العنف الشعبي ضد المجرمين.. الخرطوم "منطقة عالية الخطر"
يشيع في العاصمة السودانية الخرطوم العنف المتبادل بين الضحايا والمجرمين على حدٍ سواء من دون وجود مخلّص يعيد إلى المدينة الأمن والطمأنينة. وجرى تصنيف عدد من مناطق العاصمة مناطقَ عالية الخطر.
في بدايات أفلام باتمان والجوكر، تسقط مدينة "غوثام" الخيالية عادة في قبضة العصابات، وتظهر ممارسات عنيفة لقادة هذه التشكيلات ضد المواطنين من جراء ضعف وتداعي مؤسسات فرض هيبة الدولة، ما يضطر الأهالي إما إلى انتظار المخلّص وإما إلى الانتظام في مجموعات لأغراض الحماية وتنفيذ القانون، وإن استتبع ذلك بالضرورة استخدام جرعة مضاعفة من العنف لردع المجرمين.
ومن الممكن أن يكون هذا السيناريو ملائماً حالياً لما يجري في العاصمة السودانية الخرطوم، حيث تنامت ظاهرة السلب والسطو المسلحين تنامياً كبيراً، وأحياناً في وضح النهار، ويظهر ذلك عدد من الوقائع التي تسجلها كاميرات المراقبة، ما استدعى نشوء خطاب (حمائي) عن ضرورة ممارسة المواطنين حق الدفاع عن النفس والمال والعرض، في ظل تنامٍ متزايد لخطاب البطش بالمجرمين وتنامي خطاب الكراهية تجاههم، وصولاً إلى بث فيديوهات ومقاطع صادمة تصوّر ضربهم وسحلهم على نحو مبالغ فيه بدعوى (الردع).
وفي ظل هذا الوضع المأزوم، يبرز تساؤل بشأن مستقبل الخرطوم التي يشيع فيها العنف المتبادل بين الضحايا والمجرمين على حدٍ سواء من دون وجود مخلّص يعيد إلى المدينة الأمن والطمأنينة.
صورة مقربة
لمعرفة الأوضاع الأمنية الخطرة في العاصمة، نستدل بإقرار قائد الانقلاب، الفريق الأول عبد الفتاح البرهان، في خطاب سابق بتراجع الأمن في جميع أنحاء البلاد، ويعترف كذلك قادة الشرطة في البلاد، بارتفاع معدلات الجريمة من 200 إلى 800 واقعة في اليوم.
وضمن هذه السجلات، تنتشر على نحوٍ خاص جرائم السرقات باستخدام الدراجات النارية التي تقل شخصين أو ثلاثة، والمعروفة شعبياً بـ(تسعة طويلة)، وبجولة على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن رصد مئات الحالات التي وقع أصحابها في براثن هذه العصابات.
ولتبيان جدية هذا الأمر، أصدرت لجنة أمن ولاية الخرطوم، قراراً يقضي بتجريم استغلال أكثر من شخص للدراجة النارية، ووضع ضوابط للقيادة تتضمن الحصول على تراخيص تصدرها هيئات المرور.
وفي تحول ثانٍ للجريمة، أخذ الشكل المنظم، برزت جرائم السطو المسلح، حيث تهاجم العصابات الأحياء والمنازل ومناطق التجمعات لنهب المواطنين، مع تسجيل حالات انتهت بقتل ضحايا أبرياء.
وحالياً، يجري تصنيف عدد من مناطق العاصمة مناطقَ عالية الخطر، لا سيما في الفترات الليلية، وينصح بعدم التحرك فيها إلا للضرورات القصوى.
وأعلنت الشرطة، غير مرة، تنظيمها حملات ضد أوكار الجريمة، وكثيراً ما أكدت توقيف عصابات يتسلح عناصرها بالسلاح الأبيض (مدى وسيوف وسواطير).
رد فعل شعبي
لمّا تكاثر الفلتان الأمني، وتناقصت أوتاد الحماية، بدأ شباب الأحياء ينتظمون في دوريات تستهدف توقيف المجرمين.
ولكن تلك الممارسة الشعبية على أهميتها، نجدها قد أخذت أحياناً طابعاً متجاوزاً وصل حدّ التنكيل بالمجرمين، يتضمن ذلك الضرب المؤذي، والسحل، وحلاقة شعر الرأس، وحرق الدراجات النارية، مع أصوات تنادي بقتل المجرم ورميه في النيل.
أما أبرز تمظهرات هذا الوضع الخطر، فشهدته ضاحية الكدرو، شمالي الخرطوم، حيث أدت جريمة مقتل أحد شبابها على يد عصابات (النيقرز) إلى شن ذوي الضحية وجيرانهم هجمات انتقامية انتهت بإحراق بيوت عشوائية تقطنها غالبية من نازحي دولة جنوب السودان، بدعوى اختباء القتلة في داخلها.
