تجمعات سكانية كثيفة ومياه شرب ملوّثة: من يحمي السوريين من الكوليرا؟
ربما أصبح "التأقلم" في الظروف المحيطة سمة بارزة أتقنها السوريون في الحرب، لكن في الوقت نفسه فإنّ الخطر الصحي الجديد الذي يهدد المجتمع السوري جراء انتشار الكوليرا، يحتاج إلى خطوات ملموسة وتحركات سريعة وفعّالة.
لم يكن ينقص السوريين سوى "الكوليرا" لتكتمل أوجاعهم وتزداد معاناتهم، فالشعب الذي يواجه أزمات اقتصادية ومعيشية أفرزتها سنوات الحرب المضنية، وجد نفسه اليوم أمام تحديات صحيّة قاسية، من انتشار فيروس كورونا إلى تفشي مرض الكوليرا.
هذا الواقع يأتي في ظل محدودية قدرة القطاع الطبي على المواجهة، نتيجة العقوبات الكبيرة المفروضة عليه، التي حدت من قدرته على تطوير نفسه وامتلاك الأدوات اللازمة للتصدي لهذه الأمراض، لكن في الوقت نفسه يحاول هذا القطاع بطرق عديدة التكيف مع المتغيرات الاستثنائية، والحصول على الحدود الدنيا من إمكانات المواجهة.
آخر موجة تفشي لمرض الكوليرا داخل سوريا سُجّلت بين عامي 2008 و2009 وتحديداً في محافظتي دير الزور والرقة، وفق منظمة الصحة العالمية، حينذاك كان القطاع الطبي السوري يملك من القدرة ما يكفي لمواجهة هذا المرض، أما اليوم فالواقع الذي أفرزته الحرب مختلف تماماً.
الصحة العالمة تخشى تفشي الكوليرا
منظمة الصحة العالمية أكدت تفشي الكوليرا في 10 محافظات سورية وانتشارها في جميع أنحاء البلاد، مؤكدة في الوقت نفسه أن الوضع في المحافظات المتضررة يتطور بوتيرة مقلقة وينتشر إلى مناطق أخرى جديدة.
وعن الوضع في المنطقة الشرقية من سوريا التي تشهد نسباً مرتفعة من الإصابات بالكوليرا، يؤكد الصحافي هيثم العلي للميادين نت أن الوضع الاجتماعي في تلك المناطق صعب جداً، خصوصاً أن المدن والبلدات شرق الفرات بمعظمها خارج سيطرة الحكومة السورية، وتنعدم فيها المراقبة على المياه، خصوصاً المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية.
ويقول العلي: "المناطق الريفية، يعتمد أهلها على طرق بدائية في التنظيف، وهذا ما يجعل إمكانية انتشار المرض أكبر، خصوصاً مع المعلومات التي تؤكد وجود مصادر مياه ملوّثة عديدة، إضافة إلى أن الخدمات الطبية شبه منعدمة في ظل عدم وجود أيّ مشفى شرق الفرات، إلا مشفى القامشلي الوطني التابع للحكومة السورية، فيما المراكز الطبية الأخرى لا تملك التجهيزات الكافية لعلاج المصابين".
ويؤكد أن المؤسسات الحكومية في مدينة الحسكة تعمل لمراقبة المياه وتعقيمها قبل وصولها إلى الأهالي، لكن المشكلة أن المحطة الوحيدة التي تغذي المدينة بالمياه هي "علّوك" وتسيطر عليها القوات التركية، التي تتعمد دائماً قطع المياه عن المحطة التي توفّر المياه لنحو مليون مدني في المنطقة الشرقية، لذلك يلجأ الأهالي إلى مصادر مياه بديلة ملوّثة.
وتطرق الصحافي السوري في حديثه إلى التجمعات السكانية الكثيفة في المنطقة الشرقية، وتحديداً في المخيمات، حيث تنعدم الإجراءات الاحترازية، ما يجعل الأمن الصحي في المناطق الشرقية قابلاً للانهيار في أيّ لحظة.
الخطر الآتي من الشرق
وفق عدد من البيانات والإحصاءات، فإن مؤشر الإصابة بالكوليرا في حال من التصاعد في مناطق عدة، خصوصاً شمال شرقي سوريا، حيث بلغ عدد الوفيات الناجمة عن الإصابة بالمرض، حتى نهاية أيلول/سبتمبر الماضي 33 حالة.
