اغتصاب وتجنيد إجباري للفتيات.. عبودية النساء في الرقّة السورية
تشهد الرقة منذ سنوات حالة من الانفلات الأمني، نتيجة الممارسات المستمرة من قبل "قوات سوريا الديمقراطية" ضد المدنيين، حيث توالت الجرائم والانتهاكات الجنسية بحق الفتيات، سواء داخل المدينة أو ضمن معسكرات "التجنيد الإجباري".
قبل أسابيع، أقدمت مجموعة تابعة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" على اختطاف فتاة من داخل مدينة الرقة شمال شرق سوريا، بحجة تعاملها مع تنظيم "داعش" الإرهابي، إلا أن هذه العملية كانت غطاءً لجريمة اغتصاب جماعي سترتكبها المجموعة بحق الفتاة.
المجموعة اعتدت على والد الفتاة الذي حاول منعهم من اعتقال ابنته، لكن محاولاته لم تنفع أمام القوة العسكرية التي استخدمها عناصر المجموعة، قبل اقتياد الفتاة إلى جهة مجهولة في ريف الرقة الشمالي، حيث أقدم قائد المجموعة المدعو "عبد الله الحيوان" على اغتصابها، بالتناوب مع أفراد مجموعته.
لم تكن هذه الحادثة الوحيدة التي ارتكبها عناصر "قوات سوريا الديمقراطية" بحق الفتيات في مدينة الرقة، بل سبقها عشرات الجرائم التي هزّت المدينة منذ سيطرة "قسد" عليها عام 2017.
تشهد الرقة منذ سنوات حالة من الانفلات الأمني، نتيجة الممارسات المستمرة من قبل "قوات سوريا الديمقراطية" ضد المدنيين، حيث توالت الجرائم والانتهاكات الجنسية بحق الفتيات، سواء داخل المدينة أو ضمن معسكرات "التجنيد الإجباري"، التي يتمّ إخضاع المدنيين فيها لدورات عسكرية من قبل "قسد".
تدمير البنية الاجتماعية
كانت الرقة أول محافظة تخرج عن سيطرة الدولة السورية في بداية الأزمة، عندما جعلها تنظيم "داعش" الإرهابي هدفاً لعملياته ثم عاصمة لإمارته المزعومة، قبل أن يشن التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية هجوماً دموياً على المنطقة، انتهى بانسحاب التنظيم من الرقة وسيطرة قوات سوريا الديمقراطية - "قسد" عليها.
خلال السنوات الماضية شهدت الرقة أقسى المعارك وأكثرها وحشية، حيث تعرّضت مساحات كبيرة منها للتدمير الكامل، وتحوّلت أحياؤها إلى مدن أشباح، لكن نتائج الحرب لم تقتصر على ذلك فقط، حيث كان للبُنية الاجتماعية في الرقة النصيب الأكبر من التدمير، نتيجة القوانين المتطرفة التي فرضها تنظيم "داعش" الإرهابي خلال فترة سيطرته، والممارسات اللاإنسانية التي ارتكبتها "قوات سوريا الديمقراطية" لاحقاً، وقد استهدف الطرفان المرأة بالدرجة الأولى.
سيطرة الجهل والأمية
مع خروج مؤسسات الدولة السورية في محافظة الرقة عن الخدمة، وتوقف العملية التعليمية أثناء سيطرة تنظيم "داعش" على المدينة، وجدنَ فتيات الرقة أنفسهن في ظل حكم يمنع تدريس المناهج التربوية الرسمية، كما منع "داعش" خروج الفتيات من منازلهن بقصد التعليم، واقتصر مفهوم الدراسة في تلك الفترة على الدورات الدينية والعسكرية ضمن مقرات التنظيم.
تلك الدورات كانت مهمتها تعليم الفتيات أصول الفكر المتطرف وأساليبه وأدواته، حيث سعى التنظيم إلى تجريد المرأة السورية من جميع حقوقها على صعيد التعليم والطبابة والعمل والحرية، وهدف إلى تجريدها أيضاً من مكانتها في المجتمع.
هذا الأمر لم يختلف كثيراً بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عام 2017 على الرقة، حيث منعت "قسد" تدريس مناهج الحكومة السورية، وعمدت إلى تدريس مناهج تسوّق لأيدولوجيتها الفكرية والعقائدية المرتبطة بتوجهها الانفصالي.
ذلك الأمر دفع الأهالي إلى منع الفتيات من الالتحاق بمدارس "قسد"، لأنها في الغالب ستكون بوابة لسحب الفتيات إلى المقرات العسكرية ضمن ما يُعرف بـ "التجنيد الإجباري"، الذي عادةً ما يكون في المعسكرات المغلقة لقسد على الحدود السورية - العراقية.
