الطاقة الشمسية ليست لكلّ النّاس.. تفاوت طبقي يقسّم الضوء على اللبنانيين
غياب الكهرباء في لبنان دفع الناس إلى خلق حلول بديلة، كان آخرها الاعتماد على نظام الطاقة الشمسية، لكنه مكلف إلى حد يفوق أجر عامل لسنوات طوال، وبات جزءاً من دلالات التفاوت الطبقي في المجتمع اللبناني.
تفوق الأوضاع السيئة في لبنان القدرة على التحمّل. يعيش الناس في هذا البلد الجميل معاناة مستمرة، ليس آخرها انقطاع التيار الكهربائي لوقت أطول من أن يُنتظر. فجأة، ومن دون سابق إنذار، وجد اللبنانيون أنفسهم في النفق من دون أي نور، لكنه لم يكن النفق الذي يحكون عنه في أمثالهم الشعبية عادةً. لم يكن "النفق الذي بآخره نور".
الطرقات الرئيسية في لبنان والأنفاق (نفق المطار، نفق سليم سلام في بيروت، وغيرهما) التي تحتاج إلى كهرباء كي يتمكن المارة من عبورها بسلام، ترزح تحت ظلام دامس. أثناء مرورك في النفق، محاطاً بكم كبير من السيارات، وبقدر لا بأس به من الخوف، عليك أن تحرّك سيارتك بدقة وخفة عالية، لأن جارك يمشي "برحمة الله"، مثلك تماماً.
غالبية المدن والقرى اللبنانية تحسبها غير موجودة في الليل لفرط ما فيها من عتمة. مشوار خفيف بين البيوت يمكّنك من رؤية الناس مستيقظة تفترش السطوح والشرفات هرباً من الحرارة المرتفعة، في بلد باتت تصل فيه درجات الحرارة صيفاً إلى 35 درجة مئوية وما فوق.
انقطاع التيار الكهربائي في لبنان مسألة اعتادها الناس، فجملة "بتجي 10، بتروح 2، بتجي 6" ستحفظها جيداً إذا كنت لبنانياً منذ أكثر من عقد من الزمن، لكن ما حصل مؤخراً أن الكهرباء غابت عن البيوت والمصانع والمؤسسات التجارية لساعات طويلة، حتى إنها لم تعد متوفرة لأيام طويلة متتالية في بعض المناطق.
غياب الكهرباء لساعات طويلة فرض مشاكل أخرى حكماً. انقطعت المياه عن الكثير من البيوت. جمّدت معظم المحال أعمالها. توقفت عجلة الحياة في كثير من المرافق، وفرضت هذه الحال واقعاً جديداً لا بد معه من خلق حلول. ومن المنطلق نفسه؛ منطلق الحاجة، دخل لبنان أتون الطاقة الشمسية.
"طاقة لا طاقة للناس على تحمّلها"
كانت الشمس آخر ملجأ للبنانيين في مواجهة أزمة الكهرباء، على الرغم من أن لبنان يقع في دول الشرق الأوسط، أي في منطقة "الحزام الشمسي" التي تتميز بسطوع الشمس طيلة أشهر السنة، وهذا يمنحها فرصاً هائلة للاستثمار في هذا المجال، وبمردود أكبر مقارنة بالدول الأوروبية التي لا ترى الشمس كثيراً.
نظام الطاقة الشمسية. مصطلح لم يعتد أهل هذا البلد سماعه، لكنه صار فجأة من يومياتهم. في السهرات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في بعض الندوات، حضر موضوع "الطاقة" وتكلفته، وصار الجميع على اطلاع لا بأس به، وأجاد كثيرون الحديث عن نظام الألواح والبطاريات، وحاجات البيوت، والمصالح الصغيرة.
أصبحت الطاقة سلاح اللبنانيين لمواجهة أزمة "التقنين" التي تخطّت 22 ساعة، ووصلت إلى العتمة الشاملة في عدد من المناطق. وبعد أن جرّب اللبنانيون حلولاً عديدة، من الشمعة والبطارية والمولدات الخاصة في الأحياء، والتي سرعان ما اختفى نجمها بسبب تكلفتها التي لم تعد تحتمل نتيجة ارتفاع الحاجة وانخفاض ساعات التغذية بالتيار الكهربائي، انتشرت بسرعة البرق ألواح الطاقة الشمسية. على أسطح البيوت، في المحلات التجارية، والمستشفيات، في محلات توزيع الإنترنت، ولدى بائع الفاكهة والخضار، والصالونات، في كل مكان.
