سوريون يواجهون موتاً مؤجلاً بعد الحرب جراء انتشار الألغام
لا يمر يومٌ من دون التبليغ عن وقوع حوادث في أريافٍ ومدنَ سورية، تسفر عن وفيات لا تستثني أحداً، جراء الألغام، بعد أكثر من عشر سنواتٍ من الحرب.
خفت صوت المعارك العسكرية في سوريا بعد أكثر من عشر سنواتٍ من الحرب، لكن مساحاتٍ واسعة من البلاد صارت ملأى بالألغام.
وبعودة عدد من النازحين إلى مدنهم ومناطقهم في السنوات الأخيرة، صار تلوّث هذه الأماكن بالذخائر غير المنفجرة تهديداً لحياتهم.
ولا يمر يومٌ من دون التبليغ عن وقوع حوادث في أريافٍ ومدنَ سورية، تسفر عن وفيات لا تستثني أحداً، (مزارعون، رعاة ماشية، جامعو خردة، والأطفال في الطريق إلى مدارسهم..).
وحتى في حالات الإصابات التي لا تسبب الوفاة، يعيش اليوم عشرات الآلاف محاولين التغلب على إعاقات دائمة سبّبها انفجار تلك الذخائر، ويعيش آلافٌ آخرون مع الأذى النفسي للندوب التي خلفتها الحرب في أجساد ووجوه أحبتهم.
وعلى الرغم من إسهام بعض الدول كأرمينيا وروسيا، في إرسال فرق متخصصة لإزالة الألغام من بعض المناطق السورية، فإن دمشق مازالت تواجه تعاني من التدابير القسرية أحادية الجانب غير المشروعة، والشروط السياسية التي تحاول بعض الدول فرضها لعرقلة حصولها على الدعم المطلوب في مجال نزع الألغام.
وكانت "اللجنة الوطنية لنزع الألغام" في سوريا، قد عقدت أول اجتماعاتها الشهر الماضي برئاسة وزير الخارجية فيصل المقداد، الذي أعلن أن الجيش العربي السوري قد طهّر أكثر من 55 ألف هكتار، من أراضي الجمهورية العربية السورية من الألغام والذخائر المتفجرة، مزيلاً أكثر من 50 ألف عبوة ناسفة، و84 ألف قذيفة غير منفجرة، و45 ألف لغم متنوع.
الكمأة.. موسمٌ بلون الدم
بيدٍ مُرتجفة، تلوّح أم إبراهيم من شرفة منزلها في مدينة السلمية بريف حماة، إلى أفراد أسرتها الذين يركبون مع بزوغ الفجر بمرافقة أقربائهم شاحنةً صغيرة في اتجاه صحراء الريف الشرقي للبحث عن الكمأة، تجلس واضعة عكازيها جانباً وتقول للميادين نت: "نحن عمالٌ زراعيون موسميون، ننتظر بفارغ الصبر موسم الكمأة لأننا لا نستطيع العيش من دونها، فهي توفر لنا مصدر رزقنا لأنها غالية الثمن ولا تتوافر في أماكن واضحة، بل يجب البحث عنها في البادية فهي برية ولا يزرعها الإنسان".
لا يفارق القلق مُحيّا السيدة الخمسينية، التي تعاني متلازمة الطرف الشبح، بعد أن بُترت ساقها نتيجة تعرضها لانفجار لغم زرعته داعش، في أثناء بحثها عن الكمأة، وتتابع: "بعد أن كان هذا الموسم يرتبط عندي بالفرح واجتماع الأسرة في العمل، صرت أبقى وحيدةً في المنزل، لا عمل لدي سوى التفكير في احتمال أن يواجه أحد أفراد أسرتي أو أقربائي ما واجهت".
تجد ابنة ريف حماة صعوبةً في تذكر ما حصل معها فقد "مرّ بلمح البصر" بحسب تعبيرها وتضيف: "كان الوقت في وسط النهار تقريباً، أحمل في سلتي ما جمعتُ من الكمأة، وحولي كثير من العمال، فجأة ارتفعتُ في الهواء ثم سقطتُ على الأرض لأجد نفسي في المستشفى، لم أعرف ماذا حدث لكنني اكتشفت لاحقاً أن أحداً داس على لغم، لقد كنت محظوظة لأنني عشت، مقارنة بـ33 شخصاً فقدوا حياتهم يومذاك".
السيدة التي ستساعدها أسرتها، في ادّخار مبلغ من عوائد هذا الموسم، لتتمكن من الذهاب إلى العاصمة دمشق لتركيب طرف صناعي، تروي لنا أسطورة نقلتها لها والدتها عن سبب تسمية الكمأة بهذا الاسم وتقول: "كان هناك امرأةٌ فقيرة ولديها أولادٌ جياع، لم يكن لديها طعام ولم تعرف ماذا تفعل، فوضعت حجارة بيضاء في القدر، وكلما بكى الأولاد كانت تقول لهم أكَمَت أي نضجت".
تمسح أم إبراهيم دموعها وتستكمل حديثها: "صرت أميلُ إلى تصديق هذه الرواية، لو لم يكن ضنك العيش يجبرني أنا وأسرتي على الذهاب للبحث عن الكمأة في البادية، هل كنت لأذهب؟ نحن على موعد كل موسم مع ضحايا جدد، إنها حقاً لقمة مغمسة بالدم".
"هدايا مميتة" للأطفال
"هل رأيتم يدي الجديدة؟"، بهذه العبارة تخاطب آية كل من يزور منزل أسرتها في الصنمين بريف درعا.
