رسالة إلى شهيد الميادين هادي سيد حسن: هل الجنوب نجمٌ من بعيد؟
هل تذكر كم سألتني عن برج رحّال؟ عن سبب تسميتها، وعن حدودها: أين تنتهي برج رحال وتبدأ دير قانون، وفي أي منهما بالضبط يقع مطعم الفلافل الصغير الذي افتتحه ابن بلدتك عيترون؟ لقد أُصبتَ في برج رحال يا هادي.
قرأت في منشوراتٍ لإخوتك عبر وسائل التواصل، رجاء عوائل الشهداء المتكرّر بألا تكون أقمارهم أرقاماً. وكيف تكون - أنت بالذات – رقماً، يا "هادي السيد حسن"؟
أذكر أنّ اسمك هذا، صار بعد استشهاد هادي، نجل قائد المقاومة وحبيب قلوب المقاومين، اسماً جهادياً لكثيرين، بينهم شهيدٌ حيّ تحفظ الناس في الجنوب قصته وترويها لبعضها، بعد أن هزم الاحتلال وطائراته وخرج من المنطقة المحتلة إلى المنطقة المحررة سيراً على قدميه.
أما أنت، المولود بعد أعوام من شهادة هادي نصر الله، طائر أيلول المهاجر، فقد وفر عليك والداك عناء اختيار اسم مميّز حين تكبر.. لعلك لهذا السبب قررت أن تهاجر مثله في أيلول؟
وها أنت ترحل على مسافة أيام قليلة من شهادة الأمين، شهيداً يحمل اسم شهيدَين، فأي عز ومجد نلته، وكيف تكون بعد هذا كله رقماً يا هادي؟
جمعتنا "الميادين" التي عملنا معاً في موقعها الإلكتروني، وفيها ودّعتني في اليوم الأخير قبل توقفي عن العمل لأسباب خاصّة وقاهرة، قبل أيامٍ ثلاثةٍ من ارتقائك، ولكن هذا الابتعاد المسبق لم يخفف من وقع غيابك ولا من حرقة خسارتك.
وجمعتنا الطريق، من بيروت إلى خلدة حيث تقيم، مرّات، وإلى صريفا حيث تقيم عائلتك النازحة عن عيترون مرّات ومرّات، وكنت أستغرب شهيتك المفتوحة للأسئلة بعد تسع ساعات من العمل الجاد والمضني، وأجيبك ضاحكاً أنني لست كبيراً إلى هذا الحد، وأن الفارق في العمر بيننا سنوات قليلة، وأن الشيب في شعر رأسي لا ينبغي أن يوهمك بالعكس، ثم أعود فأجيبك عن القليل الذي أعرفه وأعتذر عن الكثير الذي أجهله.
وعلى الطريق، أخبرتني عن طموحاتك في الدراسة التي استطعت التوفيق بينها وبين العمل، ولم تهملها يوماً، قلت لي إنّ ثمة من نصحك بالتخصّص في الصحافة البيئية، وإنك لا تجد نفسك إلا في السياسة التي تكفل لك أكثر التعبير عن مواقفك وهويتك وانتمائك لقضاياك.
نصحتك يومها أن تتبع إحساسك ورغبتك، لا نصائح الآخرين، في اختيار الاختصاص الذي سيرافقك بقية عمرك، ولم أعرف أن عمرك القصير لم يكن يتسع لعام دراسي جديد.
والحقيقة أنك كنت قادراً على التعبير عن مواقفك بمعزل عن اختصاصك، ولم تعدم في ذلك الوسائل، ومنها حسابك على "فايسبوك" الذي كتبت فيه بعد وقت قصير من بدء ملحمة "طوفان الأقصى" أنك تتمنى أن يحسن الله خاتمتك بالشهادة، لتكون ذا شأن رفيع في الجنة، مؤكداً أنك ستنال ما تتمنى ولو بعد حين، فكيف وجدت منزلتك في الجنة يا هادي؟
كنتُ، حين نصل إلى خلدة، أخشى أن أتركك وحدك في الطريق في مثل ذلك الوقت المتأخر، حين لا يكون شقيقك قد سبقنا بسيارته إلى المكان الذي نسمع عن حوادث سلب وسرقة واعتداء فيه بين حينٍ وآخر، فتطمئنني بأنك ستنتظره في المطعم القريب، وكنت أعرف منك أنك تخاف كأيّ عاقلٍ ميتةً مجانيةً كهذه.
