فلسطين والعنصرية والمثلية.. كأس العالم تتجاوز الكرة إلى قضايا اجتماعية كبرى
تخطى الحدث الكروي هذا العام حدود الملاعب والساحرة المستديرة، ليشكل مناسبة لافتة لتدفق عدد من القضايا الاجتماعية وبروز تفاعل كبير حولها.
لم تقتصر مناسبة كأس العالم 2022 على مجرد مباريات، منتخبات تلعب وتتنافس، جماهير تشجع وتصفق لمنتخباتها، فرق تربح وتتأهل وفرق تخسر، مونديال قطر 2022، المونديال العربي الأول، تخطى حدود الملاعب والساحرة المستديرة ليشكل مناسبة لافتة لتدفق عدد من القضايا الاجتماعية وبروز تفاعل كبير حولها. الأمر بدا أشبه بتظاهرة كروية عالمية جمعت في طياتها ثقافات وصراعات ومواقف وقضايا تسترعي اهتمام الناس، بل ويشكل بعضها جزءاً من هويتهم الثقافية وتركيبتهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية أيضاً.
القضية الفلسطينية.. إلى الواجهة في الحدث الكروي!
اعتاد العالم أن يشهد في عدد من المحافل الدولية حملات دعم للقضية الفلسطينية والفلسطينين، ترافقت في الفترة الأخيرة مع حملات مقاطعة لـ"إسرائيل" ورفض للتطبيع الذي روّجته بعض الأنظمة والحكومات العربية. ولكن، أن يحصل ذلك في مناسبة رياضية هو بحد ذاته حدث كبير يبعث برسالة واضحة إلى العالم، مفادها أن شعوباً كثيرة ترفض مصادرة خياراتها وتأبى أن تصبح قضيتها الأم، أي القضية الفلسطينة، طي النسيان أو مادة للمساومة في أروقة السياسة.
منذ الأيام الأولى على انطلاق المونديال في قطر، استحضرت الجماهير العربية والإسلامية قضية فلسطين بجميع الوسائل، عبر الأغاني والشعارات والهتافات ورفع العلم الفلسطيني بألوانه الأربعة في المدرجات. كان الصوت عالياً: بالروح بالدم نفديك يا فلسطين. فلسطين حرة، وفلسطين الشهداء.
من الجمهور التونسي والمغربي واللبناني والخليجي، وصولاً إلى كل المشجعين الذين قدموا من مختلف البلدان العربية للمشاركة في هذا الحدث الكروي، اجتمعوا مرة جديدة على حب فلسطين وتأييدها.
ولكن، ما كان لافتاً هو انخراط جماهير من غير العرب والمسلمين في الدفاع عن فلسطين وتبني القضية، ففي المباراة التي واجهت فيها البرازيل صربيا والتي انتهت بفوز البرازيل على الأخيرة، احتفل الجمهور البرازيلي بالغناء لفلسطين.
إلى جانب الأغاني المؤيدة للقضية الفلسطينة بنكهة الفوز التي صدحت من حناجر البرازيليين، برز تفاعل آخر من مشجعين من الأوروغواي لدعم القضية الفلسطينة عبر ارتدائهم الزي الفلسطيني.
إظهار الدعم والحب لفلسطين في مونديال قطر 2022، كان بالتوازي مع التعامل الجماهيري بحزم مع مسألة التعامل مع الإعلاميين الإسرائيليين في قطر، ورفض أي شكل من أشكال التطبيع.
"أنتم غير مرحب بكم"، "اذهبوا من حيث جئتم"، "نرفض وجودكم هنا "، عبارات رد بها مشجعون على عدد من الصحافيين الإسرائيليين الذين وصلت إليهم رسائل المشجعين بنبذهم والتصدي لأي شكل من أشكال التعاطي معهم.
فبينما تتنقل في الأسواق التجارية، لا بد أن تلحظ الملصقات الكثيرة التي وضعت على واجهات المحال التجارية لمقاطعة الإسرائيليين، فيما تنتشر التجمعات الشعبية على الطرقات وتطلق الشعارات المناهضة لـ"اسرائيل" كشعار:" يلا يلا يلا إسرائيلي برا".
