صرّافون يلوّحون في الشوارع.. أزمة لبنان الاقتصادية تخلق "مهنة الضرورة"

مهن كثيرة لم تكن بهذا الشكل العشوائي في لبنان، باتت اليوم ظاهرة عادية ومألوفة، مثل انتشار الصرافين الذين يتخذون من نواصي الشوارع مركزاً لهم، فمنهم من يتجول بين السيارات، ومنهم من يجلس على كرسي بلاستيكي ماسكاً بيده رزمة من العملة اللبنانية.

  • صرّافون يلوّحون في الشوارع.. أزمة لبنان الاقتصادية تخلق
    صرّافون يلوّحون في الشوارع.. أزمة لبنان الاقتصادية تخلق "مهنة الضرورة"

سؤال "كم الدولار اليوم؟"، لم يعتد عليه اللبنانون طيلة عقدين ونصف العقد من الزمن، إذ حلّ مكان السؤال عن الصحة والعائلة والأولاد والأعمال، لا بل أصبح سعر الدولار مؤشراً لصحة وعافية هؤلاء.

أمور كثيرة تغيرت في حياة اللبنانيين من جرّاء الأزمة الاقتصادية والمالية التي يعاني منها لبنان. مهن كثيرة لم تكن بهذا الشكل العشوائي، باتت اليوم ظاهرة عادية ومألوفة، مثل انتشار الصرافين الذين يتخذون من نواصي الشوارع مركزاً لهم، فمنهم من يتجول بين السيارات، ومنهم من يجلس على كرسي بلاستيكي ماسكاً بيده رزمة من العملة اللبنانية، وملوحاً بها للمارين بحركة بهلوانية. فبات يُنظر إلى هذا المشهد في لبنان تماماً كبائع الكعك أو الحلوى، وكأن اللبنانيين اعتادوا الأزمة المالية، وصاروا يتعاملون معها كأمر واقع يتكيفون معه، ومنهم من يستغل الأزمة ليجني الأرباح ويضاعف ثروته على هامشها.

"مهنة الصيرفة أصبحت شاقة ومتعبة. كما أن هذا القطاع يعاني من الفوضى في ظل عدم وجود رقابة من قبل الدولة اللبنانية"، يقول وسام، صاحب محل صيرفة مرخص للميادين نت.

ووفق وسام، فإن العاملين في قطاع الصيرفة المرخص والقانوني، يعانون من ضغوطات كبيرة من قبل المواطنين، الذين يحملّونهم مسؤولية التلاعب بأسعار الصرف، لافتاً إلى أن عمليات السرقة والسطو على محلات الصيرفة قد تضاعفت خلال السنتين الماضيتين.

واعتبر أن ظاهرة الصرافين المتجولين، أثرت بشكل كبير على محلات الصيرفة المرخصة، "لأن المواطن بات يستسهل التعامل معهم، بدلاً من الوقوف أو الانتظار أمام محلات الصيرفة. لذلك بات على الصرافين المرخصين أن يهتموا أكثر بتنظيم عملهم، وأن يتعاملوا بصدق وشفافية مع المواطنين".

وختم حديثه بأن قطاع الصيرفة قد تغير كثيراً، "فأصبح أكثر صعوبة من ذي قبل، إذ إن حجم تقلب أسعار الصرف أصبح كبيراً، كما أن الزبائن تغيرت سلوكياتهم. فعلى سبيل المثال، أصبح المواطن الذي يملك 20 دولاراً يقصدنا ليصرف 10 دولارات فقط، ويتريث بتصريف الـ10 دولارات الباقية، مراهناً على ارتفاع سعر الصرف".

صرّاف متجول.. خيار الضرورة؟

لكن من هم الصرّافون المتجوّلون الذين تحدث عنهم وسام؟ للتعرف عليهم قصد الميادين نت أحد الأماكن التي يتجمّعون فيها تحت جسر في العاصمة بيروت. وفي السياق، يتحدث كمال كيف وصل به الأمر ليكون صرافاً متجولاً، بعد أن كان يمتلك مولد كهرباء يعطي منه اشتراكات في إحدى المناطق اللبنانية (مهنة موجودة في لبنان بسبب عدم توفير الكهرباء من قبل الدولة).

إلا أنه ومع بداية أزمة الوقود في لبنان، وتحول أسعار المحروقات من الليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي، برزت حاجة كل أصحاب المهن للدولار، ولم يستطع أغلبهم الحصول عليه، ولا سيما أن الزبائن يدفعون بالليرة اللبنانية، ومصرف لبنان لا يوفر لهم الدولار، إضافة إلى المعاناة مع البنوك والتأخير في دفع الشيكات. لذلك قام كمال بالعمل كصراف متجول من أجل تأمين الدولار لشراء مادة المازوت، والحفاظ على مهنته.

بعد ازدياد حدّة الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان، لم يعد باستطاعة كمال الاستمرار في مهنته، حينها قرر بيع المولد، واستفاد من ثمنه ليزيد رأسماله ويستمر في مهنة الصيرفة. تغيرت حياة كمال، من صاحب مهنة شاقة تحتاج إلى متابعات يومية مع زبائنه، لإصلاح الأضرار وتحصيل الاشتراكات، وغيرها من المشاكل التي ازدادت بشكل كبير خلال الأزمة، إلى صراف متجول يعمل في فترة ما بعد الظهر والليل، بعد إقفال محلات الصيرفة أبوابها، بالرغم من أن عمل الصرافين المتجولين ليس قانونياً بعد. إلا أن هذه المهنة كما يقول هي مهنة صعبة، وفيها مخاطر أيضاً. حيث يتعرض الصرافون المتجولون لعمليات سرقة خلال وجودهم على الطرقات، إضافة إلى عمليات الغش، كإعطائهم عملات مزورة. 

تأثير هذه الظاهرة لم يكن فقط على الرجال، حيث قابل الميادين نت امرأة تعمل أيضاً في مجال الصيرفة، إنما تتخذها كهواية، إذ لديها مدخول شهري من مصدر آخر. بدأت ريما في هذه الهواية من خلال التصريف لأصدقائها وعائلتها، وهي الآن لديها زبائن "مميزون ومهمون" كما قالت. تعيش ريما في بعض الأحيان حالة من التوتر، كحال معظم الصرافين، وذلك بسبب عدم الاستقرار في سعر الصرف، والمشاكل التي تحصل مع الزبائن من جرّاء ذلك.

في الأزمات الاقتصادية والمالية الكبرى تتأثر بعض قطاعات الأعمال، حيث تضعف الكثير من المهن، وتقوى مهن أخرى. وهي حال مهنة الصيرفة في لبنان.

وفي بلد مثل لبنان، حيث تغيب الدولة عن ممارسة واجباتها وتحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها، تأخذ فيه هذه الظواهر منحى الفوضى وتساهم في تعميق الأزمة، بدلاً من أن تحاول حلّها.

ليست هذه المرة الأولى التي تنهار فيها العملة اللبنانية، فمن عاصر بداية التسعينيات يتذكر أن المشهد عينه قد تكرر، وظاهرة الصرافيين الجوالين وتجار العملات قد راجت آنذاك. فهل كُتب على اللبنانيين أن يعيد التاريخ ذاته بنكباته وأزماته؟