فلسطين: 15 دقيقة غير كافية لإجلاء ذوي الاحتياجات الخاصة خلال الحرب
استفاقت نادية شملخ، في قطاع غزة، وهمّت بترتب البيت، لكنّها تلقّت نذير شؤم أتاها من بعيد، يخبرها بأن تترك المنزل مع أسرتها في غضون 10 أو 15 دقيقة على الأكثر، لكنه لم يكن وقتاً كافياً لإجلاء أقاربها من ذوي الاحتياجات الخاصة.
تخيّل أن تتلقّى اتصالاً يأمرك بأن تترك بيتك في الحال، لأنّه بعد 10 دقائق سيُنسف، 10 دقائق وسيمحو ضابط جيش الاحتلال الإسرائيلي ماضيك وحاضرك وجميع ذكرياتك! صور أطفالك التي تحتفظ بها، هدايا الأصدقاء، وجهد عشرات السنين في البناء والتجهيز.
ربما تبدو تلك الأمور قاسية، لكنَّ الأسوأ من ذلك حين يكون مالكو البيت، أو أحد سكّانه، من ذوي الاحتياجات الخاصة، فماذا سيفعلون في تلك المدة القصيرة؟
في أحد الصباحات استفاقت نادية شملخ، وهمّت بترتب البيت، خصوصاً أنَّها جدَّدت الأثاث أخيراً، لكنّها تلقّت نذير شؤم أتاها من بعيد، يخبرها بأن تترك المنزل مع أسرتها في غضون 10 أو 15 دقيقة على الأكثر. تقول نادية إنّها في تلك اللحظة لم تتذكر سوى الطعام الذي تركته على الموقد، فذهبت لتطفئه كي لا تضطرم النار في المنزل، متناسيةً أنَّ صاروخ الاحتلال الذي سيسقط بعد دقائق "لا يبقي ولا يذر".
تُكمل نادية أنّها تركت حينذاك زوجها المريض حبيس الفراش في الداخل، وابنتيها الاثنتين من ذوي الاحتياجات الخاصة لتكون على بينة من الخبر. وحين أفادها أحد الجيران بأن منزلها سيُنسف فعلاً، ويجب الابتعاد عن المنطقة بضعة كيلو مترات، التقطت الخبر وظلّت تمشي مسرعةً حافيةَ القدمين، تتوكّأ على أحد الجدران مرَّةً، وتقع لتحتضنها الأرض مرَّةً أخرى، إلى أن وصلت إلى مكانٍ آمن، وفي تلك اللحظة تذكّرت!
كان من الصعب على نادية أن ترجع مرَّةً أخرى، خصوصاً أنَّ زمجرة الطائرات دوّت في فضاء المكان، وبات من الواضح أنّها ستضربه قريباً. فالعيش في بلد الحرب يجعلك مدرَّباً على معرفة متى ستقصف الطائرة الحربية، ومن أيِّ الاتجاهات ستنفث نارها. وفي تلك اللحظة لحق بها أحد الجيران ليطمئنها إلى أنَّ زوجها وأبناءها الأربعة أصبحوا في مأمنٍ عن المنطقة المستهدفة.
وهنا تدخّل حفيدها محمد شملخ، البالغ من العمر 18 عاماً، ليروي لـلميادين نت، أنّه في الوقت الذي هربت فيه جدته كان يقف على شرفة بيتهم متابعاً التغير الحاصل في حركتها، وهي تهرول بعيداً من منزلها الذي لم تتركه يوماً إلا "للشديد القوي"، فلاحظ أنَّ هناك شيئاً غيرَ طبيعيٍّ سيحدث؛ ونزل على الفور كي يسأل أحد الفارين من البيوت المجاورة عمّا يجري.
وكما جرت العادة، فإنَّ الاحتلال عندما ينوي قصف منزل يبعث بتحذير إلى البيوت الملاصقة كي تُخلى أيضاً. يُفصح محمد أنَّ أحد الجيران تلقى اتصالاً من الضابط الإسرائيلي، أخبره فيه عن منزل جد محمد الذي سيُقصف بعد بضع دقائق، في الوقت الذي لم يكن يعلم فيه إن كان من في البيت تركوه جميعاً أم ما زالوا في الداخل.
دخل محمد المنزل وهو لا يعلم إن كان سيغادره على قدميه أم محمولاً على الأكتاف. يصف الموقف بأنّه "كيوم الحشر"، الجميع يريد أن ينجو بروحه، ولا أحد يأبه لمن بقي، حتى وإن كانوا من ذوي الاحتياجات الخاصة التي تمنعهم من الحركة. ويُكمل أنّه وجد عمتيه تبكيان، فساعدهما على إيجاد اللباس الساتر، وبمعاونة أحد أبناء عمّه جرى إخراجهما، ليتّجه بعد ذك إلى جده المريض ويحمله خارجاً.
