أولاد نايل في الجزائر.. جند الأمير عبد القادر وأكبر قبائل شمال أفريقيا
من حدود تونس شرقاً إلى وهران غرباً، ومن جبال الحُضْنة ومنخفضات السهوب شمالاً إلى بوابة الصحراء الجزائرية جنوباً يمتد "سيدي نايل"، أحد أكبر العروش (القبائل) في أفريقيا.
تُميّزهم خيامهم بلونَيْها الأسود والأحمر أو "البِيت الحْمرا"، التي لا تزال تُنصب رغم التطور العمراني، وخيولُهم الجامحة، وفصاحة شِعرهم الملحون، على أنغام القصبة (الناي) والغيطة (آلة شبيهة بالناي)، وإيقاع "رقصة الحرب" على وقع طلقات البارود، والراقصون بلباسهم التقليدي وحركاتهم التي لا يفهم رموزها ومعانيها إلا "أولاد نايل".
أكبر عرش عربي في أفريقيا
من حدود تونس شرقاً إلى وهران غرباً، ومن جبال الحُضْنة ومنخفضات السهوب شمالاً إلى بوابة الصحراء الجزائرية جنوباً يمتد "سيدي نايل"، أحد أكبر العروش (القبائل) في أفريقيا، والأكبر على الإطلاق في شمالها، وفي الجزائر تحديداً، بأكثر من 15 مليون نسمة، يتخذون من عاصمة الحماديين الأولى في ولاية المْسِيلَة إضافة إلى ولايات الجْلْفَة ومْسْعْدْ وبوسْعادة نقطة ارتكاز رئيسة لهم.
سيدي نايل عرش جزائري من نسل الأشراف
إذا سألت أولاد نايل عن أصلهم، أجابوك بمقولة لأحد أعلامهم (عبد الرحمن بن الطاهر): "أصل جدنا من المدينة المنورة، مهبط الوحي ومسكن الرسول صلى الله عليه وسلم".
فأصولهم تعود إلى محمد بن عبد الله بن محمد الخرشفي، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسن، سبط النبي محمد، من ذرية الإمام علي وزوجته السيدة فاطمة. لقّب بـ"نايل" لأن معلمه باركه بقوله "لقد نلت الخير كله، فأنت نائل".
يقول الدكتور محمد قرّود، أستاذ التاريخ، بجامعة زيان عاشور، في الجلفة (جنوب العاصمة الجزائرية)، في تصريح لـلميادين نت إن هذا النسب صحيح، باتفاق جميع التراجم والسِيَر العربية والغربية.
هاجر أجداد نايل من المشرق العربي إلى المغرب الكبير، زمن الخلافة العباسية، في عهد الجعفر المنصور.
وولد في نهاية القرن 15 أو بداية القرن 16 في فجيج بالمغرب الأقصى، ثمّ انتقل إلى المغرب الأوسط (الجزائر)، حيث درس الفقه المالكي وأصول اللغة العربية في زاوية الشيخ بن أحمد الراشدي الملياني.
عاش متنقّلاً بين العاصمة والشرق والغرب، ثم استقرّ على أبواب الصحراء في "وادي الشعير" بوسعادة حالياً، وتوفي في "عين الحجل" بالمسيلة حيث يوجد ضريحه اليوم. ومنها انتشر نسله من 5 أبناء (يحي، مليك، عيسى، زكريا، فرج)، مؤسساً أكبر عرش في المنطقة المغاربية.
"البيت الحمرا" أكثر من مجرّد خيمة
أتى التمدّن على كثير من مظاهر البداوة في المنطقة، فبات نادراً رؤية "النزلة" أو "السماط" (وهي تجمع من 10 إلى 12 خيمة)، لكن الخيمة النايلية ما زالت صامدة ثابتة تقاوم رياح الحداثة، ترافق البدو في ترحالهم شتاء نحو الجنوب، وصيفاً في اتجاه التلّ (الشمال)، لتحميهم وماشيتهم من ظروف الطبيعة القاسية، بينما يحتفظ بها سكان المدينة لمناسباتهم، فينصبونها في شهر رمضان، والأعياد، والأعراس، والولائم.
