"أمسكت بيد القاتل لأريه جثّة أمّي فخاف".. 9 أعوام على مجازر اللاذقية

تسعُ سنواتٍ، مرّت على الهجوم الإرهابي الذي استهدف أكثر من 14 قرية في ريف اللاذقية الشمالي، خطفت فيهم جبهة النصرة سوريين وقتلت ونكلت بالأهالي وباعت فيها جبهة النصرة مخطوفي قرى ريف اللاذقية الشمالي، للجيش الحر.

  • "أمسكت بيد القاتل لأريه جثّة أمّي فخاف".. 9 أعوام على مجازر اللاذقية (رويترز/أرشيف)

تسعُ سنواتٍ، مرّت على الهجوم الإرهابي الذي استهدف أكثر من 14 قرية في ريف اللاذقية الشمالي، مُخلفاً أكثر من 200 شهيد من السكان، ومتسبباً باختطاف نحو 150 مدنياً، توفي منهم ثلاث سيدات مسناتٍ في الأسر، وطفل من امرأة كانت حاملاً به قبل اختطافها.

شهد هذا الملف عدة عمليات تبادل، أدت إلى الإفراج عن 49 امرأة من المختطفات مع أطفالهن على دفعات، لكن عملية التبادل الأخيرة كانت عام 2017، وخرجت بموجبها 54 امرأة مع عدد من الأطفال، بعد ثلاث سنوات ونصف من المفاوضات المرة.

وكأنه لا يكفي ما ذاقته هذه الأسر من ويل الإرهاب، وما عانته من التهميش الإعلامي، والتغييب عن المحافل الدولية بسبب "عدم جدوى هذا الملف في موازين السياسة"، فلا تزال عشرون أسرة تقريباً من ذوي المختطفين، متروكةً تغرقُ في حيرة الاحتمالات حول مصير أبنائها المجهول حتى هذه اللحظة.

تجاوزتُ ما لم يتجاوزه أحد!

تُنهي زهراء إبراهيم، الطالبة في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة تشرين، امتحاناتها الفصلية، تستريح قليلاً مع صديقتها في حديقة الكلية، تجوّل عينيها بين الأشجار التي تتمايل مع نسمات تخفف قليلاً من حر "آب الّلهاب"، ثم تلتقط بعض الصور للمكان بهاتفها المحمول، مخاطبةً صديقتها: "أترين كل هذا الجمال؟ قريتي أجمل وما من مكان يشبهها".

هكذا تصف ابنة "بلوطة"، القرية التي ولدت في أعلى تلتها، مع أنها لم تقضِ فيها سوى عشرة أعوام من مجموع عمرها، الذي لا يتجاوز تسعة عشر ربيعاً، وتقول لــ"لميادين نت": "كنا أسرة سعيدة، أبي وأمي وثلاثة أطفال أكبرهم أنا، نلعب ونراقب الحيوانات ونأكل من خيرات أرضنا، حتى أتى فجر الرابع من آب/أغسطس عام 2013، حين استيقظنا على صوت إطلاق رصاصٍ قريب ومخيف جداً، رافقه انقطاع للكهرباء، خرج أبي ليعاين ما حدث، وخبأتنا أمي في حضنها تحت المجلى، حتى حلّت الساعة السابعة صباحاً وسمعنا طرقاً على الباب".

تذكر زهراء كيف أبقتهم والدتها مختبئين في المطبخ، وخرجت كي تفتح الباب معتقدةً أنهم الجيران، لتفاجأ بشخصٍ مسلح يطلب منها أن تخرج أولادها، لكنها قابلته برفض شديد، فقال: "إذا دخلت ورأيت أحداً سأذبحهم أمام عينيك"، ما اضطر الأم إلى أن تخرجهم، مبقيةً إياهم خلف ظهرها. 

"ما ضل حدا كلّن ماتوا"، تغمض زهراء عينيها، وتشيح بوجهها وتتابع الحديث بصوت متهدج: "كانت هذه العبارة التي أجابت بها ابنة عمي، عن السؤال الذي عاجلتها به أمي، حين دخلت البيت تمشي مترنحة وجسمها مليء بالجروح، فقد ألقى المسلحون القنابل على بيتهم، واستشهد أفراد الأسرة السبعة، ثم تبع ابنة عمي جميع نساء وأطفال القرية، لقد أجبرهم المسلحون على التجمع في منزلنا".

تشبك الشّابة يديها، ضاغطةً على محاضراتها الجامعية بقوة، وتضيف: "أخرجوني مع الأطفال إلى الخارج، وتركوا النساء في منزلنا، ثم علا صوت طيران الجيش، فهرعوا بنا إلى الداخل، ابتعد الصوت فأخرجونا، وتكررت هذه العملية عدة مرات إلى أن أبقونا في الخارج، ودخل مسلحان ملثّمان إلى الداخل، سمعنا أصوات رصاص كثيف، لقد قتلوا جميع النساء، وبينهن أمي".