يبتسم محمد غير مصدِّقٍ أنه خروج حيّاً، خصوصاً بعد أن ضربت طائرات الاحتلال الإسرائيلي المكان ببضعة صواريخ، تناثرت شظاياها مسبِّبةً له جروحاً متفرِّقةً، فالمدة قد نفدت قبل أن يبتعد بمسافةِ أمانٍ تقيه الشظايا التي يخلِّفها الانفجار والنيران.
"موت وخربان ديار"، تقول السيدة نادية، التي تشرح أنَّ زوجها لم يحتمل رؤية تعب 20 عاماً قضاها يعمل كمدرّس بين ليبيا والسعودية ودول أخرى، ليبني المنزل حجراً تلو آخر، ثم يأتي الاحتلال وينسفه في لحظة؛ فمات حسرةً في اليوم التالي، لتفقد الأسرة منزلها ومعيلها في 24 ساعة فقط.
اختلط الحزن في نفس نادية، فلا تعلم أتبكي على زوجها الذي رحل وتركها وحيدة؟ أم على منزلها وابنتيها اللتين أصبحتا بلا سندٍ في الحياة؟ استجمعت نادية شجاعتها بعد بضعة أيام، وقررت أن تُلقي نظرةً على البناء قبل الانتقال للعيش في بيت ابنها، فوجدته قد تحوّل إلى كومة حجارة، تكدس بعضها فوق بعض، مُفسدِةً أيَّ طريقٍ للدخول والخروج.
حاولت نادية، بحسب ما أفادت به الميادين نت، أن تجعل رجال الدفاع المدني ينتشلون لها بعض الأوراق الثبوتية المهمة أو الملابس، من خلال توصيفها موقع الغرفة التي كانت قد خبأتها فيها، لكنَّ النيران كانت قد التهمت كلَّ شيءٍ، فهي لم تجهّز الأوراق الثبوتية والنقود داخل حقيبةٍ خاصةٍ، أسوةً بجميع النساء في قطاع غزة، ظناً منها أنَّ كونها ترعى 4 أفراد من ذوي الاحتياجات الخاصة يجعلها في مأمن من القصف. لكن أيُّ أمانٍ يمكن أن يعطيه احتلالٌ كهذا؟
خيّم الصمت على المكان بعد أن أنهت نادية إفادتها، فشريط ذكريات ذلك اليوم قد مرَّ أمام أعين الجميع في ثوانٍ، لتكسره صفاء وهي إحدى البنتين اللتين عايشتا لحظة الهروب، حيث روت لـلميادين نت، أنّها حين سمعت الخبر ظنّت أنَّ أحدهم يمزح، فلم تأبه له إلا عندما دخل ابن أخيها وأجبرها على الخروج، حينذاك راحت تبكي قلة حيلتها.
"ذهب كل شيء ولم يتبقَّ شيء"، تقول صفاء، الهاتف الذكي، وجهاز الحاسوب المحمول، الذهب، وبعض النقود، حتى الملابس والصور التي جمعتها بأبيها، لم يُبْقِ الاحتلال أيّاً من تلك التفاصيل، لافتةً إلى أنّها قبل العدوان كانت قد قررت فتح بقالة صغيرة في المنزل، لتبيع الأطفال والنساء بعض الحاجيات التي تحصل من خلال على ربحٍ ضئيلٍ يوفر لها مصروفها الشخصي، لكنها بقيت بين أربعة جدران بيضاء تتأملها، لتشاهد عبرها تلك الذكريات التي تلاحقها واحدة تلو أخرى.
اليوم تجلس الأسرة في منزل أحد أبنائها، محتملةً الوضع الضيّق والصعب، إلى أن يعوّض عليها ويبنى لها بيت آخر يجمع أفرادها، مفتقدةً الخصوصية التي كان يمنحها إياها المنزل الصغير الذي دُمّر. تعاني صفاء حرجاً في التحرك بحرية في البيت واستخدام مرافقه، وتحاول التعايش مع إعاقتها لتأدية أشغال المنزل، كي لا تكون "عالة"، بحسب وصفها، على زوجة أخيها أيضاً.
تتمنّى صفاء أن يُبنى منزلها من جديد، وأن تجهز سيارة كهربائية تساعدها وأخوتها في الإجلاء وقت الحروب، فالكرسي المتحرّك استغرق مدة طويلة كي ينقلوا عبره من مكانٍ إلى آخر، خصوصاً أنَّ الإعاقة الحركية لإخواتها أشدُّ مقارنةً بها، فهي تستطيع أن تتوكّأ على الجدران كي تنتقل من مكانٍ إلى آخر، بخلاف أشقائها الذين يعتمدون على العكاز والكرسي المتحرك اعتماداً كاملاً.