الضرر على الاحتلال والشركات الداعمة له بالأرقام.. المقاطعة التجارية تثمر في لبنان
استطاعت حملات المقاطعة عالمياً إلحاق الضرر في الشركات والمؤسسات التي تقدم الدعم المالي للكيان الصهيوني، إذ تراجعت أسهم هذه الشركات عالمياً مع انخفاض السهم في بعضهاً بنسبة 5%.
لطالما كانت العديد من الشركات الأجنبية الموجودة في لبنان مقصداً للناس، ولم تكن منافسة الشركات الناشئة لها واردة لاعتبارات تتعلق بالترويج والجودة والخبرة وغيرها، لكن اليوم، وبعيداً من التوقّعات، أصيبت الكثير من هذه الشركات الأجنبية بنكسة في الأسواق اللبنانية، في مقابل شركات ناشئة محلية باتت تحتل صدارة الشركات التجارية في البلد.
هذا المشهد وبعد عملية طوفان الأقصى، تبدّل في العديد من المناطق اللبنانية بعد تغيّر توجّهات الناس التي أخذت على عاتقها مقاطعة الشركات والعلامات التجارية العالمية التي تدعم الكيان الصهيوني، والتي أظهر بعضها تأييداً كاملاً لـ "جيش" الاحتلال الإسرائيلي إبان عدوانه على غزة فقدّمت خدماتها بالمجان له، مثل شركة "ماكدونالدز" التي قدمت وجبات طعام لجنود الاحتلال في غزة.
شبه فارغة بدت مقاهي "ستاربكس" في بعض فروعها، ذاك الاكتظاظ الذي كانت تشهده إلى هدوء شبه تام بعد حملات المقاطعة الواسعة التي انتشرت في لبنان، كما في العديد من الدول العربية. فلا زحمة بين المفتونين بأجود أنواع القهوة التي سوّق لها المقهى طيلة عقود.
إذ تراجعت أسهم الشركة بشكل حاد خلال الأسابيع الأخيرة، لتصل إلى أدنى مستوى لها منذ سنة 2020 عقب جائحة الكوفيد 19، وأفادت وكالة "بلومبرغ" بأن أسهم ستاربكس شهدت اضطرابات بسبب عدة عوامل، بما في ذلك حملات المقاطعة المرتبطة بالحرب القائمة في قطاع غزة وإضرابات الموظفين الذين يطالبون بتحسين بيئة العمل والأجور. ونتيجة لذلك، انخفضت قيمة الشركة السوقية بحوالى 12 مليار دولار تقريباً في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
المشهد نفسه قد تصادفه لدى مرورك أمام فرع من فروع مطاعم "ماكدونالدز"، كذلك مطاعم "KFC" و"برغر كينغ" وشركة "نسلة" وغيرها من الشركات والعلامات التجارية التي أدرجتها حملات مقاطعة المنتجات الداعمة للاحتلال ضمن قوائمها، فانكفأ عدد كبير من الناس عن ارتيادها وشرائها، ما حدا بها إلى الإعلان عن عروضات على الوجبات التي تقدّمها بأسعار منخفضة من جراء الخسارة التي تعرضت لها في وقت قياسي.
هذه بعض آثار المقاطعة التي انتشرت في لبنان إلى جانب العديد من الدول العربية والأجنبية، بعد السابع من أكتوبر، والتي لا تزال في توسّع على حد تأكيد القائمين على حملات المقاطعة. ولعل ما يحصل اليوم يعكس رغبة اللبنانيين المناصرين للقضية الفلسطينية بتسجيل موقف جلي لا لبس فيه: "التعامل مع حماة الكيان الصهيوني وشركاتهم ومؤسساتهم غير وطني وغير إنساني".
