سبتة ومليلية.. هوية مغربية وعمرانية متجذرة خلف الحدود الإسبانية
مدينتان فاتنتان تقعان داخل التراب المغربي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، لكن داخلهما وعلى حدودهما تختفي مآسي أرض يحتلها الإسبان منذ خمسة قرون.
القوات الإسبانية تعتدي في أيار/مايو عام 2021 على مهاجرين غير شرعيين بعد دخول الآلاف منهم مدينة سبتة المحتلة في غضون يومين. وفي حزيران/ يونيو عام 2022 تقتل أكثر من 20 مهاجراً غير شرعي في أثناء محاولة تجاوز سياج مدينة مليلية المحتلة، في مجزرة غير مسبوقة.
عند متابعة أخبار هذه المآسي التي ترد سنوياً من المعابر الأفريقية الأوروبية في المغرب، ومن خلال الصور، قد يظن المتتبّع للوهلة الأولى أنها تقتصر على المهاجرين القادمين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، بيد أن مأساة المدينتين المحتلتين تعود إلى قرون، إذ يعيشها مواطنون مسلمون إسبان غرباء في أرضهم، وآخرون مغاربة، وهم إما يعتمدون على تجارتها في تحصيل قوتهم اليومي وإما يفرون من البطالة والفقر صوب ما يعدونه "الفردوس الأوروبي".
فكيف هي الحياة في المدينتين وعند معابرهما؟
تقع المدينتان داخل التراب المغربي على ساحل البحر الأبيض المتوسط، مناخهما المعتدل والجميل الذي لا يختلف عن مناخ المدن المغربية المجاورة، وشوارعهما الفسيحة، وبناؤهما الحضاري، ونمط حياتهما الأوروبي، كلها مظاهر فاتنة، فداخلهما وعلى حدودهما تختفي مآسي أرض يحتلها الإسبان منذ خمسة قرون، ويراها المغرب إلى جانب بعض الجزر جزءاً لا يتجزأ من أراضيه، بحكم الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الوطيدة والقيم المشتركة بين سكانها والمغاربة.
هوية مغربية بنمط أوروبي
وأنت تجول في شوارع مدينة سبتة حيث تتجاوز نسبة المسلمين 47 في المئة، في مقابل 50 في المئة من المسيحيين، تصادف المساجد التي تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد المعابد بطراز مغربي أندلسي، وفي الطريق يمر من أمامك مواطنون تنوعت ثيابهم بين الثقافة الأوروبية ونظيرتها المغربية خصوصاً مع تمسّك مسلمي المدينة بالجلباب المغربي، سواء منهم الرجال والنساء.
وإذا مررت ببيت وشممت رائحة الأكلات المغربية فلا تستغرب، فأنت في مدينة ما زال يحافظ سكانها على عادات العرب والأمازيغ في شمالي المغرب، فضلاً عن روابطهم العائلية والاجتماعية، إضافة إلى حفاظهم على كل تقاليد الأعياد والشعائر الدينية مثل صلاة الجمعة وغيرها.
أما عندما تصادف تمثال الشريف الإدريسي الذي أنجز أول خريطة في العالم، ويعد رمزاً وطنياً للمدينة المحتلة، بارزاً أمامك، فستكتمل الصورة ويتبادر إلى الذهن أنك على أرض مغربية يأبى مجتمعها التخلي عن هويته التاريخية، على الرغم من النمط الأوروبي المستوطن في المدينة المتوسطية الصغيرة، التي يحيط بها البحر من ثلاث جهات: شرقاً، وشمالاً، وجنوباً، فيما تتصل غرباً بحضنها الترابي المغربي.
أبرتهايد إسباني ومساواة غائبة
استمرار الهوية المغربية في المدينتين، واندماج ذوي الأصول العربية والأمازيغية في المجتمع، لم يمنع شعورهم بالغربة، خصوصاً بعد تشييد سياج بأسلاك شائكة على الحدود كلها، هدفه المعلن وقف الهجرة غير النظامية بيد أن انعكاساته كانت أعمق من ذلك؛ إذ أصبح عائقاً بين شعوب تتشاطر روابط وقيماً وجذوراً واحدة، ويرى مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم بالمغرب أنه شبيه بسياج المكسيك أو بجدار الفصل العنصري الذي يقيمه الاحتلال الإسرائيلي بهدف عزل السكان.
