غزة تُعيد تعريف الصوت المسيحي في الولايات المتحدة: لا دين يلتقي مع الإبادة

يشعر الناخب المسيحي بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الأحداث المأساوية في غزة، فالحكومة المنتخبة من قبله مضطلعة بالجرائم الإنسانية التي تحدث في فلسطين، عبر تقديم الدعم الكامل للاحتلال الإسرائيلي، وتمويل مجهوده الحربي.

  • امرأة تحمل لافتة تشير إلى أنها قد تصوت الآن لدونالد ترامب لمنصب الرئيس بينما يسير المتظاهرون في الشارع للتنديد بدعم إدارة بايدن لـ
    امرأة تحمل لافتة تشير إلى أنها قد تصوّت الآن لدونالد ترامب لمنصب الرئيس بينما يسير المتظاهرون في الشارع للتنديد بدعم إدارة بايدن لـ"إسرائيل" - لوس أنجلوس/ getty images

لم تستطع الجماعات المسيحية الأميركية أن تقف مكتوفة الأيدي أمام تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة، فأخذت ترفع صوتها عالياً، داعية إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، للضغط على "إسرائيل" لوقف عدوانها، وفتح المجال لتدفق المساعدات الإنسانية إلى القطاع، وتأتي تلك الدعوة استجابة للضمير الإنساني ومبادئ الأخلاق، التي يرى المسيحيون أنها لا تنفصل عن تعاليمهم الدينية الداعية إلى المحبة والسلام العالمي. 

ويتنامى الحسّ المتعاطف من قبل مسيحيي الولايات المتحدة مع تصاعد الهجمات الشرسة على غزة، واستمرار الإبادة الجماعية، التي راح ضحيتها ما يربو على 30 ألف نسمة، أكثرهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن عمليات التدمير والتجويع والإجبار على النزوح.

وزاد من حدّة تفاعل الطوائف المسيحية مع الأحداث الجارية، أنّ الهجمات الإسرائيلية طالت المسيحيين في قطاع غزة، بالإضافة إلى تدنيس الكنائس والاعتداء على المؤسسات المسيحية. وفي أعقاب الاعتداء الإسرائيلي على الكنائس الكاثوليكية والمسيحية في غزة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، وقّعت الهيئة المسكونية الأكبر في الولايات المتحدة، المجلس الوطني للكنائس، على رسالة تطالب بوقف إطلاق النار.

ويشعر الناخب المسيحي بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الأحداث المأساوية في غزة، فالحكومة المنتخبة من قبله مضطلعة بالجرائم الإنسانية التي تحدث في فلسطين، عبر تقديم الدعم الكامل للاحتلال الإسرائيلي، وتمويل مجهوده الحربي، بأموال الضرائب التي تجبى من المواطن، باسم الأمن القومي للبلاد.

وبحلول العام الجاري، صوّت مجلس مدينة سومرفيل بأغلبية ساحقة لمصلحة قرار يدعو الرئيس جو بايدن إلى العمل من أجل وقف فوري لإطلاق النار في غزة، ثم حذت حذوها  أكثر من 70 مدينة أميركية، بما في ذلك ميدفورد وشيكاغو وسياتل، وكانت الجماعات الدينية هي الداعم الأساسي للقرار.

حراك مسيحي تضامناً مع غزة

صعّدت الطوائف المسيحية في الولايات المتحدة من احتجاجاتها على سياسة إدارة بايدن التي تتجاهل مطالبها الداعية إلى العمل على وقف فوري للحرب، ودعم وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ففي التاسع من نيسان/أبريل الجاري، قام حشد كبير من منظمة "مسيحيون من أجل فلسطين حرة"، بإغلاق كافتيريا الكونغرس الأميركي، في أعقاب قداس أقيم في مبنى الكابيتول، في العاصمة الأميركية واشنطن، وهتف المشاركون: "الكونغرس وموظفوه لن يأكلوا اليوم حتى تأكل غزة"، وغنّوا "فلسطين ستكون حرة"، وعطلوا وجبة الغداء حتى قامت الشرطة بتفريقهم، واعتقال العشرات منهم.   

ونظمت المجتمعات المسيحية في الولايات المتحدة في عطلة عيد الفصح مع أواخر شهر آذار/مارس الماضي، مسيرات تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، والصلاة من أجل أن ينعم سكان غزة بالأمن والسلام، وقد كانت تلك المسيرات جزءاً من مبادرة عالمية للسير تضامناً مع معاناة الشعب في غزة.

ففي ناشفيل نظّمت الكنيسة الميثودية رحلة حج لمسافة 7.2 ميل، وكان جزء كبير من الطريق يقع على ضفة نهر كمبرلاند غرينواي، الذي اختاره المنظمون ليمثل ساحل البحر الأبيض المتوسط​​، الذي يشكل أحد حدود قطاع غزة.

وقام مسيحيو بيتسبرغ برحلة حج على غرارها، نظمتها "فوسنا بيتسبرغ"، وهي منظمة مسيحية داعمة للقضية الفلسطينية، ونصبوا خياماً تمثل مخيمات اللاجئين القائمة حالياً في القطاع، وجمعوا التبرعات لأجل سكانه. كما أقيمت مسيرات مماثلة في سان دييغو في ولاية كاليفورنيا وبوفالو في ولاية نيويورك وسبوكان بولاية واشنطن، بالإضافة إلى مدن أميركية أخرى. 

