تداعيات كارثية لأزمة سدّ النهضة على مصر.. تراجع مهن الصيد والزراعة
تتفاقم أزمة سد النهضة وانعكاساتها على الناس في مصر، والتي قد ينجم عنها خروج أكثر من مليون ومئة ألف شخص من سوق العمل، وفقدان ما يقرب من 15 في المئة من الرقعة الزراعية في مصر، ومضاعفة فاتورة واردات مصر الغذائية.
لم يكن يعلم محمود طاهر حسن، أو كما يحب أن يناديه رفقاء الصيد في مصر بـ"محمود سمكة"، أن مهنته التي لطالما أحبها وتوارثها عن عائلته، تحفّها المخاطر مثل طبيعتها تماماً، بعد تشييد إثيوبيا سد النهضة، وتسبّب في تراجع كميات الأسماك بفعل انخفاض منسوب مياه نهر النيل، ما أثّر بالسلب على دخله المادي وحياته المعيشية.
فالنيل، وهو نهر تاريخي يُعد أطولَ نهرٍ في قارة أفريقيا وأَطولَ نهرٍ في العالم، وينساب عبر القطر المصري على مسافة نحو 1500 كيلو متر بإجمالي 23% من إجمالي طول النهر، الذي يمرّ على 10 دول أفريقية، ويمثّل قيمة حضارية وتاريخية للمصريين، ويتغلغل في تراثهم الإنساني والاجتماعي، أصبحت أزمته بعد فشل الجولة الثانية من المفاوضات الثلاثية بين إثيوبيا والسودان ومصر في الفترة من 23 إلى 24 أيلول/سبتمبر الجاري، تؤرق المصريين عامة، وأصحاب المهن المرتبطة به، مثل الصيّادين والمزارعين والعاملين بالسياحة النيلية بشكل خاص.
بعود ممشوق وبشرة صبغتها أشعة الشمس، يسرد محمود طاهر حسن، الشاب الأربعيني، وخريج المعهد العالي للدراسات النوعية، والأب لثلاثة أطفال جميعهم في مراحل تعليمية مختلفة، ويسكن جزيرة الدهب على ضفاف النيل، لـلميادين نت، كيف أنّ مهنته أصبحت تعاني صعوبات عديدة، وعلى شفا الانهيار خلال السنوات المقبلة إن استمر منسوب مياه النيل في الانخفاض بفعل السد الإثيوبي، ويقول: "توارثت حرفة الصيد عن أبي الذي بدوره توارثها عن جدي، ومنذ كنت طفلاً أعمل بتلك المهنة، وكان الرزق كثيراً، نلقي بالشباك فتخرج الأسماك بمختلف أنواعها، البلطي والقرموط والبياض والشبوط، وجميعها أنواع من الأسماك النيلية، لكن الآن تخرج شبه فارغة بسبب نقصان مياه النيل بعد غياب الفيضان وزيادة ملوحة مياه النيل".
وأسماك النيل هذه تسدّ احتياجات الطبقات الفقيرة من المصريين، حتى برغم ارتفاع أسعارها بوتيرة متسارعة في السنوات الأخيرة، كما أنها لا تستطيع تحمّل شراء أسماك البوري الذي يعتبر أرخص الأنواع، وتترواح الأسعار ما بين 80 جنيهاً و110 جنيهات للكيلو الواحد.
كميات الأسماك في تناقص مستمر
وعن تأثيرات سد النهضة على مهنة الصيد في نهر النيل في مصر، يضيف "محمود سمكة" وهو شاب مثقف، خلال محاولته موازنة أقدامه على مركبه الخشبي المتأكّل، أن السد تسبب في انخفاض منسوب المياه، "فلم نعد نرى فيضاناً كل عام"، وكميات الأسماك في تناقص مستمر، وهناك بعض الأنواع، مثل: قشر البياض، والرعاش، والشال، والمبروكة، نادرة الوجود، والصياد المحظوظ هو من يصطاد سمك بياض في شبكته، لأن كيلو البياض هو الأغلى لطعمه المميز ووزنه الكبير، كما لم يعد متوافراً في النيل سوى سمك البلطي النيلي وهو في تناقص أيضاً بسبب ملوحة المياه.
وتنتج بحيرة ناصر، خلف السد العالي في مصر، نحو 25 ألف طن سنوياً، تعادل 1.5 في المئة من إجمالي إنتاج مصر من أجود أنواع الأسماك المصرية، كما تعتبر العامل الرئيسي لإنتاج الكهرباء من السد العالي، والمتضرّر الأول من السدّ الإثيوبي.