أما عن حقوقهم داخل الجيبين، فإنهم حرموا حقهم في التوظيف، خصوصاً في مدينة مليلية التي انتفضت مرات عدة، وأشهر انتفاضاتها كانت عام 1981 إثر أزمة قانون يتعلق بالجنسية طُرد بموجبه 1500 من السكان.
الحكومة المحلية في مليلية تقر بدورها بأن البطالة هي أكبر مشكلة يعانيها ذوو الأصول المسلمة.
إدارتان ومأساة واحدة
يشاطر المغاربة من سكان المدن المجاورة سكان الجيبين الإسبانيين المأساة كذلك.
مواطنون بالآلاف فقدوا وظائفهم، بطالة مستمرة، وأمن وظيفي منعدم، وأسر بقيت من دون معيل. واقع يعيشه السكان خارج المدينتين الخاضعتين لإدارة إسبانيا منذ ربيع عام 2020، كما يصفه أنَس، أحد مواطني مدينة الفنيدق المتاخمة لسبتة التي كانت مئات الأسر المغربية تكسب قوتها اليومي عن طريقها.
يحظى سكان مدن تطوان، والمضيق، ومرتيل، والفنيدق المجاورة لمدينة سبتة، وسكان الناظور المجاورة لمليلية، بامتياز دون غيرهم من سكان باقي مدن المغرب، إذ يُسمح لهم بالعبور إلى المدينتين الخاضعتين للسيادة الإسبانية من دون تأشيرة، ما يُفسّر حركتهم اليومية بين الجانبين.
فمنذ أواخر سبعينيات القرن الماضي تعد المدينتان الوجهة المفضلة لدى المغاربة للتبضع. وبعد نقل المصانع من المنطقة، خصوصاً التي كانت تنشط في مدينة تطوان إلى مدن أبعد، أصبحت المعابر الحدودية المتنفّس الاقتصادي لسكان المنطقة.
يقول رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان في تطوان، أشرف ميمون، في حديث إلى الميادين نت إن "معبر باب سبتة بقي المنفذ الوحيد لاسترزاق المواطنين، سواء منهم الذين يشتغلون بسبتة في البيوت والحرف، أو الذين يهرّبون بضائع مثل الأغذية والملابس والإلكترونيات، وهو ما نتجت عنه تجارة غير قانونية واسعة اعتمد عليها سكان المنطقة، ليصل تأثيرها إلى مدن وسط المغرب مثل الدار البيضاء".
ويضيف ميمون: "وما دام هذا النشاط قد حقق رواجاً اقتصادياً، ولو غير منظم، فإنه كان يضمن أوضاعاً اجتماعية مريحة لمواطني المنطقة"، ويرى أنه "لهذا السبب لم تُقدِم السلطة المغربية على منع 'التهريب المعيشي' الذي خفف عن كاهلها التزامات اقتصادية كثيرة تجاه المواطنين، وأنهى جملة من المشكلات الاجتماعية".
واستمر الوضع هكذا 60 عاماً إلى أن بُثَّ الخبر الذي غير نمط الحياة في مدن شمالي المملكة من تطوان إلى الناظور: "الحكومة المغربية تُقرر إغلاق المعابر الحدودية البرية، في الساعة 12 ليلاً، بسبب فيروس كورونا". كان ذلك في آذار/مارس 2020، أي في بدء أزمات اقتصادية ثقيلة تضرّر منها المواطنون في عموم المغرب والعالم، نتيجة الإغلاق الذي فرضته الدول لمواجهة الوباء.
فكيف يكون حينئذ حال السكان في منطقة معظم اقتصادها يعتمد على النشاط خارج حدود دولتهم؟ مع العلم أنه على الرغم من تخفيف القيود في المغرب وعودة الرحلات بين الدول إثر تحسن الوضعية الوبائية، ستظل المنطقة على حالها بسبب أزمة سياسية تلت الأزمة الصحية، استمرّ إثرها إغلاق المعابر البرية إلى أجل غير مسمى.
