البيوت الدمشقية القديمة.. إرث الأجداد وقبلة السائحين

لا يزال البيت الدمشقي القديم حتى الآن واحداً من أهم التحف المعمارية الأصيلة التي أعطت المدينة تفرداً عمرانياً تميز بدقة بنائه وجماله وبغنى لوحاته.

  • البيوت الدمشقية القديمة.. إرث الأجداد وقبلة السائحين
    البيوت الدمشقية القديمة.. إرث الأجداد وقبلة السائحين

خلّدت مدينة دمشق القديمة إرثاً حضارياً وتاريخياً وإنسانياً هاماً جعلت منها صورة جمالية لعالم ساحر بمواصفات فريدة تدفع الزائر للإعجاب بالحجر الذي كوّن معالمها، وإلى التعلق بتفاصيله الممزوجة بالدفء والحياة التي رسمت تفاصيل من تاريخها العريق في حناياه.

لا يزال البيت الدمشقي القديم حتى الآن واحداً من أهم التحف المعمارية الأصيلة التي أعطت المدينة تفرداً عمرانياً تميز بدقة بنائه وجماله وبغنى لوحاته، فساكنو دمشق هم وحدهم من يعلم معنى قدسية ياسمينها ونارنجها وبركة الحياة فيها، أما المطر فيها فله رائحة مختلفة عن أي مكان آخر لأنه يبوح بأسرار الأرض ومن مرّ عليها عبر الزمن.

هي المدينة التي تحمل أعباءك وتساندك في أزقتها الهادئة مهما كنت مثقلاً بهموم الحياة، وهي تحفة تعبق بتراث معماري متقن لأدق التفاصيل، فتأخذ زائريها إلى عالم آخر ينسيه من حوله.

ومن الشعراء الذين تغنوا بانتمائهم لها، وكانوا مخلصين لعبقها، نزار قباني الشاعر الدمشقي، الذي تساءل:

هل تعرفون ماذا يعني أن يسكن الإنسان في قارورة عطر..
أنا الدمشقيُّ لو شرّحتمُ جسدي
لسالَ منهُ عناقيد وتفاحُ.. 

  • البيوت الدمشقية القديمة.. إرث الأجداد وقبلة السائحين
    صورة قديمة تعود لباحة بيت دمشقي

مدينة تبوح بتفاصيل الدفء والسكينة

من اعتاد العيش في البيوت العربية لا يستطيع استبدالها أو التأقلم في أي مكان آخر، لأن الهدوء والسكينة الذين يطغيان على هذا المكان بالإضافة إلى الفسحة السماوية المفتوحة تجعلك قريباً من السماء في كل لحظة.

يعود تاريخ البيت الدمشقي إلى القرن السابع عشر، واستمر بناؤه على هذا النمط حتى دخلت دمشق في العصر الحديث، وبدأت تتأثر نهضتها العمرانية بالنمط الغربي بعد منتصف القرن التاسع عشر. وانفرد الفن المعماري في البيوت الدمشقية بأسلوب هندسي بسيط، وتكوين دقيق.

يقول محمود درويش: في دمشقَ، يواصل فعلُ المُضارع أَشغالهُ الأموية/ نمشي إلى غَدِنا واثِقِينَ من الشمس في أَمسنا/ نحن والأبديَّة/ سكانُ هذا البلد! 
 
الميادين نت زار إحدى البيوت الدمشقية القديمة، وتحدث إلى أحد قاطنيها، وهو رياض نظام، الذي قال: "خلقت وترعرت في هذا المنزل منذ عام 1968، وأصبح كل تفصيل من تفاصيله يعني لي الكثير، خصوصية العيش والاستقلالية، لأن السكن لا يتداخل مع الجيران أو غيرها، ومعظم البيوت العربية الموجودة في دمشق القديمة متشابهة في الهوية الدمشقية من الخارج، وبنيت بهذا الشكل لعدم التفرقة بين الطبقات ووحدة حال الناس، لكن تختلف من الداخل في المساحة وتعدد مرافقها وفخامة تزيينها ونقش أسقفها بحسب تصنيف المنزل وأساسيات عناصر تكوينه".

  • البيوت الدمشقية القديمة.. إرث الأجداد وقبلة السائحين
    بحرة في بيت دمشقي مغطاة بالياسمين 

وأضاف: "تبقى الخصوصية لكل منزل من جانب السكان الموجودين فيه، وأسماء العائلات التي حافظت على هذا الإرث الجميل ليساهموا في استمرارية الاسم، فعندما يبقى على النموذج الأصلي الذي بني عليه يحافظ على عراقته، فبعض المنازل الدمشقية تتقسم من قبل عائلاتها بسبب الميراث وهنا تتغير ملامحها ومساحتها ويختلف تصنيفها".