الحاجة أم الاختراع. لذا، بات عليك أن تفكّر بجدية كيف ستكون ممن يسعون لمحاولة وصول الطاقة الشمسية إلى بيوتهم أو خيمهم أو مكان عملهم بأسرع طريقة وأقل كلفة. انتشرت الشركات التي تشجع على إيجاد "الحل السحري"، حتى اكتسحت ألواح الطاقة العديد من الطرقات والمنازل بعدد ألواح متفاوت.
نظام الطاقة الشمسية مكلف عموماً، وغالبية البيوت غير مجهزة لإمدادات الطاقة بالأصل. تبدأ تكلفة نظام الطاقة الشمسية الـ"5 أمبير" بنحو 2000 دولار أميركي، وصولاً إلى 3500 دولار. وترتفع التكلفة مع عدد الأمبيرات، وعدد ساعات التغذية المطلوبة، فتكلفة التغذية بـ5 أمبير تختلف عن 10 أو 15 أمبيراً لجهة عدد الألواح والبطاريات ونوعياتها، وهي تتفاوت بين نظام وآخر، ربطاً بنوعية المواد المستعملة وعدد الألواح وقدرة الزبون المالية.
يكفي نظام الـ5 أمبير لتشغيل تلفاز وثلاجة والمصابيح الكهربائية (مع استثناء تشغيل التكييف صيفاً أو شتاءً أو تشغيل أكثر من ثلاجة مثلاً). كل 5 أمبير من الطاقة تحتاج إلى لوحين 540 واط، وبطاريتين 200 أمبير. يؤمن هذا الخط تغذية من 4 إلى 5 ساعات يومياً، وتحتاج الألواح الشمسية إلى نحو 4 ساعات من الشمس كل يوم لتعبئة البطاريات وتأمين التغذية اللازمة. تتفاوت تكلفة هذا النظام بحسب نوعية البطاريات المستخدمة، التي تختلف من حيث نوعها وجودتها وعمرها المتوقع.
لا نريد الغوص في التكاليف الاقتصادية البحتة، لكن نظام الطاقة الشمسية غالٍ في لبنان، وخصوصاً أنه يسعر على الدولار الأميركي، الأمر الذي يفوق طاقة كثيرين، إذا أخذنا في الحسبان أن لبنان يواجه أزمة اقتصادية حادة انهارت فيها العملة أمام الدولار، وبات كل دولار يساوي 30 ألف ليرة لبنانية، حتى ساعة كتابة هذا المقال.
ألواح الطاقة في كل مكان
أينما ولّيت وجهك في لبنان سترى ألواحاً شمسية.. قد ترى أحياناً مشاهد غير مألوفة، كلوح شمسي مركّب فوق كوخ خشبي لبيع الشاي والقهوة بجانب الشارع. استوقفنا في الميادين نت هذا المشهد. يرى أبو يوسف صاحب هذا الكوخ أن حياته مرتبطة بعدد ساعات الكهرباء. لذا اضطر إلى الاستدانة للحصول على مبلغ يخوّله تركيب لوح واحد بحدود 350 دولاراً، وقال لنا إنه يحتاج إلى 8 أشهر على الأقل لكي يستطيع تسديد قيمة هذا اللوح. يضيف: "الكهرباء صارت حلم. لا أستطيع أن أقول للزبون الذي يمر فجراً على الخط السريع: انتظر كي تأتي الكهرباء، فعملنا لحظوي، وإلا سيذهب الزبون إلى كوخ آخر".
