الكشري عوضاً من اللحمة.. التردّي الاقتصادي يغيّر نمط حياة المصريين

الارتفاع غير المسبوق في سعر العملة المصرية أثّر على التضخم وأسعار المواد الغذائية والسلع التي يستهلكها المصريون، وبالتالي غيّر من نمط حياتهم خلال الثلاث أشهر الماضية. 

  • الكشري عوضاً من اللحمة.. المصريون يرشدون الاستهلاك بعد ارتفاع الأسعار
    اضطر الكثير من المصريين إلى الاستغناء عن سلع أساسية (رويترز)

أزمة اقتصادية تشهدها مصر حالياً، تصاعدت ككرة الثلج بدءاً من عام 2022، بدأت بأزمات عالمية ثم محلية كان آخرها تحرير سعر الصرف للعملات النقدية في مصر، جزئياً، ما سبب ارتفاعاً لم تشهده مصر من قبل في سعر العملة، فقز الدولار من 15 جنيهاً في منتصف أيلول/سبتمبر إلى قرابة 25 دولار حالياً بحسب السعر الرسمي، هذا بخلاف سعر السوق السوداء ولا يزال يواصل ارتفاعه.

كل ذلك أثر تباعاً على التضخم وأسعار المواد الغذائية والسلع التي يستهلكها المصريون، وبالتالي غيّر من نمط حياتهم خلال الثلاث أشهر الماضية. 

قللنا من استهلاكنا

في 2022، قررت الحكومة رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع العام إلى حوالى 3000 جنيه شهرياً (121 دولار بالسعر الرسمي)، لكن النسخة الأخيرة لبحث الدخل والإنفاق التابع للجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء صدرت عام 2020، والتي ورد فيها أنّ متوسط الاستهلاك الكلي للأسرة سنوياً في الحضر هو 71327.5 جنيهاً (4557 دولار بسعر صرف عام 2020)، وفي الريف 54552 جنيهاً سنوياً (3485.7 دولار).

جان هي فتاة عشرينية لا تعمل ومقيمة في الإسكندرية، تعتاش هي وعائلتها المكونة من 4 أفراد من معاش والدها الذي يقدر بـ8000 جنيهاً (324 دولار)، ورغم أنه أعلى من متوسط الحد الأدنى (3219 جنيهاً شهرياً، 205 دولار بسعر صرف عام 2020)، الذي صرحت مسؤولة حكومية حينها أنه يمكن أن يعيل أسرة مكونة من 4 أفراد، إلا أنه لا يكفي جان وأسرتها.

تقول جان: "أثرت علينا الأزمة الاقتصادية بالسلب، ترك أخي العمل في مصر واضطر للسفر للعمل في بلد آخر، فكرت في العمل أنا أيضاً لكن متوسط الأجور قليل جداً ويمكن أن يتم إنفاقه في المواصلات وتناول وجبة خلال الدوام، فقررت تناسي الفكرة واكتفيت بمعاش والدي".

اضطرت جان وأسرتها أن يرشدوا من استهلاكهم خلال الفترة الحالية وقصره على أشياء في أضيق الحدود، فاستغنوا عن السلع الترفيهية واكتفوا بالسلع الأساسية التي لا يوجد بديل عنها، حيث اعتبرت أن تناول الطعام خارج البيت ولو لمرة واحدة من الرفاهيات التي استغنوا عنها.

وتضيف: "أصبحت أشتري قهوة من نوع رخيص بدلاً من باهظة الثمن التي كنت أشتريها، وكذلك التبغ والشاي، وأصبحت أعتمد الترشيد في كل شيء".

قللت جان وعائلتها من النزهات العائلية خارج المنزل خلال الفترة الماضية، إلا في أضيق الحدود بعدما أصبحوا ينفقون حوالى 1500 جنيهاً (60 دولاراً) للفواتير الأساسية (كهرباء، غاز، مياه، إنترنت منزلي، هاتف أرضي، فواتير الهاتف المحمول)، وهم يمتلكون منزلاً فلا يضطرون إلى دفع إيجار شهري. كما قللت كثيراً من شرائها للملابس، بمعدل طقم واحد في الشتاء. 