تُطلق الشابة التي ستدخل عامها العشرين قريباً العنان لدموعها وتتساءل: "كيف يمكن لطفلةٍ صغيرة أن تستوعب الرحيل مع أشخاص غرباء بعيداً من والدتها؟"، وتتابع: "لقد نقلونا معاً وجمعونا في مزار دينيّ، كنت بجسدي هناك لكن عيوني دائماً كانت تتطلع إلى البعيد، حيث منزلنا".

تضحك زهراء ضحكةً سريعة على سذاجتها الطفولية، التي جعلتها تفكر في فعل أي شيء لترى أمها مرة أخرى وبأي طريقة ممكنة، وتشرح: "قمت بجمع بعض الرصاصات الفارغة الكثيرة عن الأرض، وأعطيتها لأحد المسلحين: وقلت له: "عمو بدك دلك وين متخباية الماما؟"، فرافقني إلى المنزل، وما إن هممت بالدخول حتى صاح بي قائلاً: "لا" لكنني جريت إلى الداخل، ورأيت الجثامين مكوّماً بعضها فوق بعضها، لقد كانت آخر مرة أرى فيها أمي".

ثلاث سنوات ونصف، باعت فيها جبهة النصرة مخطوفي قرى ريف اللاذقية الشمالي، للجيش الحر ونقّلتهم بين سلمى وكنسبا وبداما، حارمةً إياهم أي رعاية صحية أو غذائية، وتقول زهراء: "عددنا كان بالمئات، أحياناً لم نرَ الشمس طوال شهرين متتاليين، ونستحم مرة في الشهر إذا أمكن، وأصبت أنا وسائر الأطفال بأمراض متعددة فملأ القمل رؤوسنا، وعانينا من التهاب الكبد والحمى وفقر الدم، الناجم عن نقص التغذية التي اقتصرت على الأرز والحساء والخبز العفن".

لا تجد زهراء الكلمة المناسبة كي تعبّر فيها عن شعورها حين قال لهم أحد المسلحين شتاء عام 2017 : "قوموا انضربوا.. رح تنقلعوا عند أهلكن"، بعد تنقّل مرير بين سجن حارم ومعبر باب الهوى، وتتابع: "بعد تحريري بشهر، فقدت أختي بحادث سيارة، وأعيش اليوم مع أبي وأخي الصغير في بيت مستأجر بمدينة اللاذقية، ونعتاش من راتب واحد فقط تقدمه لنا مؤسسة العرين الإنسانية".

الشابة التي لم تعد للعيش في قريتها مرة أخرى، بسبب صعوبة المواصلات، و"عدم توافر الظروف المناسبة للعيش هناك"، بحسب تعبيرها، عانت كثيراً من الناحيتين الدراسية والاجتماعية بعد تحريرها. وتشرح: "كنت خجولة جداً، وأنزعج بسبب أسئلة الناس، لكنني صرت أقول في نفسي لاحقاً، هؤلاء ليسوا أفضل مني فأنا تجاوزت ما لم يعشه ويتجاوزه أحد، فصببت كل جهدي على اللحاق بكل ما فاتني دراسياً، بمساعدة جمعية الصواري الخيرية، حتى استطعت التفوق في الشهادتين الإعدادية والثانوية والالتحاق بالجامعة".

لم يكن حلم ابنة "بلوطة"، دراسة آداب اللغة الإنكليزية بل كانت تريد بشدّة دراسة الإعلام، لكن التكلفة المادية للذهاب إلى العاصمة، تفوق قدرة الأسرة، فعزمت على النجاح والتفوق في هذا الاختصاص، وتختم: "أؤمن بأن نجاحي فقط هو ما يرضي أمي.. فرحتي دائماً ناقصة لأنها ليست إلى جانبي.. لكن الصبر هو عزائي الوحيد".

سكونٌ لا سكينة

تسقي ريما بعض الشّتلات الصغيرة، في حديقة منزلهم بقرية "أبو مكة" التابعة لريف اللاذقية الشمالي، ريثما تنتهي جدتها من إعداد القهوة التي اعتادا شربها معاً صباح أيام العطل الأسبوعية، وتقول لـ"للميادين نت": "رجعنا إلى هنا عام 2017، لم يكن منزلنا هكذا، لقد تضرّر كثيراً بعد ما حدث في تلك الليلة المشؤومة، لكنه صار أفضل حالاً بعد أن أعادت الدولة ترميمه وإصلاحه، كي نستطيع السكن فيه مرّة أخرى".

تحاول ريما إبعاد بعض الدجاج الذي خرج من الخُم المخصّص له خلف المنزل، وتتابع: "ربما يجد الناس هذا الهدوء جميلاً، أما أنا فلا، ما فائدةُ سكون بلا سكينة؟ فأنا دائماً ما أتذكر مشهد دخول المسلحين منزلنا، وأسمع في أذني صوت صراخ أمي وأبي عندما أطلقوا عليهما النار".

تشير الفتاة العشرينية إلى ندبةِ جرحٍ على كاحلها وتضيف: "لقد تعرّضت أنا أيضاً لطلق ناري وقتذاك، لكنّ حظي كان أقل سواءً من والِدَي، فتجرى اقتيادي مع أخي الذي لم يكن يبلغ حينذاك سوى سبع سنوات إلى الأسر".