من الإسلاموفوبيا إلى "السلام عليكم"
يهتم رواد كأس العالم خلال زيارتهم الدول التي تستضيفه بالتعرف إلى ثقافة البلد وعاداته ولغة شعبه، بيد أنه وللمرة الأولى في تاريخ كأس العالم، يكون هذا الإقبال الجماهيري من مختلف بلدان العالم للتعرف إلى الدين الإسلامي واللغة العربية على حد سواء، وهو ما شكل حدثاً فريداً من أحداث التلاقي المجتمعي الثقافي بين الشرق والغرب.
إذ أبدى المشجّعون الأجانب رغبة في عيش التجربة العربية الإسلامية عبر التواصل بلغة الضاد، ولو ببضع كلمات. فقد انتشرت مقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي يلقي فيها كثير من المشجعين الأجانب التحية الإسلامية على العرب بقولهم: "السلام عليكم"، ويتوددون إلى آخرين بكلمة "حبيبي".
في الوقت نفسه، تدفقت الأعداد الكبيرة من جماهير الحدث الكروي إلى المساجد في قطر للتعرف إلى الدين الإسلامي وتعاليمه بلغات مختلفة، وكان لافتاً ارتداء النساء للحجاب احتراماً لخصوصية الأمكنة.
كل ذلك أشاع جواً من الانفتاح الغربي على الآخر المسلم، في ظل ما شهده ويشهده العالم من انتشار صورة مشوهة مسبقة عن الإسلام. هذا الانفتاح عبر الإقبال الملحوظ للتعرف إلى الإسلام كسر بدوره حاجز الخوف الجماعي من الإسلام والمسلمين (الإسلاموفوبيا)، الذي أخذ يتعاظم في السنوات الأخيرة بسبب بعض الأحداث الفردية الخارجة عن مفهوم الإسلام الحقيقي.
مظهر آخر من مظاهر الاندماج في الثقافة العربية انعكس من خلال إقبال المشجعين الأجانب على ارتداء الأزياء الشعبية العربية التقليدية.
بالجلباب و"الغترة" والعقال، حضرت الجماهير الى المدرجات مع إضافة الأعلام الخاصة ببلدانهم وألوانها على الزي التقليدي العربي. فعلى سبيل المثال، ارتدى مشجعون من كرواتيا الزي العربي الكامل لكنهم أضافوا المربعات الحمراء الشهيرة إلى قميص منتخبهم على الجلباب.
مونديال قطر يجمع الأزياء التقليدية الشعبية العالمية
إلى جانب الأزياء التقليدية العربية، لم تتوانَ أعداد كبيرة من جماهير البلدان المشاركة في المونديال عن ارتداء أزياء بلدانهم التقليدية، سواء في مدرجات الملاعب أو في أماكن الفعاليات المختلفة.
بعض المشجعين المغاربة وضعوا على رؤوسهم الطربوش الذي يتميز به أهل المغرب، ويعتمره رجال الدولة الكبار في البلاد خلال المناسبات الرسمية،وفي حفلات الزفاف أو التخرج، أي في المناسبات التي تنطوي على فرح كبير.
وحرصاً منهم على التعريف بثقافة بلدانهم، جال عدد من المشجعين المكسيكيين في شوارع الدوحة بالزي الشهير المعروف بالمارياتشي والقبعة العريضة، في حين ارتدى مشجعون من كرواتيا القبعة التي تجسد العلم الكرواتي باللونين الأحمر والأبيض.
هذا الكرنفال الشعبي الكبير حمل في طياته رسالة من هذه الشعوب مفادها الإصرار على التمسك بهويتها الثقافية وتراثها وعاداتها وتقاليدها في ظل العولمة وتبعاتها، وفي الوقت عينه أتاح الكرنفال فرصة تعرف الثقافات المُختلفة.
