مزارعو سوريا يواجهون مخاطر في مصدر دخلهم الأساسي.. ما قصة زيت الزيتون؟
لطالما امتاز زيت الزيتون السوري بجودة عالية جعلته من أفضل أنواع الزيوت على مستوى العالم وأكثرها طلباً، لكن هذه المادة تواجه اليوم أخطاراً عديدة تتمثل بانخفاض الكميات المُنتَجة وارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية والخوف من خسارة الأسواق العالمية.
في قرية البصّة بريف اللاذقية على الساحل السوري، يتجوّل المزارع علي الإبراهيم داخل أرضه بين أشجار الزيتون، التي لم تحمل هذا العام كميات وفيرة من المحصول، وهذا الأمر سينعكس حتماً على كميات زيت الزيتون المُنتجة.
ضعف الكميات المُنتجة من زيت الزيتون، دفع الحكومة السورية إلى إصدار قرار بخفض الكميات المصدّرة من المادة نحو الأسواق العربية والأوروبية إلى الحدود الدنيا؛ يقول الإبراهيم للميادين نت: "الإنتاج هذا العام انخفض بشكلٍ كبير مقارنةً بالسنة الماضية، ليتكبّد المزارعون خسائر مادية كبيرة، بسبب ارتفاع مستلزمات الإنتاج، وعدم القدرة على بيع المحصول بأسعار مناسبة، إضافة إلى منع تصدير المادة إلى الخارج نتيجة القرار الحكومي بمنع التصدير في الموسم الحالي".
الإبراهيم أشار إلى أن الخسارة لن تقتصر على العام الحالي فقط، بل ستؤثر على الموسم المقبل أيضاً، لأن غالبية الفلاحين لن يكون بمقدورهم الاستمرار بعملية الإنتاج، نتيجة غلاء الأسعار وعدم حصولهم على عوائد مالية مناسبة في هذا العام، وهذا الأمر يتطلب تدخلاً حكومياً لمساعدة المتضررين وتعويضهم.
حال الإبراهيم لا يختلف كثيراً عن حال معظم مزارعي الزيتون على الساحل السوري، الذين يواجهون مشاكل كبيرة نتيجة تدني كميات محصول الزيتون هذا العام، وعدم قدرتهم على إنتاج كميات كافية من الزيت لتلبية حاجة الأسواق المحلية والتصدير على حدٍ سواء.
معاناة كبيرة من المزارعين
تعتبر سوريا واحدة من أقدم دول العالم في زراعة وعصر الزيتون، إذ لا تزال المعاصر الحجرية قائمة حتى الآن في أكثر من موقع أثري شمال وجنوب البلاد، ما جعل سوريا تُصَنّف على أنها بلد الزيتون وموطنه الأصلي، ومنها نقل الرومان زراعة هذه الشجرة إلى إسبانيا وبقية دول حوض البحر المتوسط، ولأن الماضي والحاضر يتعانقان دائماً فقد احتفظت شجرة الزيتون بموقعها الرائد بين الأشجار المثمرة التي تُزرع في سوريا.
تعدُ زراعة الزيتون مصدر الدخل الأساسي في مناطق واسعة من سوريا، مثل الجبال الساحلية وريف حلب ومحافظة إدلب، إذ يعتبر موسم عصر الزيتون طقساً اجتماعياً فريداً يجتمع فيه الأهالي لقطاف الزيتون وفق تقاليد خاصّة بكل منطقة، ويبدأ موسم الزيتون عادةً في آخر شهرين من العام، لتنطلق بعد ذلك عمليات عصر الزيتون ونقله إلى الأسواق المحلية.
لطالما امتاز زيت الزيتون السوري بجودة عالية جعلته من أفضل أنواع الزيوت على مستوى العالم وأكثرها طلباً، لكن هذه المادة تواجه اليوم أخطاراً عديدة تتمثل بانخفاض الكميات المُنتَجة وارتفاع الأسعار في الأسواق المحلية والخوف من خسارة الأسواق العالمية، بعد قرار الحكومة السورية منع تصدير المادة، ما جعل المزارعين أمام خطر تعرضهم لخسائر مادية كبيرة.
