روّاد السّحر في المغرب يستخدمون الطعام والعطور في تعويذاتهم

على عكس ما يشاع من أن السحر في المغرب ظهر حديثاً فإن جذوره ضاربة في القدم. وتتداخل فيه أبعاد اقتصادية، فهو يدرّ عائدات غير مباشرة من خلال استقطاب السياح وتنشيط قطاعات أخرى مثل الصناعات التقليدية والنشاطات الحرفية.

  • روّاد السّحر في المغرب يستخدمون الطعام والعطور في تعويذاتهم
    روّاد السّحر في المغرب يستخدمون الطعام والعطور في تعويذاتهم

"مخ ضبع، وجلد عظاءة، وأظفار ميت…"، تلك مجموعة من المستلزمات والمكونات الغريبة للخلطات العجيبة التي يمكن أن يطلبها من يمتهن السحر من مرتاديه.

 لعلّه ليس بالأمر الهيّن تفكيك ظاهرة انتشار السحر في المغرب وشهرته هناك، حتى بات حافزاً أساسياً لزيارتها من بلدان كثيرة، ويتشابك في القصة عديد السرديات والعلوم الإنسانية الاستقرائية منها الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية.

ولكن أيضاً تتداخل فيه أبعاد اقتصادية، فهو يدرّ عائدات غير مباشرة من خلال استقطاب السياح وتنشيط قطاعات أخرى مثل الصناعات التقليدية والنشاطات الحرفية، ومع ذلك فإن النشاط ممنوع قانوناً، إذ ينص الفصل 726 من قانون الالتزامات والعقود على بطلان كل اتفاق يكون موضوعه تعليم أو أداء أعمال السحر والشعوذة، أو القيام بأعمال مخالفة للقانون أو الأخلاق الحميدة، أو النظام العام، فيما يحجر الفصل 609 من القانون الجنائي المغربي في فقرته 35 احتراف التكهّن والتنبؤ بالغيب أو تفسير الأحلام، وتكون العقوبة فرض غرامة تتراوح بين 10 و120 درهماً.

ولا يمكن قياس عائدات ممارسة السحر أو الشعوذة على الاقتصاد المغربي، إذ لا يخضع هذا القطاع لضريبة حكومية بما أنه ممنوع ومخالف للقوانين، لكنّ اللافت أن هذه الممارسة فرضت نفسها بقوّة ضمن البنية الاقتصاديّة، وتخصّص كثير من التجار ببيع المواد الخاصّة بعالم الشعوذة، وأبرزهم "العطّارون"، وهم المتخصّصون ببيع الأعشاب، والبخور، وأعضاء الحيوانات الغريبة والنادرة، وبيع جلود الحيوانات.

فوق تراب عمالة درب السلطان الفداء بمدينة الدار البيضاء، يقع أشهر أسواق بيع مستلزمات الشعوذة ويسمى سوق زنقة العراكات وهو واحد من أزقة سوق "جميعة"، وتتميز هذه الزنقة بعرض جميع مستحضرات السحر والشعوذة ومستلزماتهما

وفيها دكاكين متقابلة ومتلاصقة تتشابه واجهاتها، تشرف على غالبيتها النساء وتبيع الأعشاب والمعادن والشموع بألوان مختلفة، و بقايا حيوانات منها جلد الثعبان وفرو الثعلب ورأسه وهو أكثرها طلباً كما تُعرض طيور وقنافذ ورؤوس ضباع.

أما ممتهنو السحر فيسمّى كبارهم في المغرب "فقها" وهم المختصون بـ"السحر الأسود" ويعرف آخرون بـ"الحكماء"، وغالبيتهم من الطائفة اليهودية، فضلاً عن المعالجين الروحانيين.

ويعيش أغلب أولئك "الفقها"، وهم الشيوخ الكبار في السحر المغربي والمتخصصون بالسحر الأسود، في قرى صغيرة في المغرب مثل دكالة وسوس.