استمرار المغرب في إغلاق المعابر من دون أي بديل اقتصادي أو اجتماعي للمنطقة، "كانت آثاره وخيمة جداً على المواطنين؛ بعدما فقد عدد كبير منهم وظائفهم، خصوصاً المغاربة الذين يعملون في مدينة سبتة والنساء والشباب الذين يمتهنون 'التهريب المعيشي' وكانوا يعيلون مئات الأسر، خصوصاً في مدن تطوان، والمضيق، والفنيدق، ومرتيل، ووادي لو، وغيرها"، يقول ميمون.
وتالياً، يضيف الناشط الحقوقي: "أصبحنا أمام عدد كبير من الأسر لا تملك مورد رزق، وهو ما تسبّب بأزمة اجتماعية واقتصادية نتج عنها اندلاع حراك احتجاجي في الفنيدق يطالب ببديل اقتصادي".
"التهريب المعيشي" انتهى
امرأة تقضي ساعات طوالاً يومياً تحمل أكياساً ضخمة على ظهرها، لإدخالها إلى الأراضي المغربية، وشاب اختار عدم الضياع بين براثن الجريمة، وامتهن نقل البضائع الإسبانية بين سبتة والفنيدق، وآخر يترك خلفه أسرة كاملة كلّ يوم تنتظر الطعام واللباس ونفقات الدراسة.
كل هؤلاء توقف نبض أملهم الذي كان ينتظر بفارغ الصبر فتح المعابر من أجل محاولة استئناف نشاطهم، بعبارة: "التهريب المعيشي انتهى، وأصبح غير مقبول وينتمي إلى عهد قد ولّى بصفة نهائية"، بحسب بيان للجمارك المغربية، صدر بعد عودة العلاقات المغربية الإسبانية في نيسان/ أبريل 2022.
يقول أنس: "نحن نعاني في هذه المدن، ونعيش وضعاً مزرياً، فور قطع اتصالنا بمدينتي سبتة ومليلية"، ويؤكد في حديث إلى الميادين نت أن القوت اليومي لمعظم الأسر يمر عبر بوابات المعبر، مشيراً إلى أن الأزمة تعدّت "قطع الأرزاق" إلى ارتفاع أسعار المنتجات نتيجة استيرادها عبر ميناء طنجة حيث يجري دفع الضرائب في مقابل دخولها المغرب.
"نرفض التهريب لأنه ليس حلاً للأزمة"، يقول رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بتطوان أشرف ميمون، ويضيف: "نحن مع حماية الاقتصاد الوطني وتقويته"، ويسترسل قائلاً: "لكن لن نسمح بعدم التعويض على السكان وممتهني نشاطات التهريب تعويضاً يحفظ كرامتهم وحقوقهم في الشغل".
ويلفت إلى أن أنجع ضمانة لعدم تكرار نشاطات التهريب في معبر باب سبتة هو إيجاد فرص شغل حقيقية تحفظ كرامة المواطنين، وتؤهّلهم مهنياً واقتصادياً واجتماعياً "للوصول إلى إجماع حقيقي على نهاية التهريب وبداية الاستثمار المهم في المنطقة"، مطالباً الدولة بتوفير البديل الاقتصادي بعدما اختارت القطيعة مع "التهريب المعيشي".
وكانت السلطات المغربية قد قررت، في كانون الأول/ديسمبر عام 2019، إغلاق معبر باب سبتة إغلاقاً نهائياً أمام تجار السلع المهربة على وجه الخصوص، إلا أن المنع الفعلي بدأ عقب الإغلاق التام للمعابر إثر الأزمتين الصحية والسياسية.
بهذا الصدد، افتُتحت منطقة للنشاطات الاقتصادية والتجارية، في شباط/فبراير الماضي، بضواحي مدينة الفنيدق الحدودية مع سبتة، وهو المشروع الذي تتوقع منه الدولة أن يكون بديلاً اقتصادياً لتجارة التهريب المعيشي التي كانت تكبّد خزينتها خسارة بمئات ملايين الدولارات.