أمام هذا الواقع ابتعدت شريحة واسعة من الفتيات عن مقاعد الدراسة، وانتشرت الأمية في أنحاء الرقة، من دون أن تحرّك "قوات سوريا الديمقراطية" ساكناً، بل على العكس تماماً، حيث وجدت في ذلك فرصة لزيادة القمع والاضطهاد بحق الأهالي، وإجبارهم على دفع أبنائهم إلى جبهات القتال لحماية المناطق التي تسيطر عليها "قسد".
عايدة العلي (52 عاماً) من أهالي الرقة، تروي للميادين نت كيف حرمت بناتها الثلاثة من حق التعلم ضمن مدارس "قسد" في المدينة خوفاً عليهن من الفكر الذي تروّج له "القوات" ضمن مراكزها التعليمية، والذي يكون في الغالب مقدمة لإجبار الفتيات على الالتحاق بدورات عسكرية، ثم زجّهن على جبهات القتال، كما تحدثت العلي عن تمكنها من إرسال ابنتها الرابعة إلى دير الزور لتكمل تعليمها في مدارس الدولة السورية، كي تحقق حلمها بأن تصبح محامية في المستقبل.
تقول العلي: "منذ العام 2013 لم يتغير شيء في الرقة؛ تنظيمات مُسلّحة تأتي وتنظيمات متطرفة تذهب، وكل منها يسعى إلى ترسيخ وجوده عبر فرض أسلوبه ونظامه وأدواته في مختلف مفاصل الحياة، من دون الاكتراث بالنساء والأطفال الذين كانوا ضحايا للتجهيل المتعمد، ما أدى إلى انتشار التخلف والأمية في عموم الرقة".
عبودية من نوع آخر
منذ العام 2013 أصبحت النساء في الرقة رهائن لواقع يحصر وجودهن في منازلهن، ويمنعهن من العمل أو الدراسة أو ممارسة أيّ نشاط آخر، لتكون المرأة عبارة عن نصف مجتمع معطّل، وظيفته تلبية رغبات الرجل وخدمة المنزل في أحسن الأحوال.
أم أيمن -اسم مستعار- هي أم لطفلين من مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي، تقول للميادين نت: "بعد سيطرة التنظيم على الرقة بدأ بتحويل النساء إلى سبايا، وكوني من عائلة فقيرة ووالدي قُتِل أثناء هجوم "داعش" على المدينة تم إجباري على الزواج بأحد عناصر التنظيم، وأثناء حملي قُتِل زوجي في المعارك، قبل أن يجبرني قادة التنظيم على الزواج من عنصرٍ ثانٍ، وبعد إنجابي ولداً منه هرب من المدينة مع عناصر التنظيم إبان دخول "قسد" إلى الرقة عام 2017.
وتشير أم أيمن إلى أنها تعاني اليوم بشكلٍ كبير لتأمين مصروف عائلتها، خاصّة أن عمل المرأة شبه معدوم في المدينة، وأطفالها الصغار بحاجة إلى مصروف كبير، لذلك تلجأ إلى العمل في منازل بعض الميسورين في التنظيف لكي تؤمن لقمة عيش أبنائها، لكن تلك ليست الأزمة الوحيدة التي تواجه "أم أيمن"، حيث تمرّ منذ سنوات بمشكلة عصيّة على الحل، وهي عدم قدرتها على تسجيل أطفالها في السجلات المدنية السورية نتيجة لوضع آبائهم أمنياً، والأطفال لا يملكون أيّ وثيقة تثبت هويتهم، وهذا الأمر ينطبق على الكثير من النساء اللواتي تزوجن بمقاتلين من التنظيم، حيث أصبح مئات الأطفال في خانة "مجهولي القيد".
المئات من الأطفال والفتيات في الرقة لم يجدوا أنفسهم خارج قوائم السجلات المدنية في سوريا فقط، بل واجهوا رفض المجتمع لهم، ونبذهم في كثير من الأحيان، وهو ما جعلهم عرضة للغوص في مستنقع الجريمة وتجارة المخدرات؛ تلك التجارة التي بدأت تنتشر بشكل كبير في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية خلال السنوات القليلة الماضية، وبدأت تستقطب العشرات من الفتيات على وجه الخصوص، بإشراف مباشر من عناصر "قسد"، الذين يستخدمون المدنيين لتنفيذ أهدافهم العسكرية والاقتصادية المشبوهة.
