني اضطراباً نفسياً منذ طفولتها، جعلها تترك التعليم في الصف الرابع.. ليلى لا تفقه في السياسة، لا تفهم معنى فصيل أو كتيبة، لم تخطُ خارج البيت بمفردها منذ أكثر من 30 عاماً؟".
سبعة إخوة في قبر واحد
ليلة الخامس من نيسان/أبريل 2020، اقتحمت عشرون سيارة على متنها مسلحون مزرعة عائلة آل هرودة. الجماعة نفسها التي اعتقلت قبل عامين خمسة شباب وثلاث نساء، عادت لتعتقل هذه المرة ليلى، ريمة، وحواء، بذريعة معارضة الحرب على طرابلس.
مرّة أخرى فقدت أزهار إخوتها، أخبرها لاحقاً أحد المسؤولين في قوات حفتر، أنهم في أحد المعتقلات، خارج المدينة، ثمّ قيل لها إنهم رحّلوا مع الأسرى، بعد مغادرة حفتر نحو بنغازي.
عندما زارت معرض الجثث تبيّن لأزهار أن ما قيل كان مجرّد أكاذيب، فإلى جانب جثة ليلى، أشارت لوحة البيانات إلى شهر نيسان/أبريل كتاريخ محتمل للوفاة.
وعلى اللوحة نفسها دوّنت أرقام تسلسلية من 3274 إلى 3280، اتصل ببعضها حرف M، وببعضها الآخر F.
يعني ذلك بحسب المشرف على المعرض أن الجثة لم تكن وحيدة في قبرها، بل إلى جانبها ست أخَر، أربع تعود إلى رجال، واثنتان إلى سيدتين، إحداهما كانت حاملاً.
تقول أزهار للميادين نت إنها أدركت فوراً أن كل ما تبقى من أسرتها كان مدفوناً في حفرة واحدة، مع ليلى.
أثبتت مطابقة بيانات الحمض النووي فيما بعد، أن الجثث تعود إلى الإخوة ميلاد محمد هرودة، سبعة قتلى، والثامن سقط في أحداث 2011، وثلاث أخريات ما زلن مفقودات حتى اللحظة، وما زالت أزهار تفتش عنهم بين المعتقلات والمعارض.
مئات المختفين تحت تراب ترهونة
تحصي هيئة البحث والتعرف على المفقودين في ليبيا 669 بلاغ اختفاء في ترهونة، فيما ترجّح أن يفوق عدد المفقودين الحقيقي عدد البلاغات، نظراً إلى وجود أسَر اختفت كلها، ولم يبق من أفرادها من يبلغ عن الحالات المفقودة.
وتؤكّد "رابطة ضحايا ترهونة" في تصريح لـلميادين نت على لسان عضوها عبد المنعم حسين محمود، أن بلدية ترهونة وحدها تسجّل 220 مفقوداً، اعتُقلوا من طرف "جماعة الكاني" حتى نهاية عام 2020.
أشرفت الرابطة رفقة هيئة البحث والتعرف إلى المفقودين على انتشال 254 حالة (الحالة تشمل أحياناً أكثر من جثة واحدة)، من المقابر الجماعية الخمس الكبرى المكتشفة، ومن بعض القبور المنفردة والآبار.
من بين المنتشلين جرى التعرف إلى 125 حالة، أغلبهم ليبيون، بينهم أطفال قصّر ونساء، إلى جانب بعض المقيمين من مصر وطالب فلسطيني في كلية الطب البشري.
وإضافة إلى هؤلاء الضحايا، عُثر أيضاً على 106 جثث، داخل ثلاجة تبريد، قرب بنغازي، تعود في الأغلب إلى أجانب بحسب تأكيد الرابطة. وُزّعت على مركزي حفظ الجثث في مصراتة وطرابلس، في انتظار تحديد هوياتها، أو دفنها في المقابر الخاصة بالمهاجرين، بعد استنفاد المدة القانونية للحفظ، نظراً إلى العجز المسجل في توفير ثلاجات الموتى، بسبب كثرة الجثث المكتشفة يومياً، وسقوط ضحايا جدد في مختلف أنحاء ليبيا.
"الكانيات" شبح "عائلة السفاحين" المُرعب
بحسب عبد المنعم حسين محمود، فإن عمليات الاختطاف والإبادة الجماعية، التي عرفت أوجها بين سنتي 2013 و2020، جرت بدوافع غير مفهومة، وأحياناً لأسباب تافهة، وشخصية، لا علاقة لها بالسياسة.
فمثّلت عائلة الكاني جزءاً من النسيج الاجتماعي لترهونة، عائلة مزارعين متوسّطة الحال أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى، لا باع لها في السياسة، ولا صلة تربطها بالحكام.
ثلاثة إخوة ركبوا موجة أحداث 2011، وأحاطوا أنفسهم بالمسلحين والمرتزقة والكتائب، ليرتفع شأنهم، وتصبح لهم سلطة مطلقة على ترهونة وأهلها.
وبدورها استغلت الأطراف الليبية المتناحرة "الكانيات"، بدفعها إلى التقتيل الجماعي، ونهب الممتلكات، لبثّ الرعب في المنطقة وبسط النفوذ عليها، وقد مثّلت فترة تحالف الإخوة "الكاني" مع قوات حفتر، أكثر المراحل دموية في الشرق الليبي، خلال العشرية الأخيرة.
جريمة لا تسقط بالتقادم
تعترف الناشطة الحقوقية ليلى بن خليفة في حديث إلى الميادين نت، أن "الدولة والمجتمع المدني من ناشطين وحقوقيين، كانوا جميعاً مغيّبين تماماً عمّا يحدث في ترهونة".
وهو ما يرجّح بحسب ما تقول ألا تكون جماعة "الكانيات" المتورّط الوحيد في قضية المقابر الجماعية، خصوصاً مع اكتشاف جثث تعود إلى سنة 2012.
وبهذا الصدد تؤكد الناشطة الحقوقية، ضرورة متابعة عملية الرصد والتوثيق، وإحالة الملف إلى الجهات المختصة ممثلة في النيابة العامة، لإجراء التحقيقات القانونية، لكشف جميع المتورطين ومحاسبتهم.
ثمّ "تطبيق العدالة، والقصاص من الجناة، تنفيذاً لمطلب أسر الضحايا، وجبراً للضّرر المعنوي والمادي، عن جرائم بشعة لا تسقط بالتقادم".