تأخذ "البيت الحمرا" مكانة هامّة لدى النايليين، ليست مجرّد خيمة، بل موروثاً يحفظ تراث القبيلة وهويتها العريقة، ففي داخلها تجد الرجل بلباسه العربي الأصيل، معلّقاً سلاحه في ركيزة البيت، والمرأة في الزاوية تغزل الصوف وتنسج "البرنوس"، والجدّة تهزّ "القربة" لتحضير اللبن، والفتيان يحفظون على الألواح الآيات، والفتيات يصنعن "السّخاب" (قلادة من العنبر)، و"القوّال" (الشاعر) يلقي شعراً ومدائح على ألحان القصاب (عازف الناي).
أهم قطعة في جهاز العروس
تُعدّ الخيمة قطعة أساسية في جهاز العروس. من أجل الحفاظ على حرفة صناعتها، تقوم فتيحة النعيمي، رئيسة جمعية الكرامة النسوية، وعضو الجمعية العامة للحرفيين في الصناعة التقليدية، بدورات تكوينية لفائدة الفتيات لتعليمهن حرفة الغزل والنسيج.
البداية تكون بتنظيف صوف الغنم وشعر الماعز، وتجفيفهما، ثمّ دباغة الصوف طبيعياً باللونين الأحمر والأسود، بعدها يتمّ دمج الصوف والشعر معاً بآلة تسمّى "السلسال"، ثم "القرداش"، ليصبح الخليط نقياً وقوياً، يُغزل بعدها بمغزل يدوي، ثمّ تأتي مرحلة المْنْسْج. وينسج على الأرض بطول 5 إلى 10 أمتار، وعرض 80 سم إلى متر واحد.
وتسمى هذه القطعة "الفليج"، تنسج منها عدة قطع، ثم تخاط مع بعضها بـ"المسلّة" لتصبح قطعة واحدة، هي منسوج الخيمة.
تكتمل بنصب الرجال للركائز (الأعمدة) ورفع "القنطاس" (السقف)، وربط المنسوج بـ"الأوتاد"، وتقسيم البيت إلى غرف بـ"الحيال" (نسيج وبري يحول بين الغرف)، ونصب "العشّة" (خيمة صغيرة) للضيوف وللكنة (العروس الجديدة)، وأخيراً بناء "الرواق" (المطبخ) بالأغصان وجذوع النخيل أمام باب الخيمة.
القشّابية والبرنوس.. لباس المقاومة والهمّة
لا تحلو الجلسة في الخيمة من دون ثوب نايلي أصيل. القشابية (واسمها على الأرجح عربي يعني الثوب القشيب أي الجديد والنظيف)، هي اللباس الأشهر عند أولاد نايل، وتعد من أغلى الأعمال التقليدية الرجالية في العالم العربي، خاصة تلك المصنوعة من وبر "المَهْري"، وهو الجمل الصغير سناً، ويكون لونها بنياً فاتحاً، ووزنها خفيفاً لا يتجاوز الكيلوغرام الواحد.
تصنع القشابية كذلك من صوف الغنم، وتكون أقل سعراً من القشابية الوبرية، أغمق لوناً، وأثقل وزناً.
"رغم توفر كل أصناف اللباس المعاصر المحلي والمستورد، لا ينافس القشابية إلا البرنوس المصنوع من خامة الوبر أو الصوف نفسها، بلونه البني أو الأبيض الناصع"، ذلك ما تؤكّده الباحثة في التراث النايلي فريحة بلي للميادين نت.
يشترك البرنوس مع القشابية في طريقة التصنيع، المشابهة لنسج الخيمة، لكنهما يختلفان شكلاً، فيأتي مفتوحاً أشبه بنصف دائرة مع غطاء رأس أو من دونه، يلفّ على الجسم، أو يوضع على الأكتاف، بينما تفصّل القشابية في المنسج على شكل جبّة رجالية بأكمام طويلة، وفتحة رقبة متوسطة، وغطاء للرأس.
في أولاد نايل حيث تكتمل "همّة" سيدة البيت بإتقان نسج ثوب زوجها، لا تعدّ القشّابية والبرنوس مجرّد لباس مقاوم لبرد المنطقة القارس، وعواصفها الرملية، بل هو أكثر من ذلك، فهو رمز من رموز الفخر والوقار بايع به النوايل الأمير عبد القادر، وارتداه المجاهدون وأخفوا تحته السلاح والقنابل اليدوية، في أثناء غاراتهم على الاستعمار الفرنسي، لذلك يحتلّ مكانة أقرب إلى القداسة عند أبناء هذا العرش.
وفي الأجواء الدافئة، يرتدي الرجل "القندورة العربي"، وهي جبّة عريضة مصنوعة من القطن ومطرّزة في الرقبة والأكمام.