المزارعون في ريف اللاذقية أكدوا أن ارتفاع أسعار زيت الزيتون مرتبط بشكل وثيق بالأحوال الجوية التي أثّرت على المحاصيل الزراعية في الساحل السوري، إضافة إلى ارتفاع التكاليف المتعلقة بمستلزمات الإنتاج كالحراثة والتقليم وجني المحصول، وتعرّض محصول الزيتون للكثير من الحشرات مثل عين الطاووس، فضلاً عن ارتفاع تكاليف عصر الزيتون، وجميعها عوامل ساهمت في تضرر المزارعين بالدرجة الأولى.
وزارة الزراعة السورية بدورها عزت انخفاض الإنتاج عن المتوقع للموسم الحالي إلى الظروف المناخية غير المناسبة، التي ترافقت مع مرحلتي الإزهار والعقد، من جفاف وارتفاع حرارة، وتفاوت حراري شديد بين الليل والنهار.
مدير الزراعة والإصلاح الزراعي في محافظة اللاذقية المهندس باسم دوبا يؤكد للميادين نت وجود ارتفاع عالمي بأسعار زيت الزيتون، وذلك بسبب تراجع الإنتاج بأكبر دولتين مصدرتين للمادة في العالم وهما إسبانيا وإيطاليا، وذلك نتيجة الظروف المناخية والإصابات بمرض "الاكسيليلا" الذي أدى إلى تضرر ملايين أشجار الزيتون.
وفيما يتعلق بالجانب المحلي يؤكد دوبا أن الإنتاج هذا العام داخل سوريا كان وفيراً في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية وتحديداً في إدلب وريف حلب، أما الإنتاج في مناطق الساحل السوري فكان منخفضاً مقارنة بالعام الماضي الذي شهد وفرة في الإنتاج في الساحل السوري، وقلة المحصول في إدلب وريف حلب.
كما ربط دوبا ارتفاع أسعار زيت الزيتون بضعف العرض في الأسواق المحلية، مع منع الحكومة تصدير المادة إلى الأسواق العربية والأوروبية إلا بكميات محدودة لا تتجاوز 5 آلاف طن فقط.
قرار يثير جدلاً كبيراً
انخفاض الإنتاج هذا العام دفع الحكومة السورية إلى اتخاذ قرار بخفض التصدير إلى مستويات متدنية، حيث تم السماح بتصدير كميات لا تتجاوز 5 آلاف طن، بهدف استمرار تواجد الزيت السوري في الأسواق العالمية وعدم خسارتها، وأكدت الوزارة أن قرار إعادة فتح باب التصدير مجدداً مرتبط بكميات الإنتاج المتوقعة في العام المقبل، فالحكومة تبحث عن إيجاد نوع من التوازن بين الإنتاج والاستهلاك المحلي والتصدير.
المزارع علي المحمود من قرية برج إسلام في ريف اللاذقية يؤكد للميادين نت أن قرار منع التصدير هذا العام سيؤثر بشكل كبير على المزارعين، الذين سيضطرون لتصريف إنتاجهم في الأسواق المحلية بأسعار أقل من التكلفة، وعدم قدرتهم على تعويض الخسارة من خلال التصدير للأسواق الخارجية.
وتابع المحمود: "خلال العام الحالي تعرّض موسم الزيتون لعوامل سلبية عديدة، مثل الأحوال الجوية غير المناسبة، وانتشار حشرات عديدة أتت على كميات كبيرة من الإنتاج، كما أن العام الحالي يعتبر "موسم معاومة" بمعنى أن الأشجار لن تحمل زيتون هذا الموسم، وسيعود الإنتاج إلى طبيعته في العام المقبل، فمن المعروف أن أشجار الزيتون تحمل في عام والعام الذي يليه لا يشهد حملاً".
عام 2010 احتلت سوريا المركز الأول عربياً من حيث عدد أشجار الزيتون والثانية في الإنتاج بعد تونس، بينما احتلت المركز الرابع عالمياً بعدد الأشجار والخامسة في إنتاج زيت الزيتون بعد إسبانيا وإيطاليا واليونان وتونس، وقُدِّرَ إنتاج ثمار الزيتون في ذلك العام بـ900 ألف طن، خُصِّصَ منها 150 ألف طن لتصنيع زيتون المائدة، حيث كان يتوقع أن يكون الزيتون هو "نفط المستقبل" في سوريا.
