لا أجراس تُقرع ولا زينة.. مسيحيو إدلب محرومون من الاحتفال بأعيادهم
يحتفل المسيحيون في إدلب السورية، والذين لا يتجاوز عددهم اليوم في المدينة وريفها 200 شخص، بصمت، وذلك بعد سيطرة هيئة تحرير الشام على المدينة، وبعد تعرضهم لمضايقات كثيرة.
عامٌ جديد، يضاف إلى الأعوام العشر السابقة التي مرت فيها الأعياد على من تبقى من مسيحيين في إدلب، صامتةً من دون فرح أو زينة أو قرع أجراس، لأن احتفالهم علناً، هو "انتهاك للشريعة الإسلامية"، كما تقول "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، التي تبسط سيطرتها هناك.
وبحسب مصادر أهلية، فإن عدد المسيحيين اليوم في إدلب وريفها لا يتجاوز 200 شخص، غالبيتهم من كبار السن، بعد أن كان عددهم قبل عام 2011 أكثر من 10 آلاف نسمة، ينتمي معظمهم إلى طائفة الروم الأورثوذكس، ويتوزعون في جسرالشغور وقرى القنية واليعقوبية والجديدة وحلوز والغسانية.
نحن مباحو الدم والمال والعرض
لا شيء يدل على قدوم عيد الفصح في بيت أم الياس (اسم مستعار)، سوى التلفزيون الذي ينقل بصوت خافت القداديس والاحتفالات في أرجاء سوريا.
وعلى الرغم من أن الطقس في الخارج مشمس ودافئ، لكن السيدة الستينية تغلق بحرص باب منزلها والنوافذ، وتذهب إلى غرفة نومها كي تخرج صندوقاً كبيراً من تحت سريرها، جمعت فيه كل ما كان يدل على أنهم عائلة مسيحية.
إنجيل العائلة، والعديد من الأيقونات والمسابح، أخذت مكاناً لها أسفل الصندوق، بعد أن كانت تتصدر جدران المنزل، إلى جانبها عدة ألبومات صور، تقلبهم أم الياس بعناية، وتقول للميادين نت: "هذا ابني الياس في قربانته الأولى، وهذه ابنتي جوسلين في أحد الشعانين، تحمل شمعتها التي زينتها بيدي، وهنا نحن وعائلة زوجي أمام الكنيسة بعد قداس عيد الفصح".
هكذا صارت ابنة ريف إدلب تقضي الأعياد، بدلاً من الطقوس المعتادة التي كانت تبدأ بالصلاة. تتنهد بحسرة وتضيف: "انظري حولك.. هل لا زالت هناك كنائس؟ كله دُمّر ونُهب وتم استغلاله، مثل كنيسة السيدة العذراء التي تحولت إلى معهد شرعي لهيئة تحرير الشام، كما أن هناك كنيسة أخرى تحولت إلى مقر للخوذ البيضاء".
أما الغصة الكبيرة في قلب السيدة الستينية، فهي بسبب شتات شمل العائلة، وتشرح: "اليوم كل واحد من أبنائي في بلد، هم شباب والمستقبل أمامهم، أما أنا ففضّلت البقاء هنا مع زوجي، لم نتمكن من ترك كل شيء والهرب بهذه السهولة".
تتذكر المهندسة المتقاعدة، كيف كانت تمضي وقتها بصنع الكعك والمعمول المحشي بالجوز والتمر، والأرز بالحليب، وكيف كانت تلوّن البيض المسلوق مع أحفادها، وتشتري لهم الزينة المخصصة للشعانين والفصح، وتقول: "هذا ما كان سابقاً، أما اليوم فلا يوجد محل واحد في كل إدلب أو ريفها يبيع مثل هذه الأشياء، فنحن مباحو الدم والمال والعرض بنظرهم".
تشعر أم الياس بالقشعريرة كلما تذكرت هذه الفكرة، فهي لا تزال تعيش الصدمة، بسبب ما حدث مع المعلمة سوزان كريكور عام 2019 من بلدة اليعقوبية، التي كانت تبلغ من العمر ستين عاماً، حين تم خطفها واغتصابها ثم قتلها، وسرقة مصاغها الذهبي.
