"تطير الحمامات خلف سياج الحرير".. الحمام الدمشقي زائر يلازم الجامع الأموي
ينسب الدمشقيون وجود طيور الجامع الأموي من حيث العُرف إلى زمن النبي يحيى، منذ مئات السنين، ويسمونها "حمامات النبي يحيى".
تحتفظ مدينة دمشق بخصوصية وأسرار جمالية ممتلئة بالتفاصيل التي تغني زائرها بالألفة. فعند التوجه إلى ساحة المسكية حيث تستقرّ طيور الحمام، التي ألفت مكاناً مزدحماً بالناس والمارّة، تسمع فيه أدعية تجار المحال وهم يفتحون محالهم صباحاً، ويرددون أمام الزبائن الكلمات والعبارات الطيبة التي تجعلك تألف المكان وتحبه، وتشعر بأنك من أهله، ولو كنت تسير في هذا الطريق لأوّل مرّة.
ظاهرة استقرار الحمام في الساحة حالة إنسانيّة ودينيّة فريدة، وينسب الدمشقيون وجود طيور الجامع الأموي من حيث العُرف إلى زمن النبي يحيى، منذ مئات السنين، ويسمونها "حمامات النبي يحيى"، ولها مكانة كبيرة عند السوريين؛ فهم يقصدون زيارة الجامع الأموي للعبادة، وأخذ دروس دينية، وكذلك لإطعام الحمَام وإيفاء نذورهم لها، بعد أن أصبح إطعامها جزءاً من تقاليد دمشق وتراثها العريق.
لطيور الحمام قداسة متوارثة، ورمز من رموز البركة والطهر، فهي توحّد الله وتسبّح بحمده في كنف بيت الله بهديل يطرب الروح قبل الأذن، إضافة إلى مكانتها عندما حمت النبي محمد والصحابي أبو بكر الصديق عندما بنت عشّها في باب المغارة التي دخلاها في هجرتهما من أذى قريش.
ناهيك بمكانتها في قلوب العشاق والمحبين، فهي دليل على الوفاء والعشرة الجميلة في الأدب والشعر العربي منذ القديم.
المسكية ساحة الحب والسلام
تتراقص الطيور في سماء دمشق لتنثر قصصاً وحكايات من المحبة والتآلف، وتحطّ في صحن الجامع الكبير وفي الأحياء المجاورة، وتقبل نحو المارّة وتأكل منهم، ثم في لحظة واحدة تطير أسراباً فتحلق طارقةً باب السماء الواسعة، فترنو أنظار الزائرين إلى الفضاء في حالة من الجمال والجلال لعطاء الخالق.
ساحة المسكية تقع في نهاية سوق الحميدية أمام باب الجامع الأموي الغربي، ومع مرور الزمن، أصبحت الطيور من المعالم الأساسية لصورة مدينة دمشق والجامع الأمويّ، واتخذت موطناً في حيّز يقع بين السماء والأرض، حتى إنها حظيت بقصيدة من شاعر الشام الراحل نزار قباني، يقول فيها:
"أعود/إلى الرحم الذي تشكلت فيه/ وإلى الكتاب الأول الذي قرأت فيه/ وإلى المرأة الأولى التي علمتني/ جغرافية الحب/وجغرافية النساء/ أعود/ بعدما تناثرت أجزائي على كل القارات/ وتناثر سعالي في كل الفنادق/ فبعد شراشف أمي المعطرة بصابون الغار/ لم أجد سريراً أنام عليه/ فلا قصر باكنغهام في لندن/ عوّضني عن قصر العظم/ ولا حمائم سان ماركو في فينيسيا/ أكثر بركةً من حمائم الجامع الأموي/ ولا قبر نابوليون في الأنفاليد/ أكثر جلالاً من قبر صلاح الدين الأيوبي".
"إذا بدك تعمل خير اسقي زريعة وطعمي طير"، بهذا القول بدأ بسام البزم (65 عاماً)، تاجر في سوق الحريقة، الحديث مع الميادين نت، وهو المتكفّل بإطعام الطيور منذ 30 عاماً، معدّاً هذا الواجب باباً لعمل الخير ويقول: "يومياً، آتي لإطعام الطيور في السابعة صباحاً، فعندما تسمع صوتي من أول السوق وأنا أنادي عليها بكلمة "تعا.. تعا" تجتمع حولي بسرعة. أحاول أن آتي باكراً من أجل أن أقوم بواجبها، منذ بداية اليوم؛ لأن إطعامها يسرّ قلبي، وإذا حدث طارئ وتأخرت عليها أو لم أطعمها أحس بإزعاج؛ لأن الساحة تصبح مكتظّة بزوار الجامع الأموي وسوق الحميدية فلا تستطيع الطيور أن تأكل بهدوء وحرية، إنها كالبشر يقلقها الضجيج على الطعام".