وعن أسباب انتشار الكوليرا في المناطق الشرقية من سوريا تشير الناشطة الاجتماعية البتول علوي للميادين نت إلى أن شرق الفرات معروف بغناه بالمياه النظيفة والآبار الصالحة للشرب، لكن انقطاع المياه فترات طويلة أجبر الأهالي على استخدام حلول بديلة، وهي في الغالب ملوّثة، كما بدأ السكان بالاستعانة بالآبار المنزلية من دون فحصها، ما زاد مخاطر الإصابة بالأمراض مختلفة.
أما السبب الثاني لانتشار المرض بحسب علوي فهو نقص الأدوية والتجهيزات الطبية وعدم وصول المواد المعقمة، ما يُعرّض المنطقة الشرقية كلها لخطر تفشي الكوليرا، وهذا ما يؤثر في الوضع الاجتماعي عموماً، خصوصاً في ظل عدم قدرة الأهالي على مجابهة المرض، ومعرفة أساليب الوقاية منه، لانعدام القدرة أيضاً على إيجاد مصادر بديلة للمياه النظيفة.
في وقت سابق، أشارت وزارة الصحة السورية إلى أن معظم الحالات المكتشفة بالكوليرا التي أدت إلى الوفاة نتجت عن دخول المرضى المؤسسات الطبية بعد فوات الأوان أو بسبب إصابتهم بأمراض مزمنة.
الصحة السورية أكدت في إفادةٍ لها أن العلاج متوافر بجميع أنواعه، وقد زودت المشافي بمخزون كافٍ من العلاج؛ تحسباً لأي زيادة في عدد الحالات، ودعت المواطنين إلى اتباع إجراءات وسلوكيات الصحة العامة، مثل غسل اليدين وشرب المياه من مصدر آمن، إضافة إلى طلب المشورة الطبية المبكرة في حال الاشتباه في الإصابة.
الموت في غضون ساعات
يُمكن أن تصبح الكوليرا من أسرع الأمراض القاتلة، خصوصاً في حالة خسارة كميات كبيرة من السوائل بسرعة، وهذا ما يؤدي إلى الموت في غضون ساعات، خصوصاً في الحالات الحادَّة.
أمَّا في الحالات الأقل حِدَّةً، فقد يموت المرضى الذين لم يتلقَّوا العلاج بعد ساعات أو أيام من ظهور أول أعراض الكوليرا؛ وذلك بسبب الجفاف وهبوط الدورة الدموية.
الطبيب عصام الأمين مدير مشفى المواساة في العاصمة السورية دمشق يشير في حديثه إلى الميادين نت إلى أن الكوليرا مرض بكتيري تسببه أنواع من الجراثيم تسمى "ضمّات الكوليرا" وتنتقل عن طريق الطعام الملوّث والمياه الملوّثة وملامسة مخلفات المرضى المصابين بالكوليرا.
ويتابع الأمين في شرحه عن الإصابات الناتجة عن الكوليرا فيقول: "معظم الحالات الإصابات فيها خفيفة لا تتعدى الإسهال البسيط، لكن 10% من الحالات يكون الإسهال فيها شديداً إفرازياً مائياً، وقد يؤدي سريعاً إلى فقدان سوائل الجسم وفقدان الشوارد تالياً ثم التجفاف فالقصور الكلوي؛ والقصور يؤدي إلى الموت".
سجل عدد من الإصابات بالكوليرا في محافظات سورية مختلفة، في المقابل أكد الأمين عدم تسجيل أيّ إصابة بالكوليرا في مشفى المواساة بدمشق، داعياً في الوقت نفسه إلى ضرورة مراجعة المشافي عند الاشتباه في الإصابة، إضافة إلى ضرورة الحرص على نظافة الطعام والنظافة الشخصية، والابتعاد عن مصادر المياه الملوّثة.
تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي في سوريا دفع كثيراً من المواطنين إلى الاعتماد على مياه شرب غير آمنة، خصوصاً نهر الفرات في المناطق الشرقية من البلاد، حيث تتحدث مصادر متقاطعة أنه سيصبح "بؤرة" لانتشار الأمراض مع استمرار انخفاض مستوى المياه فيه، نتيجة تقليص تركيا كميات المياه الواردة إلى سوريا عبر نهر الفرات.
ربما أصبح "التأقلم" في الظروف المحيطة سمة بارزة أتقنها السوريون في الحرب، لكن في الوقت نفسه فإنّ الخطر الصحي الجديد الذي يهدد المجتمع السوري، يحتاج إلى خطوات ملموسة وتحركات سريعة وفعّالة للمنظمات الحقوقية والإنسانية، تقضي بضرورة إبعاد القطاعات الحيوية في داخل سوريا عن سلاح العقوبات الغربي، فتلك العقوبات لا تستهدف نظاماً سياسياً، وإنما توجّه إلى الإنسان السوري بأوجاعه ومعاناته.