أتمنى أن ألتقي أبنائي مرة أخرى قبل أن أموت
يتلفّت أبو شادي (اسم مستعار) حوله بحذر، قبل أن يُلقي التحية على جاره أبو ميشيل (اسم مستعار)، قائلاً: "المسيح قام"، ليجيبه: "حقاً قام"، يضحك أبو شادي على الزمن الذي جعله يخشى أن يسمعه التركستاني والشيشاني والأوزبكي، الذين يحيطون به من كل جانب، ويقول للميادين نت: "حقنا رصاصة.. والتهمة هي الشرك"، يقاطعه أبو ميشيل ويضيف: "حتى بدون أن نفعل شيء، مجرد المرور في شوارع وأسواق إدلب بالقرب من مُسلّحي هيئة تحرير الشام خصوصاً "المهاجرين" منهم، يجعلنا نتعرض لسماع جمل مثل "يا كافر"، "يا عابد للصليب"، وغيرها من أنواع التهديد المختلفة".
يسأل الرجل السبعيني نفسه يوميّاً: "هل من أحد يفكر بنا.. هل من أحد يعرف كيف نعيش؟!"، يصمت قليلاً ويتابع: "ذكر الإعلام المتلفز أنهم افتتحوا لنا كنيسة القديسة آنا، لكن الأمر لم يكن سوى استعراض كاذب رخيص، ومحاولةً لاستجرار الدعم والتعاطف من الغرب".
يُخرج المهندس المتقاعد، من جيبه منديلاً، وهو التذكار الوحيد الباقي له من ابنته التي سافرت إلى فرنسا، يمسح دموعه ويشير إلى الجبال الممتدة أمام ناظريه، ويقول: "هذه اللاذقية، والمسافة قصيرةٌ جداً بيننا، هناك أقاربي وابني وعائلته، أتمنى أن نستطيع أن نلتقي ولو لمرةٍ واحدة قبل أن أموت".
أملاك المسيحيين صودرت ووُزّعت على المسلّحين الأجانب
"هناك مسلمون يستحقون المساعدة أكثر منك"، تقول المسؤولة عن توزيع المواد الإغاثية، في إحدى الجمعيات في إدلب لأبو إبراهيم (إسم مستعار).
لم تكن المرة الأولى التي يعود فيها الرجل السبعيني إلى زوجته خالي الوفاض، إذ إنه لاقى ردود الفعل نفسها من عدة جمعيات أخرى، كلها "تخشى من رد فعل الفصائل الإسلامية إذا ما حصلت العائلات المسيحية على سلال إغاثية"، بحسب أبو إبراهيم.
آخر ما كان يتخيّله بائع الزيت السابق، أن يقضي صباح أحد الفصح في التنقل بين الجمعيات، لمحاولة التسجيل على معونة، تساعدهم على مواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة، ويقول للميادين نت: "منذ سنواتٍ طويلة لم أشعر بأجواء أي عيد، ولا بفرحة، إلا بسبب الاتصال المعتاد مع أبنائي في الخارج، وأحفادنا الذين لم نراهم على أرض الواقع أبداً".
مصير ممتلكات أبو إبراهيم لاقى مصير ممتلكات باقي المسيحيين نفسه التي قام ما يسمى بــ"مكتب أملاك النصارى" بحصرها جميعاً وتوزيعها على المقاتلين الأجانب، ولم ينجُ منها سوى قطعة أرض يقضي أغلب وقته في العمل فيها رغم أنه لا يحصل سوى على 40 بالمئة من إنتاج محصوله، بعد أن أجبرته هيئة تحرير الشام، على توقيع عقد انتفاع.
ويشرح: "أنا إبن الأرض، لا يمكنني أن أبقى بعيداً عنها، لم يسمحوا للمسيحيين الذين فروا بحياتهم بالمطالبة بأراضيهم، إما بحجة أنهم في أوروبا، أو موالين للنظام، أما نحن الباقون، فأجبرونا على توقيع اتفاق يقضي بحصول هيئة تحرير الشام على 60 بالمائة من الإنتاج، رغم أنه على صاحب الأرض أن يتكفل وحيداً بجميع النفقات طوال العام".
يعلم إبن ريف إدلب، أنها معادلةٌ خاسرة، لكنه غامر بقبولها كي لا يبتعد عن مصدر رزقه، وأمانة أهله، التي يؤمن أنها ستعود إلى أبنائه وأحفاده.. ولو بعد حين.