وتحمل الطفلة التي لم يتجاوز عمرها اثني عشر عاماً بيدها السليمة، بعض الأمتعة مُحاولةً مساعدة والدتها وتقول للميادين نت: "لم أتعلّم استخدام الطرف الصناعي جيداً بعد، ولم أعتده، لكنني على الأقل سأتخلّص ممن يتنمرون علي في المدرسة وينعتونني بالمعاقة".
تُشمّر ابنة ريف درعا عن ذراعيها، وتستعرضهما معاً وتتابع: "صحيحٌ أن لونه ليس بلون بشرتي تماماً، لكنني سأبدله كل عام كي يوافق نموي".
تشير بطرفها إلى المساحة البعيدة أمام المنزل وتشرح: "في العام الماضي كنت أقوم بمهمتي الاعتيادية في جمع الحطب، وجدت قطعةً معدنية تشبه صنبور المياه، فمسكتها كي آخذها معي إلى المنزل لعل أبي يستفيد منها، ثوانٍ قليلة جعلتني أشعر بسخونتها ثم انفجارها، ولم أجد نفسي بعدها إلا في المستشفى مقطوعة اليد".
تدخل أم آية حاملةً صحناً من الضيافة التقليدية المتمثلة في الراحة الدرعاوية، وتقول: "ليست ابنتي من تأذّت وحسب، كذلك الأمر أخي في بلدة الصنمين فقد حياته بسبب لغمٍ حينما كان يزرع حقله بشكل اعتيادي بالبطاطا، نحن فلاحون ونتوارث العمل في الأرض، لكننا لم نصادف طوال حياتنا هذا الأمر، كله حدث بعد عودتنا إلى أراضينا التي طُرِدَ منها إرهابيّو داعش".
لا تخفي السيدة الأربعينية خوفها من "الهدايا المميتة" بحسب وصفها، وتختم: "لا أبالغ إن قلت إنني أحذّرٌ أطفالي ثلاث مرات على الأقل يومياً من لمس أي أجسامٍ غريبة، لكن هل هذا كافٍ في الوقت الذي لا تتوافر فيه خرائط تحدد مواقع انتشارها من أجل أن يتجنبها الناس؟".
الورشات التوعوية غير كافية
ترافق زينب عبد الرحمن أطفالها الثلاثة، لحضور ورشةٍ توعوية حول الألغام، دعاهم إليها فريق منظمة الهلال الأحمر في بلدة الطيبة بريف درعا، وتقول لـلميادين نت: "حوادث انفجار مخلفات الحرب تقع يومياً تقريباً في مناطقنا، وتُخلّف كثيراً من الضحايا الذين يعملون بطبيعة الحال في الزراعة أو الرعي، ولا توفّر أطفالنا الذين يلمسون أجساماً غريبة أثناء لعبهم".
وبينما يُفلِت الأولاد يدي والدتهم ويجرون نحو الشخصيات الكرتونية التي يمثلها بعض أعضاء الفريق، تتابع السيدة الأربعينية حديثها: "الأطفال هنا سيستفيدون أكثر، لأنهم يستمعون إلى قصص حوادث حقيقية عن طريق شخصيات محببة لهم، ويتعرفون مع المتطوعين إلى أنواع مخلفات الحرب وأشكالها، إضافة إلى خطوات التصرف الصحيح في حال مشاهدتها، وأصبح الرقم 108 معروفاً بالنسبة إليهم".
تشير زينب إلى عدة بروشورات توعوية وضعتها في حقيبتها، وتختم: "قد توفر هذه الورشات التفاعلية هامشاً توعوياً لنا ولأطفالنا، لكنها حتماً غير كافية، وما لم تُزل هذه الألغام فإنها ستستمر طويلاً في إعاقة استئنافنا حياتنا الطبيعية، نحن لا نريد سوى أن نعيش وأطفالنا في أمان".
120 شخصاً ضحايا انفجار الألغام في النصف الأول من 2022
يؤكّد المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، الدكتور زاهر حجو ارتفاع عدد ضحايا انفجار الألغام التي خلفها الإرهابيون، إلى أكثر من 120 شهيداً في النصف الأول من العام الحالي فقط، ويقول: "سجلنا 96 حالة لذكور و24 حالة لإناث، توزّعت بين 40 في حماة، و30 في حلب، و24 في ريف دمشق، فيما سجلت درعا 11 حالة، ودمشق 6 حالات، والعدد نفسه في حمص، وليس من إحصاءات إلى الآن في محافظات الرقة ودير الزور وإدلب، باعتبار أن جزءاً من هذه المحافظات ما زال خارج سيطرة الدولة".
وينصح حجو الذين قد يقعون في حقول ألغام أو يشعرون بوجودها في المنطقة، بالهدوء والتوقف من دون أي حركة، وعدم لمس الأشكال الغريبة المشكوك فيها، وعدم رمي أي جسمٍ في اتجاه اللغم، وطلب المساعدة حتى بالصراخ.
ويتابع: "على الناس الحذر من اصطحاب الأطفال إلى مثل هذه الأماكن إلا بعد تأمين الجهات المختصة لها، فالأطفال أكثر الناس فضولاً لفتح الأجسام الغريبة أو لمسها، ومن الضروري أن يعود الشخص من الطريق السالك الذي أتى منه أو أن يسلك الطرق المُعبدة التي تسير عليها السيارات".
وينبّه حجو إلى ضرورة الانتباه إلى الشارات المحذرة من مخاطر الألغام، وضرورة الاتصال بالجهات المختصة بجميع الأحوال ويختم: "الحبل الملون عادة يحيط بالمنطقة الخطرة ووجود أحجار ملونة باللون الأحمر يدل على أن في المنطقة ألغاماً، أماً إذا كان لونها أبيض فهي تدل على المنطقة الآمنة".