نظام لفت إلى أنه "يطرق بابنا يومياً العشرات من الضيوف والوفود السياحية بالإضافة إلى جمعيات المعماريين التي تزورنا بشكل دوري، نستقبلهم برحابة صدر لأن طبيعة سكان أهالي مدينة دمشق يحبون الضيف، ونحن لا نصد أي ضيف يقصدنا، والمعروف عند أهالي مدينة دمشق أنّ الضيف ضيف الله"، بحسب تعبيره.

ما زال الدمشقيون يحافظون على اللقاء الأسبوعي مع أسرهم في منزل العائلة الأساسي بحسب رامز مكنا (38 عاماً)، فيقول: "بالرغم من أن العديد من البيوت الدمشقية تحولت إلى مطاعم وفنادق لجذب السياح ولفت انتباههم أو استثمارها كاستوديوهات خارجية لتصوير الأعمال الدرامية، لكن نحن لم نستطع الاستغناء عن بيت العائلة، فهو المكان الذي يعيد لنا ذكرياتنا مع والديّ اللذين رحلا، ويتيح لنا الاجتماع وممارسة طقوس التسلية والشواء واستمرار التواصل مع جميع أبناء العائلة، لأن المساحة تستوعب الكبار والأطفال خلافاً عن المنزل الحديث الذي أعيش به".

ويضيف: "عندما أسمع صوت مياه البركة، وأرى البهو أمام ناظري، وأشم رائحة الياسمين أنظر إلى السماء بشكل لا إرادي وهذه الرؤية تشرح صدري".

التقسيم المعماري للبيوت الدمشقية

يتألف البيت العربي النموذجي من طابقين، الطابق الأول وهو "أرض ديار" مفتوحة يتوزع فيها شجر النارنج والياسمين التي تعتبر شجرة أساسية في البيت الدمشقي والتي لقبت مدينة دمشق باسمها، بالإضافة إلى البحرة في المنتصف، وفي القسم الجنوبي يكون الليوان وهو مكان للجلوس الذي صمم في القسم الجنوبي كي يبقى رطباً في أيام حر الصيف، بالإضافة إلى الغرف في الطابق الأول التي تستخدم للضيوف ولأهل المنزل كسكن يومي.

  • البيوت الدمشقية القديمة.. إرث الأجداد وقبلة السائحين
    "الليوان" في البيوت الدمشقية القديمة

أما الطابق الثاني يأخد طابع الفصل الشتوي، لأنه يبنى بمواد من اللبن أي الطين والخشب، وهذه المواد تعد بمثابة التكييف الطبيعي لأنها تحمي من البرودة في الشتاء والحرارة في الصيف.

ويتفرع البيت الدمشقي القديم إلى ثلاثة أقسام رئيسة: هي "السملك" وهو جناح الاستقبال الخارجي مخصص لاستقبال الضيوف والرجال حيث يقع في الجزء المباشر والقريب من مدخل البيت، أما "الحرملك" فهو مخصص للمعيشة والأسرة وخاص بالنساء، و"الخدملك" هو الجناح المخصص للخدم وتحتوي كل الأجنحة على فسحات داخلية تحيط به الغرف والقاعات بالإضافة إلى الباحة الرئيسة التي تمثل العنصر الأساسي في التصميم وتسمى "أرض ديار".

المهندسة بشرى رامي قالت للميادين نت: "المنزل الدمشقي جميل جداً، يمتاز بخضرته وأشجاره الشامية من نارنج وياسمين وقاعات الاستقبال والديوان.. تفاصيل أثرية ساحرة من العمارة في تصميم النوافذ و تقسيم الحجر، حتى الدرج والزخارف المتواجدة تشد الانتباه وفي كل زاوية يوجد لوحة مختلفة ومنفردة في فنها، ومن الواضح أنه مكان استطاع أن يلهم المبدعين والشعراء، كالشاعر نزار قباني الذي كان له قصيدة خاصة عن الياسمين، وقصيدة ذكر فيها شجر النارنج، فاستلهم بعض قصائده من هذه البيئة الدمشقية".  

فيما رأت ولاء بكداش أن البيت الدمشقي القديم "مكان جميل وساحر يعطي راحة للنفس وبهجة للروح، كل زاوية فيها هندسة وألوان بطريقة مختلفة إنها مدينة زاخرة بالمعالم الأثرية".

يشار إلى أنّ أول بيت أموي شيّد في دمشق كان للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان، وقدر عدد البيوت الدمشقية القديمة بما يقارب سبعة عشر ألف منزل، وتحتفظ المدينة القديمة بنحو نصف العدد المذكور من تلك المنازل، بعضها ما زال مأهولاً كمنزل للسكن والبعض الآخر تم استثماره تجارياً وسياحياً.