يؤمن السحرة اليهود المغاربة بلفظ "الكابالا"، وهو بحسب اعتقادهم كلمة سرية أوحى الله بها إلى النبي موسى الذي أخبر بها أخاه هارون ثم تحوّلت إلى مذهب خاص وهو السحر الأسود.

ويتطلب تعلم السحر الأسود التدرّج عبر طبقات عشر تبدأ من طبقة "إنصوف أور" التي تعني التاج بالعبرية، إلى طبقة الملكوت التي يشاع لديهم أنها ترتقي بالساحر من سابع أرض إلى سابع سماء.

ومن أشهر السحرة في المغرب اليوم الساحران اليهوديان" أهايون لازار إيكي" و"حاييم أزلغوط"، هذا الأخير حاخام في السبعين من عمره من منطقة الصويرة يعتلي صدارة السحرة اليهود في المغرب والعالم، إذ تأتيه أفواج من المغاربة المسلمين واليهود والأجانب من دول عديدة.

ومن بين أساليب السحر الأسود سحر "التراجيم" يصرف من خلاله الفقها قدراته الخاصة على إنزال عقاب بشخص ما أو أسرة عبر تسخير الساحر لجني كخادم عنده لمعاقبة أحدهم، ومنه أيضاً أسحار المحبة لجلب الحبيب أو إخضاعه، فيجري استعمال مكوّنات غريبة فيها تبعث على الاشمئزاز في النفوس، على غرار إعداد وجبة كسكس برأس كلب، أو مكونات أخرى لعلاج العقم وطرد الجن المتلبّس والساكن في أجساد الزبائن.

ومن أنواع السحر أيضاً ما يُعرف بالسحر الأبيض، ويقوم على استخدام بعض الأعشاب وبقايا الحيوانات لمعالجة النحس مثلاً.

وعلى عكس ما يشاع من أن السحر في المغرب ظهر حديثاً فإن جذوره ضاربة في القدم، إذ يذكر ابن خلدون  في مقدمته عن "حاميم المتنبي" في بلاد غمارة المغربية، الذي "كان يُلقّب بالمفتري، وكانت أخته دبّو ساحرة كاهنة، وكانوا يستغيثون بها في الحروب والقحوط".

والسحرة في المغرب شخصيات فاعلة اجتماعياً وثقافياً وكذلك سياسياً، فقد تطلعت شخصيات عرف عنها السحر مثل الجزيري وابن الفرس وأبي الطواجين الكتامي في عصر الموحدين إلى الزعامة المحلية.

وقصص السحر والجن تعد نافية لخطاب العلم، إذ تتداخل مع الأسطورة، ومن بين الروايات قصة عائشة قنديشة، وهي بحسب الأسطورة ابنة ملك الجن، وهي امرأة حسناء، تستدرج الرجال إليها  ثم تقتلهم وتتغذى على لحومهم ودمائهم.

وقد كتب عنها بول باسكون في كتابه "أساطير ومعتقدات من المغرب". يروي كيف وجد أستاذ أوروبي لمادة الفلسفة في إحدى جامعات المغرب، كان يَعدّ بحثاً عنها، نفسه مضطراً إلى إحراق كل ما كتبه بشأنها وتوقيف بحثه ومغادرة المغرب، بعدما تعرض لأحداث عدة غامضة ومتلاحقة.

وهناك أيضاً قصص التبرك بالأضرحة التي ينسب إليها أنها مراقد للجن على غرار ضريح "شمهروش" (مرقد ملك الجن) وهو مكان شهير تقصده أعداد كثيرة من الناس داخل المغرب وخارجها.

وبات "سيدي شمهروش" مزاراً لكل الفئات المجتمعية، ومنهم من يمكث هناك مدة من الزمن تتراوح بين الأيام والأشهر علّه يظفر بالشفاء من الأسقام والإلباس.