خصصت الحكومة المصرية 130 مليار جنيه للتعامل مع تداعيات التحديات الاقتصادية العالمية، منهم 2.7 مليار جنيه لضم 450 ألف أسرة جديدة لبرنامج "تكافل وكرامة"، وتخصيص 190.5 مليار جنيه للهيئة القومية للتأمين الاجتماعي لزيادة المعاشات بنسبة 13% بحد أدنى 120 جنيهاً بدءاً من أول نيسان/أبريل الماضي.

بالإضافة إلى زيادة العلاوة الدورية للمخاطبين بالخدمة المدنية لتكون بنسبة 8%، و15% لغير المخاطبين.

كما أصبحت العديد من المنابر الحكومية المهتمة بالتغذية تشير إلى بدائل غذائية أرخص ليلجأ إليها المصريون في طعامهم، فمثلاً نشر المعهد القومي للتغذية عن فوائد تناول أطراف الدجاج لما تحتويه من فيتامينات ومعادن وأملاح، ومنشور آخر عن أهمية تناول الكشري بالأرز والعدس الأصفر فقط كوجبة مشبعة ورخيصة. غير أنّ هذه النصائح سبّبت موجة عاصفة من الانتقادات الشعبية خلال الأيام الماضية.

الطلب قلّ والأسعار زادت

من وقت لآخر تنشر مجموعات في "فيسبوك" والصفحات الساخرة قائمة لمشتريات تظهر عدداً قليلاً من السلع مقابل مبلغ تمت مضاعفته. فمثلاً تظهر منشورات أنّ شخصاً اشترى 5 أرغفة خبز وربع كيلو من الجبن الرومي وربع من الجبن الأبيض، وكلّفه ذلك كله حوالى 100 جنيه مصري، بالرغم من أنهم قبل عام كانوا ليكلفونه حوالى 50 جنيهاً. فيما ينشر البعض الآخر الأسعار اليومية لمنتجات غذائية، خاصة اللبن الذي تغير سعره في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، من 17 جنيهاً للكيلو إلى 23 جنيهاً في تشرين الثاني/نوفمبر، ثم 28 جنيهاً خلال نهاية كانون الثاني/ ديسمبر.

تحدث محمد إلى الميادين نت، وهو أحد الباعة في سلسلة سوبر ماركت شهيرة في القاهرة، كان وقتها أثناء نوبة عمل ليلية يبدل الأسعار القديمة ويضع الأسعار الجديدة، مشتكياً من أنّ معظم الناس حالياً أصبحوا يشاهدون الأسعار ثم يمضون في طريقهم، من دون الشراء، والبعض كان حينما يسأل عن سعر سلعة ما، يفتح فاه من الصدمة وينفعل، مؤكداً أنّ السلعة في اليوم الذي سبق كان سعرها النصف.

كان يتلقى محمد معاملة قاسية من الزبائن كأنه المسؤول عن رفع الأسعار، مؤكداً أنّ لا حيلة له في ذلك، فهو يتلقى أمراً من الشركة الأم بتعديل سعر السلعة فيجيب طلبهم. وبحسب محمد بقيت بعض السلع بدون "تيكيت" سعر عليها لأنها تتغير يومياً، وعلق بمزحة شهيرة أثناء سؤال الميادين نت عن سعر بعض السلع، قائلاً: "قبل السؤال ولا بعده"، وهي مزحة أصبح يتناقلها أغلب الشعب المصري حالياً.

وحول هذا الأمر، يحكي العم محمد، وهو سائق تاكسي أربعيني: "في أحد أيام الأسبوع الماضي ذهبت لشراء زجاجة لبن وجدت السعر 24 جنيهاً، تركتها وقلت سنستغنى عنها هذا اليوم أنا وأطفالي وزوجتي لكن في اليوم التالي وحينما توفر معي حصيلة يومي 200 جنيهاً، وجدت سعر الزجاجة تحرك وأصبح 27 جنيهاً، فاضطررت لشرائها رغماً عني".

لا تزيد حصيلة عم محمد عن 3 آلاف جنيها شهرياً، وفي الشهرين الآخيرين اضطرت العائلة لتغيير نمطها فاستغنوا عن الأرز بعدما وصل إلى 18 جنيها ولا يجده كثيراً في الأسواق، وأصبح يتناول هو وعائلته الخبز البلدي من "التموين" ويصفه بأسوأ أنواع الأكل، أما اللحوم فلا تدخل بيتهم سوى مرة واحدة في الشهر.