المقاطعة .."سلاح قديم جديد"
لا شك أن حركات مقاطعة البضائع الإسرائيلية والأجنبية الداعمة للاحتلال الصهيوني ليست بالجديدة، بل تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، ولبنان على وجه التحديد شهد خلال فترات سابقة العديد من موجات المقاطعة للشركات الأجنبية الداعمة للاحتلال، لكن دعوات المقاطعة اليوم تمهد لأن تصبح المقاطعة بذاتها ثقافة يومية، بعد أن باتت هذه الممارسة الاجتماعية ممهورة بارتباطها بمشاهد دموية فاضحة وبموقف سياسي واضح من نصرة غزة. الأمر الذي عمّق وعي اللبنانيين أكثر من ذي قبل، وهذا ما تعكسه اليوم مواقفهم الرافضة لأي شكل من أشكال دعم الاحتلال.
يشير عبد الملك سكرية رئيس الجمعية الوطنية لمقاومة التطبيع في حديثه للميادين نت أنه وقبل ملحمة طوفان الأقصى كان التجاوب في لبنان مع الدعوات للمقاطعة محدوداً، لكن يقول سكرية إن الشعور الوطني والقومي والأخلاقي ارتفع بعد عملية طوفان الأقصى، وأصبح التأييد والتجاوب مع دعوات المقاطعة أكبر بكثير.
في الواقع، "كثير من شعوب العالم استخدمت هذا السلاح وحققت نجاحات عظيمة فعلاً"، وفق سكرية، مستشهداً بما حصل في ثلاثينيات القرن الماضي، حينما طلب غاندي من شعب الهند مقاطعة البضائع البريطانية بسبب استعمار بريطانيا للهند ونهب خيراتها وثرواتها، فكان التجاوب كبير، مما أدى إلى رضوخ بريطانيا للضغوط الاقتصادية عليها، بمنح الهند استقلالها.
ويفيد بأنّ المقاطعة في لبنان بدأت فعلياً تؤتي أُكلها، حيث تراجع عدد مرتادي المطاعم التابعة للشركات الداعمة للاحتلال، كمطاعم "ماكدونالدز" و"بيتزا هات" و"KFC" و"ستاربكس" وغيرها من المطاعم بنسبة مرتفعة تصل إلى 75% في بعض المدن العربية.
وإذ يشدد سكرية على ضرورة أن لا تكون المقاطعة ردة فعل مؤقته فقط بل أن تكون عملاً دائماً ومستداماً ونمط حياة وليست ردة فعل، تبرز فعلياً العديد من التحركات في هذا الاتجاه، لتحويل ثقافة المقاطعة من أجل أن تصبح جزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليومية في كل شيء.
تطبيقات وحملات على مواقع التواصل
لعلّ الكيان الصهيوني استشعر سابقاً خطر المقاطعة على اقتصاده، الأمر الذي دفعه كعادته إلى ترويج فكرة مفادها بأنّ المقاطعة هي شكل من أشكال معاداة الساميّة.
لكن ذلك لم يمنع المناهضين للاحتلال والداعمين للمقاومة عموماً حول العالم من ابتكار الأساليب لنشر ثقافة المقاطعة لكل من يدعم الاحتلال. كتطبيق "no thanks" أو "لا شكراً" الذي يدعو إلى عدم شراء منتجات وبضائع الشركات التي تدعم الكيان الإسرائيلي.
تظهر مواقع التواصل اهتماماً بالتطبيق من قبل المستخدمين من مختلف أنحاء العالم، وهذا مؤشر على تعاظم الرغبة في إنجاح هذه المقاطعة، من أجل الضغط على الكيان الصهيوني وشركائه بوقف جرائمه وانتهاكاته ضد الفلسطينيين.
في لبنان بدا واضحاً أن النّاشطين في مجال المقاطعة ابتكروا أيضاً أساليب شبيهة للتواصل المباشر مع الناس بغية تعريفهم بهذه الشركات والمنتجات والبضائع التي يجب مقاطعتها.
العديد من الصفحات على مواقع التواصل أنشئت لهذا الغرض تحت عنوان "مقاطعة" أو غيرها من العناوين التي تنطوي على دعوة مباشرة لمقاطعة بضائع الشركات المتورطة في دعم الكيان الصهيوني.