ويعدّ السحر مصدراً سريعاً للثراء، إذ يجعل المشعوذ، وأياً كانت التسمية التي تطلق عليه، الزبائن يعودون إليه مرات عديدة وينفقون مبالغ طائلة من المال على أمل فرج قريب، خصوصاً مع الوعود المتكررة والتعلل في أحيان كثيرة بغلاء أسعار البخور والمواد المستعملة في تلك الخلطات العجيبة.

 وتكمن المشكلة في أن نتائج هذه الممارسات كثيراً ما تحمل أضراراً صحية، وقد يؤدي اتباعها إلى تعميق المشكلات الاجتماعية، ولا سيما حالات الطلاق، وربما القتل أيضاً.

في بحثنا عن تفسير منطقي يجعل الناس تتوافد وتلجأ إلى حلول مشابهة وتتعلق بآمال زائفة، قد تؤدي إلى هلاكها يقول المتخصص بعلم الاجتماع معاذ بن نصير 

إن مسألة السحر متجذرة في المجتمعات العربية منذ قرون، حيث يمجد الموروث الثقافي الشعبي هذه الممارسة ويقدس كل ما هو متعلق بالجانب الروحي والميتافيزيقي بالأساس.

ويؤكد ابن نصير أن العوامل المباشرة لتنامي ظاهرة ارتياد السحرة مختلفة، لعل أبرزها العوامل الشخصية التي تتعلق بالفرد نفسه الذي يلجأ إلى هذه الأساليب لحل مشكلاته.

ويضيف:" يجب أن لا ننسى العوامل الاجتماعية، كدور الأسرة وتنشئة الفرد على مثل هذه الممارسات والخرافات، وزرع  قيم التلاعب والربح السريع والطرق المختصرة لنيل المبتغى في نفسه، وعلينا الإقرار بأن ممارسة السحر والشعوذة تتخطى الفئات المجتمعية الهشة أو ذات المستوى التعليمي المحدود، والملاحظ حالياً تنامي هذه الظاهرة لدى المتعلمين وأصحاب المهن الراقية نوعاً ما".

ويختم بالقول:"لعلّ ضعف التركيبة الذهنية للفرد في المجتمع، وأزمة القراءة من بين الأسباب الأخرى لارتفاع الظاهرة، لقد أضحى الشباب مهتمين بالإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، وأصبحوا لا يقرأون الكتب التي هي خزان حقيقي وأصيل للمعلومات".

يبدو أن اليأس من الحلول العلمية أو عدم الإيمان بها هو ما يدفع الناس نحو ممارسات كهذه، لذلك يظل السحر والشعوذة من أضداد العلم، وهما أيضاً في صراع مع الدين، فعلى الرغم من التدين الشديد الذي تشتهر به المغرب في شمالي أفريقيا فإن للسحر مكانة ذائعة الصيت. 

وتروّج روايات أن فئات عمرية واجتماعية مختلفة ترتاد تلك الأماكن ومنهم أصحاب المناصب العليا بهدف الحفاظ على أماكنهم والامتيازات.

وعلى الرغم من منعهم قانوناً، يضع السحرة والمشعوذون إعلاناتهم في الجرائد الورقية والإلكترونية. ويشتهرون بـ"قدرتهم الخارقة" على فك السحر وجلب الحظ وحل ما استعصى من مشكلات مختلفة.

 وهنا، كثيرة هي قصص التحيّل، فيقول أنور (35 سنة) إنه إلى جانب التحيّل بالسحر وبيع أنواع بخور عادية لا تأثير لها في شيء، فإن المتحيّلين من فئة البائعين يستغلون مثل هذه المناسبات أيضاً للغش وبيع الأوهام للسياح، ويحكي طرفة عن شخص قام بتلويث "زربية" (تفرش على الأرض) وإيهام سائح بأنها تعود إلى عصر الموحّدين ليبيعها له بثمن باهظ.