ويضيف: "الطير من النوع المكّاوي يألف البيوت والناس، ويتميز بلون رقبته المتغير بين الأخضر والزهري، وهو يتشابه مع بعضه تماماً، إذ لا يمكن التمييز بين حمامة وأخرى".
مروان العيسى (31 عاماً)، عسكري مصاب، يعمل منذ 5 سنوات في العناية بالطيور وبيع طعامها لزائري الجامع الأموي ليسد رمق عائلته، حدّث الميادين نت قائلاً: "أعتني بالطيور وأطعمها، وأحاول بيع من يقصد إطعامها أيضاً لأسترزق من هذا العمل، وأصرف على عائلتي، وهذا عمل خيري عند رب العالمين، بين الحين والآخر، أضع للحمام دواء وفيتامينات مقوّية في الماء لمكافحة الأمراض والحشرات".
يقصد الزوار إطعام حمام النبي يحيى من القمح والذرة، وذلك حسب استطاعتهم، ويأتون من كل بقاع سوريا، وأكثرهم من محافظة السويداء، ويحتاج كل طير يومياً بين 100 و200 غرام من الطعام كحد أدنى، وتنام طيور الحمام في قبة الجامع والبيوت القديمة حوله، ويبلغ عددها ما يقارب 3 آلاف طائر حالياً، وكل 40 يوماً تولد فراخ جديدة على مدار السنة، ويخف تكاثرها في فصل الشتاء بسبب البرد. بحسب تعبيره.
سابقاً، كان عددها أكثر من 11 ألف طائر فأصبح المكان لا يسعها، إلى أن تم اتخاذ قرار توزيعها على ساحات دمشق كساحة المرجة وجانب جامع الإيمان، ومن المعروف عن صنف هذه الطيور أن الذكر يتقاسم وقت الطعام مع أنثاه، وبعد أن يشبع يصعد ويأخد مكان الأم في العش لتستطيع النزول إلى الساحة وتناول حصتها من الطعام والشراب.
الغلاء يرخي بظلاله على استقرار الحمام
ارتفاع أسعار العلف والطيور تسبب في خلق بيئة مناسبة لنقل السلالة الأساسية من أصناف مختلفة من الطيور السورية الأصلية، إذ تم نقلها إلى البلدان المجاورة كالعراق ولبنان والأردن والكويت وتركيا.
سابقاً، كان الحمام الزاجل موجوداً في الجامع الأموي، وكان له ارتباط قوي بأروقة الجامع التي نشأ وتكاثر فيها، وعندما أخذوا قسماً منه إلى الكويت، عاد بعد عدة أيام إلى سوريا لشدة تعلقه بالمكان الذي ألف الحياة فيه، وحدثت سابقة أخرى عندما تم بيع 25 طيراً منه إلى لبنان فعاد بعد عدة أيام 20 طيراً أيضاً، إلى أن تم نقل الفراخ الصغيرة من الحمام الزاجل إلى العراق، ولم تعد بسبب قص أجنحتها، فبقي مربّو الطيور يقصون أجنحة الطيور الكبيرة والفراخ الجديدة؛ لمنعها من الطيران والعودة إلى سوريا حتى ارتبطت الطيور بالمكان الجديد قسراً، فهي لا تستطيع ترك فراخها الصغار والموطن الجديد.
أمّا سلالة المطاويق المساويد الشامية فتباع بما يقارب مليوناً ونصف مليون إلى مليوني ليرة سورية خارج البلاد، ويتراوح سعرها بين 5 و10 ملايين، حسب حجم الطير وسلامته.
هند درويش، سيدة من مدينة حمص (80 عاماً)، قصدت الجامع الأموي لإطعام طيور النبي يحيى؛ إيفاءً لنذر قطعته، حدثت الميادين نت: "نذرت أن أطعم الحمامات منذ 20 سنة، ولم تشأ الظروف أن آتي إلى دمشق، والآن أتيت فالنذر دين برقبتي، كان ابني في أول شبابه فقلت إن شاء الله، إن زوّجته ورزقت بكنّة ابنة حلال فسآخذ كيلو من الذرة لحمام الجامع الأموي، مرت 20 سنة، حتى قُدّر لي المجيء وإيفاء الدين والحمد لله".
يذكر أن أكثر المحافظات التي تشتهر بتربية الحمام هي: الرقة وحماه وإدلب، وتتميز سوريا بسلالة الحمام الأصلية وهي الشامية المطاويع والريحانيات والبلديات، جميعها يتم إخراجها من سوريا بطرق مختلفة، فغلاء طعامها والظروف المعيشية الصعبة أدت إلى خسارة سلالات الطيور السورية.