الأمر مشابه لما حصل مع آدم، صاحب شركة المياه المتواضعة، الذي اضطر إلى استدانة مبلغ 6000$ أميركي لضمان استمرار عمله. يقول: "الحلول معدومة. ما لم ألجأ إلى نظام يعوّض نقص ساعات الكهرباء، فسيتوقف عملي نهائياً". آدم كما أبو يوسف، لا يعلم متى سيستطيع سداد هذا المبلغ، لكنها الحاجة. زوجته التي تساعده في العمل تعقّب على حديثه قائلة إنها لا تسمح لأحد من الاقتراب من البيت أو اللعب بجانب الألواح: "في ثروة عالسطح أي حجر عن طريق الخطأ بجوعنا".
وجهة النظر هذه مختلفة عمّا قالته مريم، صاحبة مطعم في أطراف بيروت، فهي ترى أن نظام الطاقة الشمسية "أوفر بكثير من الاشتراك الشهري الذي بات يصل بأرقام خيالية، والدفع مرة أهون من الدفع كل مرة". ترى مريم في نظام الطاقة حلاً مستداماً لإنارة مطعمها. وتعتبر أن "هناك العديد من المؤسسات التي باتت تقبل الدفع بالتقسيط في مقابل الحصول على نظام طاقة جيد، ما يمكّن الناس من حلّ أزمتهم بعيداً عن مزاج الدولة المتقلب".
بعيون فرحة، تأخذنا مريم في رحلة في مطعمها لترينا العمل "كيف بيمشي متل الساعة" في كنف الطاقة الشمسية، وتقول إن المطعم يركز عمله بالتزامن مع ساعات الشمس القصوى (من الساعة الـ10 صباحاً وحتى السادسة عصراً).
لمواجهة العتمة، اختار العديد من اللبنانيين اللجوء إلى ألواح الطاقة الشمسية، لكن كثيرين يرون في المقابل أنها متوفرة لمن يحمل مبلغاً معيناً، ولمن يستطيعون اقتراض مبالغ من المال، لكنها "أمنية لمن ليس لديهم سند". محمد، صاحب محل ثياب في الشوف اللبناني، يضع كرسياً خارج المحل طيلة النهار، ويستعمل ضوء الهاتف عندما يأتي أي زبون. يعتبر محمد أن أي "مغامرة في موضوع الطاقة الشمسية قد تؤدي إلى خربان بيوت"، ويرى أنه ليس مضطراً إلى أن يقترض مبلغاً هائلاً من المال "لو باع 100 قطعة من الثياب يومياً لن يستطيع سداده".
فروقات اجتماعية
وسّعت أزمة أنظمة الطاقة الشمسية الهوة بين الطبقات الاجتماعية المتفاوتة أصلاً جرّاء الأزمة التي يعانيها لبنان. لم يعد البلد معتدلاً بطبقاته الاجتماعية في موضوع الطاقة على الأقل. كلفة تركيب نظام طاقة مرتفعة جداً قياساً بعدة عوامل، منها قدرة المواطن وسعر صرف الدولار والأجور المتدنية التي تعطى بالليرة اللبنانية غالباً.
لن يستطيع المواطن الذي يتقاضى أجراً بعملته الوطنية أن يسعى لتأمين بدائل من غياب الكهرباء، فالعديد من المهن التي كانت تشكّل مصدراً وافراً للرزق أصبحت مهددة. لم تشهد قطاعات الطبابة والتعليم والإدارات العامة وغيرها تعديلاً على الأجور، على الرغم من ارتفاع كلفة الحياة المعيشية.
بمراقبة سريعة للنظام الشمسي القائم في لبنان، وبمعادلة حسابية بسيطة، يظهر أن غالبية المواطنين ممن بقيت أجورهم على سعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية لن يستطيعوا إيجاد بدائل من غياب الكهرباء.
مولدات الكهرباء الخاصة قطعت عن معظم العائلات التي لا تستطيع تحمّل فاتورة اشتراك تصل في أقل الأحوال إلى مليوني ليرة لبنانية، وهي راتب موظف لشهر كامل. تكلفة المولدات الخاصة تحسب أيضاً على سعر الصرف الجديد، وأصبحت تفوق قدرة أي موظف على تحملها. أما اللجوء إلى نظام الطاقة الشمسية فهو "خيار الضرورة" غير المتاحة على أهميتها لعدد كبير من المواطنين، فهل تصبح الطاقة الشمسية في لبنان حكراً على الناس الميسورة؟