ووفق دراسة لمعهد التخطيط القومي في مصر، فإن هناك 12 نوعاً من الأسماك النيلية في مصر مهددة بالاندثار، بفعل نقص المياه وزيادة مستوى الملوحة في النيل، التي تتراوح حالياً بين 200 جزء في المليون في أسوان، و500 جزء في القاهرة والدلتا، بينما كشفت دراسات حكومية أخرى سابقة عن اختفاء 33 نوعاً من الأسماك التي تعيش في النيل، وهناك 30 نوعاً أخرى في طريقها للاختفاء مع زيادة نسب تلوّث المياه، بينها "استاكوزا" في المياه العذبة، بعد اكتمال السد الإثيوبي من دون اتفاق، كما أن مصر تنتج قرابة 1.9 مليون طن سمك، 75% منها من المياه العذبة أي مياه النيل، بقيمة تقدّر بأكثر من 28 مليار جنيه مصري.
"ستبور أراضينا ومش حنلاقي لا قمح ولا ذرة"
وعلى غرار نحو 9.5 آلاف وحدة صيد نيلية يعمل بها نحو 28 ألف عامل، سيتضرر "طاهر"، وفق تعبيره، في ظل تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لقطاع كبير من المصريين، ويردف: "ليس أمامنا سوى الصبر وأملنا في الله ثم في القيادة السياسية في البلاد، ونتمنى أن تصل مفاوضات سد النهضة إلى حلول عاجلة واتفاقات ترضي الأطراف جميعهم، حتى تعود مهنتنا إلى سابق عهدها بعد تراجع الحصاد اليومي من الأسماك التي نتحصل عليها من النيل".
إلى الجانب الغربي من ضفاف نهر النيل، قرب محافظة الجيزة، جنوب القاهرة، يجلس محمد الغفير، أحد المزارعين، القرفصاء وهو يتمتم بأغانٍ مصرية بعضها تراثية وأخرى مقاطع لأم كلثوم، أمام موقد وضع عليه براد الشاي، ساخراً من أوضاع المزارعين، ويقول: "بالرغم من أننا لسنا في قرى الدلتا مثلاً، نعتمد الآن على ريّ أراضينا على المياه الجوفية، أغلب المزارعين في قريتنا قاموا بتركيب ماكينات آلية لاستخراج المياه من تحت الأرض، بعد جفاف الترع وانخفاض مناسيب مياهها".
الغفير، وهو يغلب عليه طابع الكرم والشهامة، وتملأ وجهه التجاعيد التي ترى فيها خريطة النيل والقطر المصري، يقول لـلميادين نت، باللهجة العامية المصرية، وعلى وجهه مسحة من الحزن: "أنا معرفش تفاصيل سد النهضة، قالوا إثيوبيا دي بتبني سد زي السد العالي وبتحجز مياه النيل، وقبل السد دا كان المياه كتير، وكانت الترع مليانة علطول وطوال الأيام، وأيام الفيضان، كانت الحكومة (أي وزارة الري) تفتح بوابات الترع والمصارف لتصريف المياه وتخفيض المنسوب، والنهاردة كل أراضينا وزراعتنا معتمدة على الري بمياه من تحت الأرض، (المياه الجوفية)، ونطلب من ربنا حل الأزمة، لأن لو استمر الحال، ستبور أراضينا ومش حنلاقي لا قمح ولا ذرة، ولا خضروات".
وفي تصريحات رسمية في آذار/مارس الماضي، قال وزير الموارد المائية المصري هاني سويلم، أمام الجلسة العامة لمؤتمر الأمم المتحدة للمياه 2023، إن "الممارسات الأحادية غير التعاونية في تشغيل هذا السد، المبالغ في حجمه، يمكن أن يكون لها تأثير كارثي"، مشيراً إلى أنه "حال استمرار تلك الممارسات على التوازي مع فترة جفاف مطوّل، قد ينجم عن ذلك خروج أكثر من مليون ومئة ألف شخص من سوق العمل، وفقدان ما يقرب من 15 في المئة من الرقعة الزراعية في مصر، ومضاعفة فاتورة واردات مصر الغذائية".
"المياه والسماد بفلوس غالية والفلاح ظروفه صعبة"
محمد الغفير، وهو يزرع الخضروات مثل الطماطم والبقدونس والبصل والفجل والجرجير وغيرهما بحسب موسم الزراعة، يردف بلغة غاضبة: "حتى الزراعة مش بتجيب همها، المياه بفلوس غالية والسماد أسعاره مرتفعة، والفلاح المصري ظروفه صعبة، المفروض إثيوبيا دي تقعد مع مصر وتحل الموضوع بالهدوء، مش عارف إزاي بنوا سد على النيل، محدش يقدر يمنع النيل عن مصر".
