"شلل كامل جراء انعدام الوقود".. لا حياة في شوارع العاصمة السورية

الشحّ غير المسبوق في تأمين المشتقات النفطية في سوريا أرخى بثقله على الحياة في البلاد، وأدى إلى شللٍ شبه كامل في الحياة العامة.

  • تشهد مختلف المناطق السورية أزمة حادّة في المشتقات النفطية (رويترز)

كانت سنوات الحرب الطويلة في سوريا قاسية بمجملها على السوريين، لكن العام 2022 كان واحداً من أقسى الأعوام وأكثرها سوءاً، نظراً لتردي الوضع الاقتصادي، وتأثيره السلبي المباشر على مختلف القطاعات الخدمية والمعيشية والاجتماعية في البلاد.

فقد أرخى الشحّ غير المسبوق في تأمين المشتقات النفطية بثقله على المشهد، وأدى إلى شللٍ شبه كامل في الحياة العامة، كما اضطرت الحكومة السورية إلى اتخاذ إجراءات تقشفية استثنائية للتعامل مع الوضع الراهن، وسط آمالٍ شعبية بأن يحمل العام 2023 انفراجاً في أزمة المحروقات.

أزمة غير مسبوقة

منذ أسابيع تشهد مختلف المناطق السورية أزمة حادّة في المشتقات النفطية، أدّت إلى انخفاضٍ كبير في وسائل النقل العام والخاص، مع توقف العديد من الفعاليات الاقتصادية والصناعية والشركات عن العمل، أو تخفيض مدّة عملها، فيما أعلنت بعض شركات النقل بين المحافظات عن خفض عدد رحلاتها إلى الحدود الدنيا لعدم توفر الوقود.

ويعزو الخبير الاقتصادي، علي محمد، للميادين نت الأسباب الأساسية لأزمة المحروقات في سوريا بجوهرها إلى الحرب ومفاعيلها، لا سيما خروج منطقة شرقي الفرات عن سيطرة الحكومة السورية، وما تمثله هذه المنطقة من قدرة على تحقيق أمن الطاقة للبلاد.

وبحسب محمد، فإنّ الإحصائيات الرسمية تشير إلى أنّ الإنتاج السوري من النفط كان قبل الحرب بحدود 386 ألف برميل يومياً، فيما الآن لا يتجاوز ربما 20 إلى 25 ألف برميل يومياً، وسط حاجة يومية لا تقل عن 100 ألف برميل، كما تحتاج سوريا يومياً نحو 8 مليون ليتر مازوت ومثله تقريباً للبنزين، فيما كان التوزيع ما قبل الأزمة الأخيرة لا يتعدى 6 مليون ليتر للمازوت و5 مليون ليتر للبنزين.

ويتابع محمد بالقول إنّ "كل ما ذُكر آنفاً يجعل الحالة العامة للمحروقات في سوريا عُرضة لاهتزازات متعددة، حيث خلّفت أزمة المحروقات الأخيرة أزمات خدمية ومعيشية وإنتاجية، وضربت الأزمة حركة النقل والمواصلات في كافة المحافظات السورية، مما أثّر بشكل كبير على التنقل سواء للأفراد أو للنقل من أجل العملية الإنتاجية والصناعية، وكذلك ازدادت ساعات القطع الكهربائي في عموم المناطق".

ولفت إلى أنّ "هذا أثّر بدوره في توقف عمل بعض المعامل نتيجة عدم توفر موارد الطاقة لتشغيلها من ناحية، ونتيجة صعوبة النقل والانتقال سواء للمواد والبضائع أو حتى مواصلات العمال".

وختم الخبير الاقتصادي حديثه بأنّ تلافي هكذا أزمات يكون بعقد اتفاقيات دقيقة مع الدول الصديقة بما يكفي لاستقرار التوريدات دون انقطاع، وترميم الاحتياطي النفطي، مع استمرار العمل لعودة منطقة شرقي الفرات لسيطرة الحكومة السورية وعودة نفطها "المغتصب والمسروق".

إجراءات استثنائية

مواقف ومحطات "الميكرو باص" في العاصمة السورية دمشق شهدت خلال الأيام الماضية اكتظاظاً غير مسبوق، وسط ندرةٍ في وسائل النقل العامة والخاصّة التي لم تتمكن من تأمين المحروقات نتيجة الأزمة المستمرة، لتبدو دمشق شبه خالية من السيّارات حتى في أوقات الذروة خلال النهار.

كما يضطر عدد كبير من الطلاب والموظفين والمواطنين للتنقل إمّا سيراً على الأقدام أو الانتظار لساعات طويلة قبل الحصول على مكان في وسائل النقل الجماعية، بينما تحوّلت سيارات الأجرة إلى وسائل نقل جماعية، حيث يشترك عدد من الركّاب في سيّارة واحدة لتفادي الانتظار الطويل، ولتقليل التكلفة المادية، نتيجة الارتفاع الكبير في تكلفة سيارة الأجرة، والتي غالباً ما يلجأ أصحابها إلى السوق السوداء للحصول على المحروقات لكن بأسعار مُضاعفة.