وإن كنت تخاف ميتةً مجانية، فإن أهلك كانوا يخافون عليك من الموت كله، بلا تصنيفات، حيث كنتَ تخبرني فجأة أنك عدلت عن قرارك بالتوجه إليهم في صريفا، بناءً على طلبهم وإلحاحهم، كلما استجدّ تطوّرٌ أو حدثٌ استثنائيّ في مسار الحرب.
حين استوعبتُ صدمة رحيلك، حمدتُ الله أنني لم أحملك إلى صريفا في رحلتك الأخيرة، فقد ودّعتني في بيروت الأربعاء، ثمّ حدّثتني الخميس لتطمئن عن حالي بينما تعالج خبراً عن غارة قريبة من منزلي، وكان السبت أول أيام العدوان الموسّع وآخر عهدي بك.
كما دخان الغارات حولنا، انهمرت رسائل الاطمئنان من الأصدقاء، موجزة وسريعة، وحدك اخترت أن تمنحني وقتاً أطول، قلت لي إنك غادرت صريفا باتجاه بيروت، وإنك وصلت إلى معروب وسط دخان الغارات، وسألتني عن الحال في بلدتنا دير قانون النهر، فقلت لك إن الطريق الرئيس مقطوع بفعل القصف، وإن هناك من يتولى تنظيم السير وتحويله، وليس عليكم إلا اتباع الإرشادات واللحاق بخط السير كي تصلوا إلى برج رحال، البلدة التي تلي بلدتنا مباشرةً، والأخيرة قبل الوصول إلى أوتوستراد الجنوب – بيروت.
سألتني عما أنوي فعله فقلت لك إنني أرسلت عائلتي إلى مكان آمن ولم أحدّد ما سأفعله بعد، فناشدتني ألا أتأخر في المغادرة إن اشتدّ القصف أكثر، مرسلاً عبارتك الأخيرة "الحامي الله".
مع حلول الظلام، كانت زحمة السير قد تبخرت في الطريق تحت منزلي، ولم يتبقَّ فيه إلا شبان الدفاع المدني في الهيئة الصحية الإسلامية وكشافة الرسالة الإسلامية، نزلت إليهم سائلاً عما يمكنني تقديمه من مساعدة، فقالوا "لا شيء، سوى أن تغادر وتصطحب معك هذين الزوجين الكهلين إلى صيدا إن استطعت"، وهكذا كان.
في برج رحّال، كانت زحمة السير لا تزال على حالها، حتى استغرق عبورنا البلدة ثلاث ساعات بدلاً من ثلاث دقائق، وحين دوى انفجار قربنا قال لي الرجل الجالس بجانبي إنه يشمّ دخان الغارة، فقلت له إنها ليست قريبة إلى هذا الحد، ولم يمرّ عليها سوى ثوانٍ، قبل أن أنتبه إلى بيت مدمّر بمحاذاة الطريق، على مسافة مترين فقط من سيارتنا المتوقفة في الزحام.
كان الدخان ينبعث من الحشائش المحترقة بجوار المنزل الذي يبدو أنه استُهدف قبل ساعات، في واحدة من تلك الغارات المتتالية التي سمعنا أصواتها ولم نعد نميّز موقعها، وكان هيكل المنزل المدمر في الظلام مع رائحة الدخان وخطوطه الرمادية في الخلفية السوداء وأصوات الغارات البعيدة، تضفي على المشهد رهبة لا حدود لها.
فكرت بصوتٍ عالٍ: ماذا يمكن أن يكون قد أصاب الناس في السيارات المصطفة وسط هذا الطريق المكتظ لحظة حصول الغارة؟ المنزل قريبٌ من الطريق إلى حدٍّ يستحيل معه عدم ارتقاء شهداء من العابرين، وأكملت معبراً عن أسفي لأننا مع المئات من الشهداء في هذا اليوم لن نتمكن من معرفة حكاية كل منهم ولا اسمه ولا موضع استشهاده كما جرت العادة في الحالات السابقة حين كان لدى الإعلام الوقت الكافي بين شهيدَين كي يقوم بواجبه في إبقائهم بشراً لا أرقاماً.
لاحقاً، عرفت أنك تعرضت لإصابة في الطريق إلى بيروت، وإن كنتَ قد غادرتَ صريفا ومعروب سالماً، وتأخرت عن الغارة طالت آثارها الطريق في دير قانون، فلم يبقَ إذاً إلا ذلك المنزل المدمر الذي سألت نفسي عن ضحاياه في برج رحال!