أو يلبس "السروال العربي" مع "القمجّة العربي"، وهو طقم من سروال واسع وقميص قطني باللون نفسه، يكون عادة أبيض، أو رمادياً، أو بنّياً مع تطريز خفيف.
ويرافق هذا اللباس "النعال" وهو حذاء من الجلد الطبيعي، مطرّز بخيوط فضية أو ذهبية، تشتهر منطقة نايل بصناعته.
وتكتمل الطلّة بوضع "الشاش" الأبيض على الرأس، ولفّه بـ"اللّحفاية"، وهي قماش طوله من 3 إلى 5 أمتار، يأخذ شكل العمامة.
النايليات نساء على رأسهن ريشة!
إذا سُئلت جزائرية هل على رأسك ريشة؟ فإن المقصود: هل أنت من بنات نايل؟! في زمن مضى كانت النايليات يضعن ريشة طاووس ملوّنة أو ريش نعام أسود وأبيض زينة فوق رؤوسهن.
يُعدّ هذا التقليد بحسب الباحثة فريحة "علامة على الرِّفعة والمقام العالي والشموخ والفخر".
وتضيف: "يتجلّى ذلك في رسومات الفنان المستشرق الفرنسي إيتيان نصر الدين ديني، التي تزيد على 500 لوحة، توثّق الحياة الاجتماعية في سيدي نايل، بين القرنين التاسع عشر والعشرين".
يتكون لباس المرأة النايلية الأصلي من عدة قطع: الجُبّة، الملحفة، الطاسة (قبّعة)، الخمري والزمالة (غطاء رأس)، الحواط والبثرور (حزام).
أبرزها الملحفة وهي قماش أبيض، يوضع على ظهر المرأة ويثبّت على طرفي الكتفين من الأمام. وغطاء الرأس "الزمالة" وحلي "الناصية" أو "الجبين"، وهي عقد من فضّة أو ذهب، تلبسه المرأة على جبينها.
كما لا تستغني المرأة النايلية عن الخلخال و"الحدايد" (أساور عريضة)، و"المحزمة" (حزام من الفضة أو الذهب)، و"السخاب" (عقد طويل يصنع من القمح والعنبر والحنّة، ذو رائحة زكيّة).
رقصة "الحرب"،"المقاتل" و"الحمامة"
لا تكتمل رقصة "المقاتل" أو "الفارس" النايلي من دون سلاح وخيل، فإذا قام الرجل للرقص ارتدى لباس الخيّالة، وأمسك لجام حصانه بيساره، وحمل بندقيته بيمينه، يرفعها في السماء وينزلها، مستعرضاً مهارته وتحكّمه في السلاح، وفي ترويض الخيل الجامحة، محاكياً أجداده المقاتلين خلال الاستعمار الفرنسي، الذين كانوا في طليعة جيش الأمير عبد القادر، وقال فيهم "لم أرَ فرساناً أجود من أولاد نايل، فجيادهم مستعدّة دائماً للقتال".
تشتهر المنطقة أيضاً بـ"رقصة الحرب" أو "الرقصة الحوارية"، وقد ظهرت بحسب أستاذ التاريخ محمد قرّود في فترة الاحتلال، حيث "كان المجاهدون والأهالي يتبادلون رسائل مشفرة من خلال الرقص في الأعراس، فيوصلون معلومات عن عدو، أو تمشيط، أو عملية عسكرية، عبر حركات الرجلين واليدين والأصابع وتعابير الوجه، من دون إثارة شكوك الجنود الفرنسيين".
وإلى جانبها، نجد "رقصة الحمامة" وهي ثنائية بين المرأة وزوجها، تُشعر المتفرّج وكأنه يعيش قصّة حب لطيفة.
يضرب الرجل الأرض برجليه على إيقاع "البندير" (الدفّ)، وأنغام "القصبة"، وصيحات "القوّال"، وهو يحمل بندقية تعبيراً عن اعتزازه بقوته وأصله.
فترد عليه زوجته مثل حمامة بلباسها الأبيض وحركاتها الرشيقة ، أنها سيدة منزل، تتقن العجن والغزل والنسيج، وتربية الأولاد.
وللعيون ما تقوله في هذه اللوحة، فتعبّر أحياناً بنظرات الحزن وألم الفراق، وأحياناً بالفرح والاشتياق.. فيجيبها، الفارس بالضرب على صدره تعبيراً عن قوة حبّه وإعجابه بها، كرجل نايلي أصيل محافظ على هويته.