وتشرح حلا أحمد (21 عاماً)، وهي طالبة سنة ثالثة في كلية الإعلام في جامعة دمشق للميادين نت طريقة تعاملها مع الوضع الحالي في ظل أزمة المحروقات وانخفاض عدد وسائل النقل العامة: "أضطر يومياً للخروج من منزلي قبل ساعتين من بداية المحاضرات، وفي كثير من الأحيان أصل متأخرة إلى الجامعة، وعند العودة أسير من منطقة المزة إلى البرامكة لمدة نصف ساعة قبل أن أتمكن من العثور مكان في السرفيس، وعندما لا أجد، أكون مجبرة على مشاركة سيارة أجرة مع ثلاثة أشخاص آخرين لكن بسعر مرتفع، وهذا ما يشكل عبئاً مادياً كبيراً عليّ".

أمام هذا الواقع، اتخذت الحكومة السورية سلسلة من الإجراءات التقشفية لمواجهة الأزمة الخانقة، حيث تم الإعلان عن تعطيل العمل والدوام ضمن الجهات العامة والدوائر الرسمية خلال فترة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، إضافة إلى التعطيل يوم الأحد من كل أسبوع لمدة شهر كامل.

كما عمدت الحكومة السورية إلى تقليل الكميات الموزعة من المحروقات "المدعومة" على السيارات العامة والخاصة إلى الحدود الدنيا، كما تم تخفيض الكميات الواردة إلى المصانع والشركات والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص.

في حين أعلن اتحادا كرة القدم وكرة السلة في سوريا توقف جميع فعالياتهما الرياضية لجميع الدرجات والفئات العمرية نتيجة أزمة الوقود الحادة.

كما رفعت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك السورية سعر لتر البنزين الحرّ إلى 4900 ليرة بعدما كان بـ3400 ليرة، ولتر المازوت الصناعي إلى 5400 ليرة بعدما كان بـ2500 ليرة.

وعن صعوبة الحصول على مادة المازوت من محطات الوقود، يقول أبو وائل (56 عاماً)، وهو سائق سرفيس داخل العاصمة السورية للميادين نت: "اليوم أصبح السعر مضاعف والكميات أقلّ، والمشكلة لا تكمن في أصحاب السرافيس أو سيارات الأجرة وإنما في عدم توفر المادة في محطات الوقود، وكثيراً ما أضطر للانتظار أكثر من 8 ساعات لأحصل على 20 ليتر فقط، بالمقابل فإنّ سعر السوق السوداء مضاعف عشر مرات عن السعر المدعوم".

أزمة اجتماعية

بدأت مؤشرات أزمة المحروقات في شهر آب/ أغسطس الماضي عندما لجأت الحكومة السورية إلى رفع سعر مادة البنزين المدعوم بنسبة تقارب الـ100% ليبلغ 2500 ليرة سورية (نحو نصف دولار)، لتعلن الحكومة لاحقاً عن صعوبة الحصول على المشتقات النفطية، وتبدأ الأزمة بالتفاقم أكثر فأكثر، خاصّة مع ارتفاع هذه المواد في السوق السوداء إلى مستويات قياسية، حيث وصل سعر الليتر الواحد إلى نحو 14000 ليرة (2.3 دولار).

أزمة المحروقات لا تقتصر على وسائل النقل العامة والخاصّة ضمن المدن السورية وبين المحافظات، بل في تأثير شحّ المحروقات وارتفاع أسعارها على أجور نقل البضائع والمواد الغذائية والخضار والفواكه، ما أدى إلى ارتفاع قياسي في أسعار تلك المواد في الأسواق المحلية لينعكس ذلك سلباً على السوريين الذين وجدوا أنفسهم في أزمة جديدة تُضاف إلى أزماتهم المعيشية المتراكمة.

العلاقات الاجتماعية والزيارات الشخصية تأثّرت أيضاً إلى حدٍ كبير بأزمة المواصلات، مع عدم توفر وسائل النقل أو ارتفاع تكلفتها، ويقول أحمد عيسى (37 عاماً)، وهو موظف في دائرة رسمية للميادين نت: "منذ بدأت أزمة المواصلات قبل نحو ثلاثة أشهر أتجنب الزيارات العائلية أو الشخصية بسبب التكلفة المرتفعة لسيارات الأجرة والتي تتجاوز في أقلها 12 ألف ليرة (نحو دولارين)، وهذا مكلف للغاية مقارنة بالرواتب الموجودة حالياً، بينما الانتظار لساعات من أجل وسائل النقل العامة أصعب بكثير".

الأزمة ليست الأولى من نوعها خلال السنوات الماضية، حيث شهدت سوريا أزمات مماثلة في شحّ المحروقات، لكنها كانت بمستوى أقل حِدّة، ونجحت الحكومة السورية في مواجهتها سريعاً، مع وجود الخط الائتماني الإيراني الذي كان يغطي حاجة الأسواق المحلية إلى حدٍ ما.