لا تُحبّ ريما الحديث عن فترة الأسر كثيراً، لكنها دائماً ما تصف بحزن كيف نال أخوها على  صغر سنه وقتذاك، ما ناله من الضرب والتعذيب لأنه صرخ بالمسلحين وشتمهم.

تضحك ريم بسخرية وتقول: "لم أشعر بالوحدة قط، فعند وصولي إلى مكان الاحتجاز، شاهدت كثيراً من قريباتنا مع أطفالهن، وسيدات من جميع القرى المحيطة بقريتنا".

ابنة "أبو مكة" التي صارت تؤمن بالمعجزات بعد تحريرها من الخطف، لم تكن تملك "ذرةً واحدة من الأمل" بالعودة إلى المنزل، وتشرح: "في الفترة الأخيرة، نقلونا إلى قرية الغسانية في إدلب، وجلسنا في إحدى الكنائس حيث التقينا منظمة تعنى بشؤون الأسرى، وتلقينا وعوداً بالخروج، لكن في اليوم الموعود نقض المسلحون الاتفاق، وهدّدونا أنه إذا خرجت واحدة منا إلى الحافلة فسيقتلون الكل".

تنتظر الطالبة الجامعية قدوم ابنة عمها كي تبدأ بصبّ القهوة، فهي الأقرب إليها عمراً وتشاطرتا في الأسر أصعب سني حياتهما، وتختم قائلة: "لقد تأقلمنا مع أوضاعنا، فأنا وابنة عمي نكمل دراستنا معاً في الجامعة، هي تقيم مع والدها وتتولى أمور المنزل بعد استشهاد والدتها، أما أنا هنا مع أخي وجدتي، أفتقد جميع من رحلوا كثيراً لكنني أحمد الله أن بعض أقربائي على الأقل لا يزالون حولي".

هل من مساحاتٍ آمنة؟

تراجع أفنان بلال رئيسة مجلس إدارة جمعية الصواري الخيرية في مكتبها، ملفّات الأطفال الذين تخرجوا من الدورات التعليمية التي تقيمها الجمعية، تقف قليلاً عند المجموعة الخاصة بالأطفال الناجين من مجازر ريف اللاذقية الشمالي وتقول لـ"لميادين نت": "نحن مجموعةٌ من المُدرّسين والمدرّسات، اجتمعنا عام 2016 وقررنا تأسيس هذه الجمعية، بعد أن لمسنا الحاجة الكبيرة إلى ترميم الفاقد التعليمي لدى الأطفال، نتيجة الحرب التي انعكست آثارها على جودة التعليم المدرسي".

تحاول الجمعية التي تتخذ من "بسمة، صحة، تعليم" شعاراً لها، تقديم مساحةٍ آمنة للأطفال الذين عانوا ويلات الحرب، وتساعدهم على تجاوز آثارها النفسية والاجتماعية عليهم، وتشرح بلال: "مركزنا في اللاذقية، لكننا نستقبل أطفالاً نزحوا من إدلب والغوطة الشرقية ومناطق كثيرة أخرى، غالبية هؤلاء فقدوا  الأب أو الأم أو الاثنين معاً، وواجهنا حالات مختلفة كثيرة، كصعوبة في الكلام، وصعوبات في القراءة والكتابة، لكننا تجاوزناها مع فريقنا التطوعي المؤهل".

تنفرج أسارير بلال، عن ابتسامةٍ عريضة بعد تلقيها مكالمة من إحدى خريجات الجمعية، تخبرها عن الدرجات العالية التي نالتها في الامتحانات الفصلية الجامعية، وتتابع: "كل عام نُخرّج أكثر من 75 طالباً وندخل العدد نفسه. أطفال كثر ساعدناهم في دراستهم صاروا اليوم طلاباً في الجامعات متوزعين على مختلف الكليات، خصوصاً الطبية والهندسية، هذا ما نعده إنجازنا، أن نُسلّمهم سلاح العلم الذي يمكنهم من مواجهة تحديات الحياة".

تشير ابنة اللاذقية، إلى ملابس مطوية بترتيبٍ لافت، وموضوعة في أكياس بزاوية الغرفة، وتقول: "لدينا مشغل خياطة صغير يساهم في تمويل الجمعية، ونعتمد على المبالغ التي يقدمها لنا الخيّرون، لكن الأوضاع اليوم ليست كما كانت في السابق، فنحن نواجه تحديات مادية تؤثر في عمل الجمعية، إضافة إلى أزمات النقل والوقود العامة".

تستعرض مديرة الجمعية عدّة صور للنشاطات المختلفة، التي تنظمها مع الأطفال المستهدفين، تبتسم قليلاً وتختم: "كل طفل ترك لدينا أثراً جميلاً ومختلفاً، هؤلاء هم أمل البلاد وأساس نهضتها المقبلة، علينا أن نبذل أقصى جهدنا لمساعدتهم".