وأصبح عم محمد وزوجته زبائن دائمين لأسواق الطعام المستعمل كالموجود في منطقة كرداسة، وهم أناس يبيعون ما يتبقى من طعام الفنادق والمطاعم بالجُملة، فيمكن أن يحصل على كعكة عيد ميلاد بمبلغ 10 جنيهات وكيلو من قطع دجاج مقطعة بمبلغ 20 جنيهاَ.

أما محمود وهو يعمل في مهنة حرة وهي النقاشة، فيقول لـلميادين نت إنّ الأزمة أثّرت عليه، وذلك بسبب أنّ عمله غير منتظم، فيمكن أن يعمل لـ5 أيام فقط في الشهر، وأحياناً 10، وأحياناً لا يوجد عمل، موضحاً أنه يتقاضى أجره بشكل يومي، فمن الطبيعي ألا يستطيع أن ينفق بشكل متوازن على بيته.

اضطر محمود أن يستغني مع تصاعد الأزمة عن سلع أساسية مثل اللحوم والبيض والدجاج وغيرها، وذلك لأنّ دخله الشهري لا يزيد عن 1500 جنيهاً (60 دولار)، وهو يقيم في سكن مؤقت بإيجار شهري قدره 1000 جنيهاً، وفواتيره تصل 435 جنيهاً. الأمر الذي يضطره إلى الاقتراض كثيراً قبل نهاية الشهر.

الأزمة الاقتصادية.. الأسباب والحلول

ترى الباحثة الاقتصادية ريم سليم أنّ الأزمة الحالية في مصر سببها عدم كفاءة السياسات العامة الاقتصادية الحالية، وعدم معالجتها للواقع منذ عام 2016. وعام بعد عام كانت الأزمة تزداد، وصولاً إلى "كوفيد 19"، وبعدها أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، ثم تراجع الاقتصادي العالمي.

أما عن تداعيات الأزمة في مصر، فتقول سليم إنها لم تكن مفاجئة، بل "نتيجة طبيعية لهذه السياسات، والتي أشار إليها صندوق النقد الدولي، لأنها لم تكن تخدم دعم الإنتاج المحلي، كما أنّ الشركات المتوسطة والصغيرة كل يوم تجد معوقات كثيرة أثناء عملها، وبالتالي تتعثر في الإنتاج، ما يؤدي إلى تسريح عمالة، أو إنتاج أقل في السوق، وضعيف الكفاءة يحتاج إلى الاستيراد".

أما عن الحلول التي يتخذها المواطنون لمواجهة الأزمة، فتراها الباحثة الاقتصادية أنها رغم كونها ضرورية وطبيعية إلا أنها حلول غير عملية، مضيفة أن المواطنين منذ عام 2016 يقومون بترشيد استهلاكهم وزاد الأمر مع أزمة كورونا، ثم أزمة تحرير سعر الصرف، وبحسب سليم "لا يوجد ما هو أقل من ذلك ليقلل الناس من استهلاكهم"، لكنها ترى أن الحل العملي هو دعم الإنتاج المحلي وتسهيل الشركات الإنتاجية لممارسة أعمالها.

وبعكس الواقع حالياً، ترى أنّ على الدولة مساعدة المواطنين على زيادة الاستهلاك لأنه يعني زيادة الطلب على السلع، وبالتالي سيقوم المنتجين بإنتاج المزيد من السلع.

أما عن كيفية تحقيق ذلك، فتوضح أنه "يتم عبر التحكم في الأسعار. فهامش الربح أحياناً يكون وفق مزاج التاجر. مثلاً إذا زادت التكاليف بمعدل 0.5%، نجد أن التاجر يزيد الأسعار بنسبة 2%، وإذا قلت قيمة الجنيه بنسبة 0.5%، تزيد الأسعار 10:15%".

وطالبت الباحثة الاقتصادية أن يكون هناك شفافية في تحديد الأسعار، كما أنها ترى أن الوقت قد حان أن يتم إلغاء ضريبة القيمة المضافة التي وُضعت أساساً لتقليل الاستهلاك؛ "لكننا الآن نريد أن ننعش الاقتصاد ونزيد الاستهلاك لننعش الإنتاج".

واختتمت حديثها للميادين نت قائلةً إنّ الوضع الحالي في مصر يحتاج أن تتكاتف الحكومة والأفراد ومنشآت الأعمال في البحث عن مصادر للنقد الأجنبي بعيداً عن القروض ودعم إنتاج السلع والخدمات التي يمكن تصديرها للخارج بالدولار.