ولاحقاً، سرت أحاديث عن تهيؤ المُبعدين بالتضامن مع أفراد عصابات لشن هجمات على المنطقة، استتبع ذلك خروج أهالي الكدرو إلى الشوارع بالسلاح الأبيض والهراوات تحسباً لصد أي هجمات متوقعة.
أسباب التفلت الأمني
يحمّل الصحافي والمحلل السياسي، محمد عبد العزيز، سلطات الانقلاب في السودان مسؤولية التلفتات الأمنية الحاصلة في الخرطوم، وبقية أنحاء البلاد.
وقال للميادين نت، إن قيادات الانقلاب تتبنى تكتيكات خطرة تتعلق بسلامة البلاد ووحدتها، بما في ذلك لعب كرت الفراغ الأمني، كمدخل لبسط السيطرة على مقاليد الحكم.
وأضاف أن هذه التكتيك يتعلق بترويع الناس وكسر شوكة مقاومة الانقلاب، ولجر الناس إلى مربع العنف لإيجاد ذريعة لقمع الاحتجاجات في الشارع.
وتقترب الاحتجاجات المناوئة للانقلاب في السودان، من دخول شهرها السابع، مع وصول ضحايا القمع الحكومي إلى قرابة مئة قتيل، وفقاً لإحصاءات مستقلة.
وعودة إلى ظاهرة العنف المتبادل بين المواطنين والمجرمين، يقول عبد العزيز إن تقاعس الجهات الأمنية وعجزها عن احتكار أدوات العنف، دفعا الناس إلى حماية أنفسهم خارج مظلة القانون، ما يقود إلى سيناريوهات مظلمة تصل إلى مرحلة اللادولة.
ضعف في أداء الشرطة
أقرّ الخبير الأمني، وضابط الشرطة المتقاعد، عمر عثمان، ابتداءً بوجود ضعف بائن في أداء الشرطة والأجهزة الأمنية، كأحد أهم الأسباب الرئيسة لتنامي الجريمة والعنف.
وذكّر بتبرم نائب قائد الانقلاب، محمد حمدان حميدتي، الشهر الماضي، من تقاعس الشرطة عن واجباتها في حسم عصابات (9 طويلة).
ومع تأمينه على دور المجتمع في مشاركة الشرطة في فرض واستتباب الأمن، أشار عمر إلى أن ذلك لا يعني بأي شكل من الأشكال التحول إلى شريعة الغاب.
وطالب المواطنين بتوقيف المجرمين من دون تجاوز في استخدام القوة، وتسليمهم إلى جهات إنفاذ القانون، محذراً من أن مغبة استخدام القوة التي لا توافق الموقف، تحول الضحية إلى جاني وفقاً لنصوص القانون السوداني.
وتنامى الطلب على نحو كبير أخيراً لحيازة الأسلحة النارية، ويظهر ذلك في القوائم الطويلة لدى الجهات المختصة، وهو أمر استدعى في المقابل لجوء رجالات العصابات إلى التسلح بالمسدسات والرشاشات الصغيرة غير المرخصة، في أثناء غاراتهم، تحسباً لأي حالات طوارئ.
مخاطر اجتماعية
في أي سياقات يمكن قراءة سباق العنف والتسلح بين المواطنين والعناصر المتفلتة في العاصمة الخرطوم؟ سؤال رد عليه الباحث الاجتماعي عمر الأمين بالقول إن "المشكل أمني في الأساس، ولكنه في طريقه ليصبح أزمة تهدّد النسيج الاجتماعي في البلاد".
ويقول الأمين للميادين نت، إن أخطر ما في أزمة الأمن الحالية، انحدارها إلى قعر العنصرية، عبر تصنيف الناس على الهوية بين ضحايا وجناة، مضيفاً أن التعميمات التي تستشعر معها طائفة من سكان العاصمة بأنها مستهدفة فيها لسحناتها فقط، في مقابل شعور الطائفة الأخرى بأنه يجري وضعهم في خانة المجرمين للسبب نفسه، ستؤدي إلى اصطفافات عرقية، قد تتحول إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
أين الحل؟
يري المحلل السياسي محمد عبد العزيز، أنَّ أزمة الأمن والعنف الحالية ستتوقف بنهاية الانقلاب العسكري واستعادة المسار الديمقراطي. أما الخبير الأمني عمر عثمان فيرى أن الأمر يتطلّب استعادة العلاقة السوية بين الشرطة والمواطنين، عبر أداء مهني غير مسيّس لعناصر الشرطة، من شأنه أن ينهي حالة عزوف المواطنين عن الانضمام إلى قواتها قليلة العدد والعتاد، فيما يرى الباحث الاجتماعي عمر الأمين أن الأمر رهين بإزالة الفروق الاجتماعية عبر برامج اقتصادية ناجعة للحد من الفقر، وببرامج سياسية وتعليمية تجعل الوطن مقدماً على القبيلة.