السلوك العدواني.. أزمةٌ متفاقمة في المدارس الفرنسية
تبرز قضية جديدة في فرنسا، أثارتها الأرقام، التي أعلنتها إدارة الخدمات التربوية الوسيطة، في تقريرها الصادر في تموز/يوليو. وتحذيره من ضعف المعلمين أمام ارتفاع معدّلات السلوك العدواني للتلامذة.
يحظى ملف التعليم المدرسي في فرنسا بحيّزٍ استثنائيٍ من الاهتمام العام، وتشكّل تفاصيله موضوعات جدليّة على المستويين الإعلامي والسياسي، انطلاقاً من الأهمية القصوى التي يعطيها المواطنون لقضايا التعليم ونوعيّته وللحياة المدرسية المرافقة له، بكلّ ما فيها من أبعاد ثقافية واجتماعية، وما يرتبط بها من تقسيمات المجتمع وتلويناته بين الفرنسيين والمهاجرين، وما يحمله هؤلاء من هويّاتٍ تحاول التعايش في قلب مجتمعٍ نشطٍ لا يزال يعيش على إرث الثورة الفرنسية، التي أنتجت سياساتٍ راعية اجتماعياً، يشكّل التعليم المجّاني إحدى أبرز صورها، الأمر الذي يعدّه الفرنسيون حقاً مكتسباً دفعوا في سبيله جهوداً وتضحياتٍ كبرى عبر الزمن.
ويعاني هذا القطاع سنوياً، وخصوصاً في الأعوام الأخيرة، مشكلاتٍ جمّة، ظهر منها للعلن ما يتعلق بالمقررات التربوية المثيرة للجدل، كما ظهرت مشكلاتٌ ترتبط بما هو مسموح أو ممنوع من إظهار الهويات الدينية أو الثقافية، والوافدة منها تحديداً.
ومن هذه القضايا، تبرز الآن للعلن قضية جديدة، أثارتها الأرقام التي أعلنها إدارة الخدمات التربوية الوسيطة، في تقريرها الذي صدر، في الـ 17 تموز/يوليو. وفيه تنبيه خطر من ضعف المعلمين أمام ارتفاع معدّلات السلوك العدواني للتلامذة.
وبات هذا الارتفاع ملحوظاً في المدارس الفرنسية، حيث سجّل التقرير ما يزيد على 20 ألف إحالة لشكاوى خلال العام 2023 وحده، مع زيادةٍ سنوية بمقدار 12 في المئة عن العام الذي سبقه.
تحاول الإدارة التعليمية في هذا السياق استعادة الثقة بقدرة كوادرها على ضبط الأمور قبل اتساعها ووصلها إلى نقطة اللاعودة، خصوصاً مع ترافق ذلك مع جملة من الأحداث الاجتماعية والجرمية المسجّلة على شبّانٍ في نهاية أعوام المراهقة، أي الجيل الطالع مباشرةً من المؤسسات التعليمية المدرسية. و"إقامة تحالف لاستعادة الثقة" هو العنوان الذي صدر تحته التقرير الجديد.
وأعربت مديرة مؤسسة الوسيط الوطني للتعليم، كاثرين بيكيتي - بيزو، عن قلقها إزاء ما وصفته بتدهور العلاقة بين المدرسة والعائلات، والعدوانية المتزايدة التي يتعرض لها الموظفون في قطاع التعليم.
وبالإضافة إلى الأبعاد التي تؤثر في تفشي هذه الظاهرة، فإن لشبكات التواصل الاجتماعي أثراً سلبياً كبيراً فيها، كما تؤكد بيكيتي - بيزو. فمنذ عام 2017 زادت حوادث العنف المدرسي بنسبةٍ تصل إلى 42 في المئة، وهي النسبة التي تغطي الحوادث، التي تم فيها تقديم شكاوى فحسب، الأمر الذي يعني أن النسبة الحقيقية أكثر ارتفاعاً.
ومع ضعف المعالجات الجذرية لهذه المشكلة، تعترف السلطات التعليمية الفرنسية بأن الشعور بخيبة الأمل والمرارة والإرهاق تضرب معنويات العاملين في هذا المجال، وتخفض معدّلات الإقبال على هذا النوع من العمل.
ومع أن السياسات العامة، التي تهدف إلى إصلاح التعليم في البلاد متواصلة ونشطة، إلا أن التحليل للمعطيات والأرقام الرسمية، وربطها بمجمل القضايا المتصلة بها، بصورة أو بأخرى، يُظهران غياباً واضحاً للتناغم في البيئة المدرسية. وهذا الغياب ينسحب على الكادر التعليمي، كما على الطلاب وعائلاتهم، في الفضاء الذي يجتمعون فيه معاً. وربما يمكن إعادة ذلك إلى تراجعٍ في مستوى التناغم الاجتماعي في فرنسا، بصورةٍ عامة، تعززه قضايا غير مدرسية، مثل الهجرة والصعوبات الاقتصادية، والحملات السياسية التي تؤثر في الأُسر، وتنعكس على الأطفال والأولاد في سلوكهم المدرسي، وفي بيئة المدرسة بصورةٍ أكثر شمولاً.
ومن هذه العلامات، التي تعكس تدهور بيئة التعليم، قفزةٌ كبيرة حققتها طلبات الوساطة المتعلقة بالعمل في هذا القطاع، بنسبة 78 في المئة خلال خمسة أعوام فقط. وهذه النسبة تحكي ظروف العاملين فيما بينهم، ومع الإدارات التعليمية، وهي ناشئة من الصعوبات التي يواجهونها داخل المؤسسة من الاتجاهات جميعها. ثم إن الطلبات من الطلاب وأولياء أمورهم ارتفعت خلال الأعوام الخمس نفسها، بنسبة تفوق 40 في المئة، الأمر الذي يؤكد الاتجاه نفسه عند العاملين، ويعطي صدقيةً إضافية للأرقام المتعلقة بالسلوك العنيف في المدارس.
تسعى السلطات، في سبيل معالجة ذلك، لتحقيق شكل من أشكال التحالف التعليمي الذي يجمع القوى صاحبة المصلحة في هذا القطاع، وهي تفترض أن هؤلاء يشملون الإدارة والمعلمين والعاملين وأولياء الأمر، وهي تضع في أولى أولوياتها "استعادة الثقة بالتعليم"، بحيث لا تثق العائلات بموظفي القطاع. وبالتالي، فإن ذلك يؤثر في الهوامش التي يتحرك فيها المعلمون، ويحدّ حريّتهم في ممارسة عملهم.
هذا الشعور بالتشكيك في هؤلاء يؤدي إلى ضعفهم في مواجهة المشكلة المتفاقمة التي تتعلق بالعنف السلوكي. وتؤكد الإدارة المسؤولة عن الوساطة التعليمية أن الموضوعات، التي تضع المعلمين تحت ضغوطٍ في هذا السياق، هي الحياة الجنسية والمواطنة ووسائل الإعلام، ولاسيما الجديد منها. وهو ما يتطلب معالجات شاملة، تبدأ بالمراحل الأولى لتكوين الكادر التربوي في هذا السياق.
وعلى الرغم من ذلك، فإن النجاح غر مضمون نظراً إلى ارتباط هذه المشكلات بمؤثراتٍ اجتماعيةٍ أكثر عمقاً، لا تبدأ حكماً من المدرسة، بل إنها مسألة تتجاوز ذلك إلى السياسات العامة، في قضايا لا علاقة مباشرة لها بالتعليم.