هذه الصفحات اعتمدت بشكل أساسي على إبراز البدائل الوطنية المتاحة للمنتجات المستوردة التي يجب مقاطعتها.
زهراء جوني، مسؤولة صفحة "مقاطعة" على منصة انستغرام، تؤكد في حديثها للميادين نت عن بذلها وزملائها في الصفحة جهوداً يومية لإطلاع الناس على كل ما يخص المقاطعة، وتسليط الضوء على المنتجات البديلة.
"أخذنا على عاتقنا أيضاً معالجة مخاوف الناس وتوضيح مبدأ الامتياز التجاري للناس، أي أنه حتى لو كانت الشركة لبنانية كما، فهناك نسبة كبيرة من الأرباح تذهب إلى الشركة الأم الداعمة للكيان، مثل بيبسي مثلاً"، توضح جوني.
من جهتها، أوضحت الناشطة في حملة "مقاطعة داعمي إسرائيل في لبنان" مجدولين درويش في حديثها للميادين نت أنّ "المقاطعة اليوم في أوجها، لأنها الناس كانت تحتاج إلى ردّ فعل بعد رؤيتها المجازر في غزة، وليس كل باستطاعة الجميع حمل السلاح والانخراط في العمل المقاوم، لكن غالبية الشعب اللبناني والعربي يريد أن يشارك في عملية المواجهة"، مشيرة إلى أن هذه المواجهة تتجلى في الدعوة للمقاطعة.
الحملة ومن خلال عملها أنشأت دليلاً للشركات التي تدعم الاحتلال ووضعته في متناول الناس للاطّلاع عليه، كشركة "هواوي"، "أيف روشيه"، "ينوليفر"، "لينوفو"، "فيكتوريا"، "غاب"، "فيليبس"، "كوكا كولا"، "ماكدونالدز"، "نسله"، وغيرها الكثير من الشركات الداعمة للكيان الصهيوني.
تؤكد مجدولين أنهم في الحملة يقومون بأبحاث مستمرة لإضافة الشركات الداعمة للكيان الصهيوني على الدليل الخاص بها، فضلاً عن إبراز الأسباب لمقاطعة كل شركة من الشركات المدرجة في قوائم المقاطعة.
من هذه الشركات التي وردت في الدليل، على سبيل المثال لا الحصر، شركة "ماكدونالدز" التي افتتحت أول مطعم لها في الكيان الإسرائيلي في العام 1993 بعد توقيع اتفاقية أوسلو. وتدعم حالياً صندوق الاتحاد اليهودي، والذي بدوره يدعم جمعيات غير ربحية إسرائيلية، ويعمل على الحفاظ على الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي الأميركي لـ"إسرائيل".
وفي تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، أعلنت شركة "أولونيال" المحدودة المشغلة لفروع ماكدونالدز في الكيان الاسرائيلي، توفير وجبات مجانية لمستشفيات وكذلك للجنود الإسرائيليين المشاركين في العدوان الإسرائيلي على غزة.
التوجه نفسه في دعم الكيان المحتل، اتبعته مثلاً شركة "جونسون آند جونسون"، والتي تصنع سلعاً استهلاكية كثيرة. ولديها 4 فروع في كيان الاحتلال. وفي العام 1998، منحها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو جائزة اليوبيل الفضي، وهي أعلى وسام تقدمه "إسرائيل" تقديراً لمن بذل أقصى جهده من خلال الاستثمارات والعلاقات التجارية في تقوية الاقتصاد السرائيلي خلال خمسين عاماً من تأسيس الكيان.
هبوط أسهم وتراجع لشركات عن دعم الاحتلال
لعلّ أهم ثمار المقاطعة التي بدأت الشعوب العربية بقطفها مؤخراً هي إعادة توصيف الكيان الإسرائيلي عالمياً بأنه كيان عنصري خارج عن القانون، مجرم وقاتل للأطفال. وهذا ما يفسّر رضوخ بعض الشركات العالمية للضغوط المستمرة عليهم.