أميركا تقطع شريان الحياة

في العام 2014 سيطرت قوات سوريا الديمقراطية بدعم من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية على مناطق شمال شرق سوريا، حيث توجد معظم حقول النفط والغاز والثروات الطبيعية، كما عمدت القوات الأميركية إلى إقامة قواعد عسكرية بمحيط حقول النفط لمنع وصول أيّ نوع من المشتقات النفطية إلى مناطق الحكومة السورية، ما دفع دمشق منذ ذلك الوقت للاعتماد على استيراد النفط الخام لتأمين حاجة البلاد من المحروقات.

عملية الاستيراد لم تكن بالأمر اليسير، خاصّة في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على دمشق، والتي تمنع توريد المشتقات النفطية بأيّ شكل من الأشكال، لذلك كانت الحكومة السورية تلجأ في غالب الأحيان إلى طرق غير رسمية للحصول على النفط الخام وتكريره في المصافي السورية.

في العام 2018 تم توقيع اتفاق بين دمشق وطهران لتوريد المشتقات النفطية من إيران إلى سوريا تحت مسمى "الخط الائتماني الإيراني"، الذي نجح، إلى حدٍّ كبير، في تخفيف وطأة أزمة المشتقات النفطية في الداخل السوري، على الرغم من الصعوبات الكبيرة التي كانت تواجهها الناقلات الإيرانية في طريقها إلى الموانئ السورية، والتي لم يكن آخرها احتجاز السلطات اليونانية لناقلة النفط الإيرانية "لانا" لأكثر من شهرين بذريعة انتهاك العقوبات المفروضة على سوريا.

الدكتور في كلية الاقتصاد- جامعة دمشق، عابد فضلية، يشرح للميادين نت أنّ "سوريا تعاني اليوم من أزمة محروقات، وربما الأدق القول إنها تعاني من قلة حوامل الطاقة، وهي الأزمة الأشد على البلاد منذ العام 2011"، ويتابع فضلية إنّ "هذه الأزمة تعود جذورها إلى بداية الحرب، ومن ثم الاحتلال الأميركي بالتعاون مع قوات سوريا الديمقراطية للشمال الشرقي من البلاد، الذي كان يغطي 90% من إنتاج النفط والغاز الطبيعي السوري، ثم تضاعفت الأزمة مع الحصار الغربي الأميركي على سوريا، وكانت المشكلة الأكبر بإصدار الولايات المتحدة لقانون (قيصر) الذي ركّز على تعطيل توريد حوامل الطاقة بكافة أنواعها وأشكالها إلى سوريا".

ويشرح الدكتور فضلية أبعاد فرض القانون الأميركي على الاقتصاد السوري، بأنه أثّر بشكل كبير على وصول المشتقات النفطية والمواد الأولية والحوالات المصرفية إلى سوريا، كما أنّ القانون فرض عقوبات على الدول الصديقة مثل إيران وروسيا لمنع إيصال حوامل الطاقة إلى سوريا".

كما أشار الدكتور فضلية إلى وجود بعض العوامل الداخلية التي ساهمت في تفاقم أزمة المشتقات النفطية، وهي الخلل الإجرائي والسلوكي في توزيع ما هو متاح من المحروقات على محطات الوقود، الأمر الذي أدى إلى وجود سوق سوداء بأسعار عالية جداً ترهق كاهل المواطنين كونها تقسم جزءاً من قوّتهم الشرائية، أما السبب الداخلي الثاني فهو الرفع الحكومي المتكرر وغير المبرر لأسعار حوامل الطاقة، بما يؤدي إلى رفع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية والمواصلات".

الأزمة لا تقتصر على المواصلات

وتخطت أزمة المشتقات النفطية حدود مشكلة المواصلات، لتنعكس الأزمة على مختلف جوانب الحياة، فالعديد من المهن والأعمال التجارية التي تعتمد على المحروقات انخفض نشاطها إلى الحدود الدنيا، وسط معاناة كبيرة في الحصول على المحروقات اللازمة لاستمرار عمل تلك المهن، الأمر الذي أدى لتأثر الأوضاع المعيشية بشكلٍ كبير.

ويقول فهد الإدريس (56 عاماً)، وهو بائع فلافل في حي المهاجرين في دمشق للميادين نت: "قبل الأزمة الحالية كان عملي يبدأ من الثامنة صباحاً ويستمر حتى العاشرة ليلاً، أما اليوم فالدوام ينتهي عند الساعة الثالثة أو الرابعة عصراً، لأنّ تأمين مادة الغاز صعب للغاية، كما أنّ تقنين الكهرباء يستمر لساعات طويلة".

لقد كانت دمشق طوال سنوات الحرب تنبض بالحياة وتتجاوز جراحها وآلامها، لكن الأزمة الحالية أظهرت وجه الحرب القاسي على دمشق وأهلها، فالشوارع الخالية من المارّة لم تعرفها العاصمة حتى في أسوأ أيام الحرب، لكن ورغم كل شيء تبقى آمال السوريين بأن يفتح العام الجديد أبواب الخير خاصّةً في ظل التطورات السياسية الأخيرة التي من المتوقع أن تكون مقدّمة لانفراج سياسي وربما اقتصادي مقبل.