استغلت "قوات سوريا الديمقراطية" نبذ المجتمع للفتيات من عوائل "داعش"، من أجل جذبهن لتنمية تجارة المخدرات في مناطق سيطرتها، مقابل حصولهن على عوائد مادية تؤمن لهن لقمة العيش، لكن انتشار تعاطي وتجارة المخدرات بين الفتيات في الرقة كان مقدمة لانتشار ظواهر أكثر خطورة، ولعلّ أبرزها "الدعارة".
قصص كثيرة تنتشر من داخل الرقة عن عشرات الفتيات اللواتي اضطررن للعمل في الدعارة في ظل الواقع المعيشي المزري، والأوضاع الأمنية المتردية، وفرض "قسد" التجنيد الإجباري على الفتيات، إضافة إلى التسهيلات المقدمة من "قوات سوريا الديمقراطية" لمثل هذه الأنشطة داخل الرقة، حيث يقول البعض إن المدينة انتقلت من مظاهر التشدد الديني إلى التحرر المطلق.
وتؤكد مصادر من المنطقة الشرقية في سوريا للميادين نت أن الرقة هي المدينة الوحيدة ضمن المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" التي سُمِحَ فيها بفتح نوادٍ ليلية، في حين تم إغلاق جميع النوادي الليلية في مناطق الحسكة والقامشلي منذ العام 2022، من دون تبرير واضح من "قسد" حول سبب هذا التباين في تطبيق القرارات.
كما تؤكد مراكز حقوقية أنّ "قوات سوريا الديموقراطية" ارتكبت العديد من الانتهاكات بحق النساء في مناطق سيطرتها، حيث تعرّضت عشرات النساء العاملات في أنشطة ومراكز دعم المرأة للترهيب من قبل "قسد"، إلى جانب قتل نحو 165 امرأة، واعتقال نحو 522 امرأة خلال السنوات الثلاث الماضية، كما تمّ توثيق العديد من ممارسات التمييز ضد المرأة العربية على خلفية عرقية، تمثّلت بحرمانها من فرص متساوية للعمل، وتقييد حرية تنقلها.
إضافة إلى ذلك، شكّل "التجنيد الإجباري" الذي تفرضه "قسد" على الشباب والفتيات في مناطق سيطرتها مصدر قلق كبير للأهالي، حيث تعمد "القوات" إلى إجبار جميع من يبلغ الثامنة عشرة من عمره على الالتحاق بمعسكرات تدريبية مغلقة وسريّة، تمهيداً لنقلهم إلى جبهات القتال في وقتٍ لاحق.
هذه المعسكرات لم تكن حكراً على الشباب فقط، حيث أجبرت "قسد" مئات الفتيات على الالتحاق بدوراتها العسكرية، والتي غالباً ما تشهد عمليات تحرش جنسي بالفتيات العاجزات عن المواجهة أو تقديم شكوى أو حتى إخبار عائلاتهن، لأنهن سواجهن مصيراً مجهولاً وربما يكون القتل هو الخيار الوحيد بانتظارهن خوفاً من العار في مجتمع يحكمه النظام العشائري.
الواقع الذي تحاول "قسد" فرضه اليوم في الرقة وبعض مناطق الجزيرة السورية يصطدم بالنظام العشائري، الذي يمنع الأفكار المتطرفة التي تغذّيها "قسد"، لذلك بدأت تخرج أصوات عشائرية رافضة لتلك الأفكار، وتصرّ على إعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل العام 2011، لذلك، اندلعت خلال الأشهر الماضية مواجهات عسكرية عديدة، وفي أكثر من مدينة وبلدة بين العشائر و"قسد"، وسط توقعات بأن تستمر هذه المواجهات في الفترة المقبلة، إذا لم تتراجع "قسد" عن سياساتها بحق المدنيين عموماً والنساء خصوصاً.
اليوم، يحتاج تجاوز الواقع الأسود الذي تعيشه النساء في الرقة السورية إلى حلول جذرية سريعة، تبدأ بإنهاء القوانين التمييزية التي تفرضها "قوات سوريا الديمقراطية"، وإعادة مؤسسات الدولة خاصّة التعليمية منها إلى المدينة، مع قيام المنظمات الإنسانية بإعداد حملات توعية واسعة لتعزيز مكانة المرأة وحضورها، وإيجاد الحلول لدمج الأطفال "مجهولي القيد" بأقرانهم في المجتمع، وهذا يتطلب جهوداً مشتركة على المستوى الوطني، وتنسيقاً عالياً مع المنظمات الأممية المعنية بحقوق النساء والأطفال.