المسيحيون السود يدقون ناقوس الخطر

منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، نشط المسيحيون السود، الذين يعدون كتلة رئيسية في القاعدة الانتخابية للرئيس بايدن، لوضع حد للحرب المستعرة، التي ذكّرتهم بالعنصرية والظلم الذي قبعت تحت وطأته الشعوب الأفريقية في الولايات المتحدة، وما جره عليهم من ويلات وآلام عانوا منها على مدى قرون.

ودق قساوسة سود ناقوس الخطر للرئيس الأميركي، بعد مطالب واسعة من قواعدهم الدينية، ففي تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، التقت مجموعة من الزعماء المسيحيين السود مسؤولي البيت الأبيض وأعضاء كتلة السود في الكونغرس، وأعربوا عن قلقهم بشأن الأزمة الإنسانية المتزايدة في غزة.

وفي نهاية كانون الثاني/يناير من العام الجاري، تشكّل ائتلاف يضمّ أعضاء أكثر من 1000 قس أسود يمثلون مئات الآلاف من المتدينين المسيحيين السود، في كل أنحاء الولايات المتحدة، وموّلوا إعلاناً على صفحة كاملة في صحيفة "نيويورك تايمز"، وتوجيه رسائل مفتوحة وعرائض يدعون فيها بايدن للالتفات إلى الفظائع التي ترتكب بحق الفلسطينيين في غزة، ويطالبونه بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي، لوقف العدوان، من أجل الإنسانية المشتركة والسلام العالمي. 

وتأتي هذه الجهود من المجموعات المختلفة لرجال الدين السود في كل أنحاء الولايات المتحدة، فهي تضمّ المعمدانيين الجنوبيين ذوي الميول المحافظة، كما تشتمل على التجمعات غير الطائفية الأكثر تقدمية في الغرب الأوسط والشمال الشرقي. 

وقد حملت جهود القساوسة تحذيراً سياسياً، ونبهوا إلى أن رعاياهم يشعرون بالقلق إزاء موقف بايدن، وأن عدم اتخاذه خطوات جادة لتحقيق السلام يمكن أن يزيد من نفور الناخبين السود، الذين يشعرون بالفعل بخيبة أمل في ما يتعلق بقضايا عديدة أخرى، ما قد يؤثر بشكل مباشر في تصويتهم في الانتخابات. ومن المؤكد أن أي تصدّع في القاعدة الانتخابية للمسيحيين السود سيؤثر بشكل بالغ في مجرى الانتخابات المقبلة.

تزعزع في قاعدة الإنجيليين

ومما لا شك فيه، أن ملامسة الواقع المأساوي في غزة للضمير الأخلاقي لم ينحصر في فئة المسيحيين السود، بل شكل الوضع الإنساني المتدهور، اختباراً ثقيلاً للقيم الأخلاقية التي تُبنى عليها الأديان، وهو ما أدى إلى توسع دائرة التعاطف الإنساني، ليشمل جميع المجتمعات الدينية في الولايات المتحدة.

وقد بدأت الدوائر الصهيونية المسيحية التقليدية المؤيدة للجمهوريين بالتحرك، لا سيما في الفئات الأصغر سناً، فالإنجيليون، الذين يعدون قاعدة انتخابية أساسية للرئيس السابق دونالد ترامب، وداعماً رئيسياً لـ"إسرائيل"، انخفض مؤشر دعمهم لها إلى 50% بين فئاتهم العمرية الشابة، بعد تمادي الاحتلال في سياساته القمعية.

وكشف استطلاع للرأي أجراه معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم (ISPU) مطلع العام الجاري، أن أكثرية الطوائف الدينية مؤيدة لوقف إطلاق النار في غزة، وأظهر الاستطلاع أن نسبة 58% من الإنجيليين البيض يؤيدون وقف إطلاق النار، بالرغم من أنهم سجلوا أعلى نسبة في مؤشر الإسلاموفوبيا لعام 2022.

وزعزعت الحرب في غزة الدعم التاريخي القوي الذي قدمه الإنجيليون اللاتينيون في الولايات المتحدة لـ"إسرائيل"، وأحدث العدوان انقساماً وتوتراً بينهم، فمع صور الموت والدمار الناجم عن القصف الإسرائيلي في غزة، شعر بعضهم بالتعاطف مع الشعب الفلسطيني، فالأولوية عند جماعة منهم ما زالت لدعوة المسيح التي تحثّ على مساعدة الفئات الضعيفة والمظلومة، ولا يرون إباحة قتل المدنيين تحت ستار بعض الأولويات الدينية.

ويبدو أن تصويت الناخبين في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، سيتأثر بقوة بموقف المرشّحين من الحرب في غزة، فإن كانت الحرب تشكل تحدياً مقلقاً للمرشحين، فهي تمثل في الوقت نفسه، قضية محورية لمختلف الطوائف الدينية الأميركية، ومن المرجح بشدة أن تصوّت المجتمعات المسلمة للمرشح الداعم لوقف الحرب في غزة، في حين تبدي كثير من الجماعات الدينية المسيحية رغبة جازمة في دعم إحلال السلام في الشرق الأوسط.