ازدواجية المعايير الغربية
خلق مشهد ظهور المنتخب الألماني في أولى مباراياته متذمراً من القوانين التي وضعتها قطر وعممتها "الفيفا"، والتي منعت بموجبها وضع أي شارة أو علامة تدل على المثلية، خلق حالاً من الرفض والامتعاض الجماهيري البارز إزاء إصرار هؤلاء على كسر قوانين البلد المضيف لكأس العالم وعدم احترام مبادئه.
ووسط حالة الرفض هذه التي أججها هذا الحدث، تواصلت ردود الأفعال الغربية على قرار منع أي مظهر من مظاهر المثلية في المونديال، حيث وضع كل من وزير الرياضة البريطاني ووزيرة داخلية ألمانيا شارة المثليين في أثناء وجودها في المدرجات، فيما اقتحم مشجع الملعب بعلم الألوان.
هذه الممارسات لاقت تفاعلاً واسع النطاق على صعيد الجمهور العربي والغربي على حد سواء، الذي رأى أن ما جرى يعد تحايلاً على الضوابط المنصوص عليها في المونديال، وأظهر مدى رفض بعض الغرب لوجود شعوب وحضارات وثقافات لا تقر بمعاييره ومعتقداته.
على مواقع التواصل كثير من التعليقات التي تمحورت حول ازدواجية المعايير الغربية في التعاطي مع مسألة احترام القوانين وتقبل الآخر، وهي تؤكد زيف ادعاءاتهم ودعمهم للحقوق، إذ يقول أحد الناشطين: "يدعون الناس إلى احترام قوانينهم لكنهم لا يحترمون قوانين غيرهم".
الجمهور الكروي: لا للتنمر والعنصرية
من القضايا اللافتة التي طفت إلى السطح خلال المونديال قضية رفض العنصرية والتنمر، إذ سجل مواقف في هذا الإطار بيّنت حجم الاستنكار الجماهيري ورفض وجود العنصريين على المدرجات وخارجها. وقد رفعت جماهير عربية صورة اللاعب مسعود أوزيل، بعد أن تعرض للإهانة والعنصرية وعدم الاحترام، بحسب ما نشر على حسابه في تويتر بعد صورة جمعته بالرئيس التركي رجب طيب إردوغان.
الغضب الجماهيري تجلى أيضاً بعد تعرض مشجعين خليجيين للتنمر من أحد المعلقين في الإعلام الألماني بسبب ارتدائهم الزي الخليجي الخاص بالرجال، الذي وصفه "بثوب الحمام". الضغط الشعبي دفعه إلى الاعتذار، خصوصاً بعد تعرض المعلق لانتقادات من المتابعين والصحف.
إذاً، أدّت الجماهير دوراً فعالاً في رفض أشكال التنمر والعنصرية في المونديال، سواء وقع ضحيتها عربي أو أجنبي. وساهم تقديم النموذج والأيقونات إلى الجمهور مع بدء كأس العالم، كالشاب القطري غانم المفتاح المصاب بمتلازمة التراجع الذيلي في إيصال رسالة واضحة إلى كل العالم برفض التنمر ومقاومته ومقاومة الضغوط التي قد يتعرض لها الفرد اجتماعياً بسب اختلافه.
سابقة المونديال: المرأة في التحكيم
تلقف الجمهور العربي خبر التحكيم النسائي في المباريات في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ المونديال، بكثير من الترحيب والتشجيع على الخطوة، معتبرينها رسالة إيجابية للمرأة وحقوقها حول العالم، وإشادة بطاقاتها وقدرتها على أداء دور مهم في مناسبة كروية عالمية بحجم المونديال.
إبراز التمثيل النسائي في كأس العالم بعد عقود من الاحكتار لمصلحة الحكام الرجال بمشاركة ثلاث سيدات اختارهم الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا"، أضفى بُعداً آخر على كأس العالم، إذ أعاد حجم التفاعل مع هذه الخطوة إلى الواجهة الجدل حول أهمية تولي المرأة زمام القيادة في كل الميادين وحتى الرياضية منها.