الخبير الزراعي محمود كمال، يقول لـلميادين نت، إن السد الإثيوبي سيؤثر في المخزون السمكي في بحيرة ناصر والاستزراع السمكي المعتمد على مياه الري الذي يعادل 30% من إجمالي المزارع السمكية، ونوعيات البلطي المصرية لا تتحمل درجات الملوحة المرتفعة، وهذا يقلل قدرة القاهرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسماك.
المشكلة الأخرى تكمن، بحسب كمال، في تضرّر طبقات المزارعين المصريين وتبوير 4.6 ملايين فدان، أي أكثر من 51.5% من الرقعة الزراعية الحالية في مصر، ما يعني ترك ملايين الفلاحين لمهنة الزراعة، يضاف إلى ذلك عشرات الآلاف من الصيادين، فبذلك أصبحنا أمام قنبلة اجتماعية خطيرة، بسبب تزايد البطالة والهجرات الداخلية، ما يعني انفجاراً اجتماعياً".
سامح أحمد، وهو أب لطفلين، كذلك أعرب عن تخوّفه مثل "محمود سمكة" و"محمد الغفير"، من تراجع منسوب مياه النيل بعد تشييد سد النهضة الإثيوبي، ما يؤدي أحياناً إلى توقّف حركة الملاحة النهرية.
تضرّر حركة السياحة الثقافية في الأقصر وأسوان
وفي كانون الأول/ديسمبر 2017، أدى انخفاض منسوب المياه إلى جنوح 7 فنادق وبواخر عائمة آتية من الأقصر إلى أسوان، بسبب انخفاض مستوى المياه في نهر النيل ما أدى إلى توقف حركة الملاحة النهرية في محافظة أسوان.
وكانت تلك البواخر النيلية السياحية على متنها سائحون من مختلف الجنسيات، توقفت بعد أن تعرضت للجنوح ولم يتمكنوا من استكمال رحلتهم النيلية بأسوان، واستخدموا الباصات لزيارة المناطق الأثرية.
ويعمل سامح أحمد، في أحد الفنادق العائمة في النيل من القاهرة إلى المدينتين السياحيتين الأقصر وأسوان، جنوبي مصر، ويقول إن سد النهضة ومع خفض منسوب المياه يمكن أن يتسبب في شحوط الفنادق العائمة ما يؤثر بالسلب على حركة السياحة الثقافية في الأقصر وأسوان، لكن جهود وزارة الري المصرية في أعمال تكريك وتطهير النيل تسهل الرحلات وتعيد الملاحة إلى وضعها الطبيعي.
وبحسب تقارير رسمية فإن السياحة النيلية في مصر تساهم في ارتفاع الدخل السياحي بشكل كبير، كما استقبلت مصر 7 ملايين سائح خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023، بينهم 1.35 مليون سائح خلال شهر نيسان/أبريل، وهو أعلى مستوى سجلته مصر خلال شهر واحد في تاريخها.
يتابع سامح، وهو شاب ثلاثيني، باهتمام شديد مفاوضات سد النهضة، وما ينتج عن كل جولة، خشية تأثر حرفته، ويحكي عن التأثيرات الناجمة عن السد على عمله، قائلاً: "سد النهضة أثر على الزراعة ومياه الشرب، ولدينا مخاوف على السياحة النيلية، ولجأت مصر إلى تحلية المياه وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي بسبب هذا السد".
ولدى مصر أكثر من 300 فندق عائم على النيل بين الأقصر وأسوان، ونحو 10 مراكب أخرى في بحيرة ناصر، بإجمالي 30 ألف غرفة سياحية، كما تكتسب الرحلات النيلية شعبية متزايدة لدى السائحين، وتتعدد أنواعها ما بين رحلة بسيطة ورحلات تتسم بالرفاهية والترف، ورحلات على متن سفينة بخارية وأخرى بسفن عصرية أو فنادق عائمة.
والجولة الأخيرة من مفاوضات سد النهضة، جاءت بعد شهرين من اتفاق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، في شهر تموز/يوليو الماضي، على استئناف المفاوضات، على هامش قمة دول جوار السودان، والتنسيق مع السودان.
وهناك خلاف بين مصر وإثيوبيا منذ سنوات بشأن بناء سد النهضة، فيما طلبت السودان والقاهرة مراراً من إثيوبيا التوقف عن ملء خزان سد النهضة، بانتظار اتفاق ثلاثي ملزم بشأن طرق تشغيل السد باعتباره الأكبر في أفريقيا، وتعتبر مصر، التي تعتمد على النيل لتأمين 97% من حاجاتها من الماء، أن سد النهضة يمثل "تهديداً وجودياً" لها.