العائد إلى شعبه على دمه.. غزّة تودّع جار الأزقّة أبو العبد هنيّة
في شوارع شمال غزة، كان واضحاً قدر الحزن. تردّدتْ ألف مرة على مسامعي عبارة "عظم الله أجركم"، وتلك يحكيها الناس لبعضهم بعضاً إذا ما كانوا أولياء فقدٍ ودم من الدرجة الأولى، وكان أبو العبد هنية كذلك.
تُعطيك مهنة الصحافة فرصة للاقتراب من كل الشخصيات العامة التي يراها الناس على شاشات التلفاز. وقد التقيت إسماعيل هنية مرات عديدة، وزرته في بيته لإجراء مقابلات صحافية مسجلة ومصورة ومكتوبة عشرات المرات، لكنّي برغم عظم صدمة اغتياله، لم أستطع أن أبكيه، لا لأنّي كنت ما قبل الحرب من أبناء مدرسة الصحافة النقدية التي لا تربطها بالمستويات القيادية السياسية العليا علاقات صداقة شخصية، بل لأن أكثرنا - نحن الغزاويين - فقد القدرة على البكاء السهل؛ الدموع عزيزة في حرب يستدعي كل حدث فيها كربلاء من الحزن، غير أن والدتي التي تشبه غزة كثيراً، لم ترد على تحيّتي الصباحية اليومية، كانت تبكي بحرقة.
"زعلانة على أبو العبد يا حجة؟".. سألت، فأجابت بكلمات نجت بصعوبة من تشويش النحيب: "لا مش زعلانة بس، مقهورة.. مقهورة إنهم اغتالوه، وقبل منو اغتالوا قائد حزب الله ببيروت، وبيقتلوا قادتنا واحد ورا واحد". ليست أم رامي سيّدة سياسة، هي واحدة من أصواتنا الصادقة التي نجت من تجاذبات الاستقطاب والسياسة. أبو العبد هنية أخوها. فؤاد شكر واحد من إخوانها الذين تجهل اسمهم حتى. وأمام هذا الفقد المتتالي، يتبدّى غضب الرحمن في صورة حريق المظلوم الذي لا يطفئ ناره إلا الدم والانتقام.
في شوارع شمال غزة، كان واضحاً قدر الحزن. تردّدتْ ألف مرة على مسامعي عبارة "عظم الله أجركم"، وتلك يحكيها الناس لبعضهم بعضاً إذا كانوا أولياء فقدٍ ودم من الدرجة الأولى، وكان أبو العبد هنية كذلك. أما العزاء الأكبر، فكان في مخيم الشاطئ. هناك عاش إسماعيل عبد السلام هنية مذ كان طفلاً، ومنه أُبعد إلى مرج الزهور في مطلع التسعينيات، وإليه عاد رئيساً لحركة حماس ورئيساً للوزراء. لم يخرج من المخيم برغم توفر فرصة ومبرر عام 2014، عندما دمر بيته، وكان من الممكن أن يعيد بناءه في أيّ حيٍ راقِ من أحياء القطاع.
في "الشاطئ"، بكاه الناس حقاً. هم يعرفونه. عايشوه وعاشروه أكثر منا. قالت إحدى جاراته وهي حاجة طاعنة في السن وهي تبكيه: "تمنّيت ولادي يموتوا ولا هوا يموت، جارنا حنون علينا، والله ما نشفتلي دمعة، من ساعة ما سمعت الخبر وأنا بعيط عليه". كان اجتماعياً جداً، هو معروف بذلك. يُحسن النفاذ إلى القلوب. وقد كتب أحد جيرانه في منصة "إكس" مستذكراً طريقة تعامله: "سلمت عليه وقال لي نتعرف على الوجه الطيب. لما عرف إن أهلي شهداء، أخذني بالأحضان الحارّة، وأحسست بحضن الأب لابنه، ولم أشعر بأنه قائد كبير".
وقد تجاوز حضوره الاجتماعي حدود مخيمه وقطاع غزة عموماً، إذ ينقل أهالي الشهداء في الضفة الغربية عنه أنه لم يترك عائلة شهيد إلا هاتفها وقدم لها العزاء بمعزل عن انتمائها السياسي. رحل إسماعيل هنية، وأبناء هنية الثلاثة، وسبعة من أحفاده. مضت العائلة التي أثارت الجدل لأنها صعدت إلى المشهد الفلسطيني العام في سنوات الاقتتال والاستقطاب الداخلي العجاف. وقد حظي يوم أول أمس بالاستشهاد؛ الخاتمة التي تنتهي فيها حياة الفلسطينيين عادةً، وتعيدهم إلى وطنهم وشعبهم مغسولين من دنس كل خلاف وتشكيك.