تشير درويش في هذا السياق إلى أنّ حملة مقاطعة داعمي "إسرائيل" في لبنان وبالتعاون مع حملات أخرى عربية وغير عربية كحملات "البي. دي. أس" التي تعمل على سحب الاستثمارات من "إسرائيل" والضغط على هذه الشركات لكي تنسحب من "إسرائيل"، "نجحت في إخراج عدد من الشركات من الكيان كشركة جي. فور. أس، وهي أكبر شركة أمن خاصة أعلنت في الأول من حزيران/يونيو 2023 وبعد سنوات من حملات الضغط والمقاطعة، عن بيع جميع أعمالها المتبقية في نظام الاستعمار والفصل العنصري في إسرائيل".
وتلفت درويش إلى أنه يتعين على الشركات الضالعة في دعم الكيان الصهيوني أن تختار بين السوق العربي والسوق الإسرائيلي. فهذه الشركات تسعى لتحقيق الربح، والربح يحصل عبر زيادة البيع وحجم السوق، لكنها بالتأكيد لاحظت انكفاء الزبائن عنها مؤخراً في المجتمعات العربية.
الضرر على الاحتلال بالأرقام
استطاعت المقاطعة إذاً إلحاق الضرر في الشركات والمؤسسات التي تقدم الدعم المالي للكيان الصهيوني، هذا ما يلفت إليه خبراء اقتصاديون بلغة الأرقام.
الخبير الاقتصادي زياد ناصر الدين واحد من هؤلاء، إذ يؤكد أنّ أسهم هذه الشركات تراجعت عالمياً مع انخفاض السهم في بعضهاً بنسبة 5%، مشيراً إلى أنه "رقم كبير جداً ويحقق خسائر بالتوزيع العام خاصة".
ويضيف ناصر الدين في حديث للميادين نت: "حين نتكلم عن تراجع عالمي نستطيع القول تلقائياً إنّ هناك تراجعاً ضمنياً لهذه الأسهم بالدول الموجودة فيها".
ووفق آخر الإحصاءات، يشير الخبير الاقتصادي إلى أنّ المقاطعة في لبنان وصلت إلى 90% في بعض المناطق، ما دفع بعض الشركات لتدارك الأمر عبر عروضات تقدمها على "البراندات" التي تبيعها والمواد الاستهلاكية أيضاً.
ناصر الدين حثّ أيضاً على إيجاد البديل دائماً للمنتج المدرج على لائحة المقاطعة: "هذا يساعد بأن تظلّ القضية الفلسطينية موجودة سياسياً واقتصادياً وحتى في العقل المقاوم، بعيداً من هذا الاستعمار الاقتصادي الذي يفرض علينا دعم العدو الاسرائيلي بطريقة ناعمة".
ويعتبر ناصر الدين أن لبنان أمام فرصة لإظهار واقعه الإنتاجي، "ذلك أن لديه قدرة على إنتاجات مهمة وصناعات متقدمة، يمكنها تشكل بدائل جيدة عن السلع التي قاطعها الناس. فقد بدأنا نشهد على ارتفاع أسهم لشركات تجارية محلية في مقابل انخفاض أسهم لشركات داعمة للعدو الصهيوني".
هو سلاح فتّاك ضد عدو اعترف سابقاً بخطر المقاطعة على كيانه المؤقت واقتصاده وحتى بقائه، ففي تقرير أعدته وزارة المالية الإسرائيلية عام 2013، وسمح بنشره عام 2015، ذكرت الوزارة عدّة سيناريوهات للمقاطعة تصل إلى خسارة 10 مليارات دولار سنوياً في حال مقاطعة كل البضائع الإسرائيلية، مهما كان مكان تصنيعها، وهو السيناريو الأسوأ على حد إقرار وزارة المالية الصهيونية.