وفي الصباح وصلتني رسالة صديقنا أسامة: "هادي استشهد يا مهدي".
هل تذكر كم سألتني عن برج رحّال؟ عن سبب تسميتها، وعن حدودها: أين تنتهي برج رحال وتبدأ دير قانون، وفي أي منهما بالضبط يقع مطعم الفلافل الصغير الذي افتتحه ابن بلدتك عيترون؟
هل تذكر إلحاحك في طلب التواصل مع القيمين على الصفحات التي تحمل اسم بلدتنا على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر إعلان للمطعم الذي اضطرّ صاحبه إلى النزوح مع مورد رزقه الوحيد، وأنني سألتك حين لمست اهتمامك البالغ بالأمر عن صلة قرابتك بالرجل فاكتشفت أنها ليست كما تصوّرتها.
وهل تذكر حين تحدّثنا عن تفاوت الأعمار ومازحنا صغار السنّ بيننا بالقول إنهم لم يشهدوا عدوان تموز 1993، ولا نيسان 1996، ولا تحرير الجنوب عام 2000، وإنهم كانوا لا يزالون أطفالاً في عدوان تموز 2006.
نحن في هذه البلاد نحسب أعمارنا على عدّاد الحروب لا السنوات، وبها نؤرّخ لحياتنا، وهذه كانت حربك الأولى يا هادي، فلمَ قررت الانسحاب من المشهد في يومها الأول؟
مازحتك مرّة بالقول إنّ كثرة من يحملون اسم هادي بيننا في المكتب يصيبنا بالإرباك حين يجمعهم "شيفت" واحد، بحيث نضطر إلى استخدام اسم العائلة كلما أردنا مناداة أحدهم، فقلت إنك الأحدث عهداً بالوظيفة بينهم، ومن عليه أن يغادر كي تُحلّ هذه المشكلة، وخطر في بالي يومها أنّ المقصود هو مغادرة الوظيفة لا الحياة!
كان الزملاء يحاصرونك بالمزاح عن اهتمامك الزائد بنشر رسائل شقيقك المراسل المقتطعة من البث المباشر، عبر صفحات القناة على وسائل التواصل، فتكتم افتخارك به، ولكنه يظهر في عينيك كلما أطل على الشاشة من قلب الجنوب.
لعلنا قصّرنا في حياتك بالثناء على همّتك العالية وإخلاصك في العمل يا هادي، وإن كان لحديثنا اليوم أن يحمل شيئاً من التعويض عن هذا التقصير، فسنحكي عن تنقلك بخفة بين المحررين، تضع يدك على كتف أحدهم وتهمس في أذنه سائلاً عن أمر يتعلق بالسياسة التحريرية، وبين المدققين اللغويين لسؤالهم عن كيفية كتابة كلمة ما، متجنباً ما قد يثيره السؤال من بعيد من جلبة في جو يفترض أن يبقى هادئاً.
وبعيداً مما قد يفرضه العمل في مكانٍ واحدٍ من منافسة، أو من توتر وانفعال ينعكس على العلاقة مع الزملاء، يشهد الجميع أنك لم تدخل يوماً في نقاش أو خلاف مع أحد، وأشهد بنفسي وأنا الذي جمعتني بك أوقات أطول أخرجتَ فيها الكثير مما في صدرك، أنك لم تتناول أحدهم يوماً بانتقاد أو إشارة سلبية، ولم يكن لأحدٍ منهم عندك إلا المحبة، وإن استأثر بعضهم بحصّةٍ أكبر من حصّة سواه من هذه المحبة، مثل صديقنا حسن عبدالله، أو "أبو علي" كما تحبّ أن تناديه، والذي قلت إنك مدين له بوضعه كل ما لديه من خبرة ومعرفة بين يديك لحظة التحاقك، وإرشادك بأناة ومحبة إلى طبيعة مهامك ومسؤولياتك كعنصرٍ جديدٍ في الفريق.
قلت لي مرة في أيامي الأولى وسط الفريق إن بعض الزملاء والزميلات من رفاقك في قسم "السوشال ميديا" لم يحفظوا اسمي بعد، وإنهم يسألونك عنه حين يحتاجون إلى مخاطبتي لغرض يخص العمل، بوصفك الأقرب إليّ بينهم، قلت العبارة الأخيرة وابتسمت. وأقول لك اليوم إن الأحوال تبدلت وإنهم يسألونني عنك، ولكنني لا أستطيع الابتسام مثلك حين أجيب.