زراعة الزيتون وصناعة زيت الزيتون انخفضت بشكل غير مسبوق بعد العام 2011 عندما بدأت الأزمة في سوريا، حيث خرجت مساحات جغرافية وأراضٍ زراعية كبيرة عن سيطرة الحكومة السورية وتحديداً في إدلب وأرياف حلب، التي كانت تعتبر رافداً أساسياً وخزاناً استراتيجياً لزراعة الزيتون في سوريا، وهو ما أدى إلى انخفاض الكميات المنتجة من الزيتون وزيت الزيتون على حدٍ سواء، ما دفع الحكومة السورية لاتخاذ خطوات جريئة تهدف لتوطين زراعة الزيتون في مناطق جديدة مثل الساحل السوري.
السوريون يتخلون عن زيت الزيتون
خلال الأشهر الماضية بات زيت الزيتون يشكّل هاجساً كبيراً للسوريين، نتيجة ارتفاع سعر المادة بشكل متكرر، حيث قفزت بنسبة تراوحت بين 150 إلى 200 بالمئة.
هذا العام سجّل سعر تنكة زيت الزيتون (16 ليتر) أكثر من مليون وخمسمائة ألف ليرة سورية (100 دولار أميركي)، بعد أن كان السعر لا يتجاوز 500 ألف ليرة خلال العامين الماضيين، وهذا الأمر أدى إلى تراجع الاستهلاك المحلي بشكل كبير، حيث تحول السوريون من شراء التنكة إلى الحصول على كميات صغيرة لا تتجاوز في كثير من الأحيان ليتراً واحداً.
مصادر حكومية كشفت أن أبرز أسباب ارتفاع أسعار زيت الزيتون في الأسواق السورية خلال الأشهر القليلة الماضية يكمن في الاحتكار وسعي بعض التجار لتصدير المادة إلى الأسواق الخارجية، كون العملية تحقق مربحاً مادياً أكبر بكثير من البيع في الأسواق المحلية.
في سوق الجمعة وسط العاصمة السورية دمشق يقف هاشم عيسى (48 عاماً) أمام محلٍ لشراء نصف ليتر من زيت الزيتون بمبلغ 60 ألف ليرة سورية (4 دولارات) والحسرة تملأ ملامح وجهه؛ يقول للميادين نت: "قبل عام واحد كان بإمكاننا شراء كميات كبيرة من الزيت، أما اليوم فنحن عاجزون عن ذلك، ولا يمكننا شراء أكثر من كمية قليلة لتلبية احتياجاتنا اليومية فقط".
يتابع عيسى: "لا أعرف السبب وراء الارتفاع الكبير في أسعار الزيتون، لكن ورغم أن ارتفاع الأسعار ينطبق على معظم المواد الغذائية والاستهلاكية، إلا أن زيت الزيتون مادة أساسية على موائد السوريين، إضافة إلى أنها جزء أساسي في مكونات الأكلات السورية، لذلك لا يمكن الاستغناء عنها، ويجب إيجاد حلول سريعة لإعادة الأسعار كما كانت عليه قبل أشهر".
إنتاج سوريا من زيت الزيتون وصل العام الماضي إلى 125 ألف طن، حيث تبلغ حاجة البلاد للاستهلاك المحلي نحو 80 ألف طن، بينما بلغت الكميات المصدّرة بحدود 45 ألف طن، أما العام الحالي فقد انخفضت الكميات المنتجة بنسبة 27 بالمئة.
المهندسة عبير جوهر مديرة مكتب الزيتون في وزارة الزراعة السورية تؤكد للميادين نت أن تقديرات الإنتاج لهذا العام تصل إلى نحو 700 ألف طن زيتون، من المتوقع أن يُنتَج منها 91 ألف طن زيت زيتون، وهذه الإحصائية تشمل مختلف الأراضي السورية بما في ذلك إدلب وريف حلب، بينما يُقدّر الإنتاج في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية بنحو 380 ألف طن زيتون تُنتج 49 طن زيت زيتون.
كما تشير جوهر إلى أن الاستهلاك المحلي لزيت الزيتون انخفض بشكلٍ حاد، من 6 كيلو غرام إلى أقل من 2 كيلو غرام للفرد الواحد سنوياً، وذلك بسبب انخفاض دخل المواطن السوري وارتفاع سعر الزيتون نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج محلياً، بما في ذلك تكاليف السماد والقطاف ومكافحة الحشرات وعصر الزيتون وأسعار العبوات المخصصة للتعبئة.