هل ستنجح زيارة وزيرة التجارة الأميركية إلى بكين في تحقيق تقدم في العلاقات بين البلدين؟
تسعى الزيارة إلى تجنب التقديرات الخاطئة بين البلدين، وعدم الذهاب إلى صراع بينهما لا يمكن لعاقل تصور نتائجه، فهل تنجح؟
باتت الصين تشكل معضلة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، فقطع العلاقات معها أكثر ضرراً ربما من الاستمرار في شراكة رجحت كفتها وبشكل كبير لمصلحة بكين.
ساءت العلاقات بين البلدين لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، إذ تصدرت القيود التجارية التي فرضتها واشنطن قائمة الخلافات.
كانت واشنطن قد تذرعت بأن قيودها ضرورية لحماية الأمن القومي، بينما ترى بكين أن الهدف منها عرقلة نهوضها الاقتصادي.
وأصدر الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الشهر أمراً تنفيذياً يهدف إلى فرض قيود على استثمارات أميركية محددة في مجالات التكنولوجيا المتطورة الحساسة في الصين، في خطوة نددت بها بكين على اعتبارها "مناهضة للعولمة".
تلك القيود ستطبق العام المقبل، ومن المتوقع أن تشمل قطاعات تكنولوجية، مثل أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي.
متى تحولت الصين إلى منافس للولايات المتحدة؟
على الرغم من النمو الاقتصادي الكبير الذي حققته الصين بعد سياسة الإصلاح والانفتاح، فإن ذلك لم يكن مصدر قلق بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
ذلك أن الاقتصاد الصيني حينها كان يعتمد على الصناعات الخفيفة التي حققت لبكين عائداً اقتصادياً كبيراً وأبعدتها عن المنافسة مع الدول الصناعية المتقدمة.
لكنها، وفي الوقت نفسه، عززت من القوة الناعمة لبكين وأدخلتها إلى كل بيت في العالم، فنمت أجيال كثيرة ارتبطت مخيلتها بما كتب على ألعابها (صنع في الصين).
"اقتصاد ألعاب الأطفال" وبعض الصناعات الخفيفة ساعدت الصين على بناء نهضتها وتشغيل اليد العاملة لديها، لتجاوز قرن العار الذي خلف للصين مئات الملايين من الفقراء.
ومع انتقال بكين إلى المنافسة في مجال الصناعات المتطورة، وخاصة التقنية منها، باتت الولايات المتحدة والدول الغربية تشعر بالتهديد الحقيقي الناجم عن استفاقة التنين.
تزامن ذلك مع وصول الصين إلى قمة الهرم الاقتصادي الدولي، ودخولها عالم التكنولوجيا المتطورة التي يشكل امتلاكها تهديداً للأمن القومي لباقي الدول.
تلك الميزة التي كانت حكراً على الولايات المتحدة والدول الغربية، والتي عززت من الهيمنة الغربية على دول العالم، وزادت من أطماعها الاستعمارية.
امتلاك الصين للتكنولوجيا المتطورة، وتقدمها الاقتصادي الكبير، عززا من قوتها الناعمة على مستوى العالم الذي بات ينظر بإعجاب واحترام إلى "التجربة الصينية" في بناء الدولة.
لكنه، وفي الوقت نفسه، زاد من هجوم الدول الغربية على بكين، والسعي لشيطنتها اعتماداً على ماكينة إعلامية غربية، امتهنت الكذب واحترفت تشويه الحقائق.
من هنا، بدأت المنافسة مع الصين، والتي هي في حقيقتها ليست سوى صراع الهدف منه إيقاف تقدم الصين ومنع نهضتها.
وبفضل حكمة القيادة الصينية، وبرود الأعصاب الآسيوية بشكل عام، استمرت هذه المنافسة بعيدة عن الانتقال إلى مواجهة مفتوحة بين الصين والغرب، والولايات المتحدة على وجه التحديد.
لكن ذلك لم يمنع أميركا من السعي لاحتواء الصين، فأعلنت ذلك صراحة، بل إن تلك الاستراتيجية كانت محط إجماع الجمهوريين والديمقراطيين على حد سواء خلال ولايتي ترامب وبايدن.
تلك الاستراتيجية فاقمت من التوترات بين البلدين، ودفعت الولايات المتحدة إلى السعي لتطويق الصين عبر نسج سلسلة من التحالفات مع الدول المحيطة ببكين.
وعلى الرغم من الإعلانات المتكررة من جانب قادة الولايات المتحدة، بدءاً من الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن، مروراً بوزراء الدفاع والخزانة والتجارة الأميركية، التي نادت بالحوار مع بكين، لكنها فشلت في بلورة تلك التصريحات إلى واقع يمكن البناء عليه.
وبعد أن تبلورت القناعة لدى الأميركيين بأنه من غير الممكن قطع العلاقات مع بكين، نظراً إلى التداخل والتشابك الكبير بين اقتصاد البلدين، فقد بات على الإدارة الأميركية الاختيار بين التعاطي مع "الصين كشريك"، مع ما لهذا التوجه من "مخاطر محتملة"، أو التعامل مع الصين كخصم مع ما لهذا الخيار من "مخاطر مؤكدة".
المشكلة أن التوصل إلى هذه القناعة جاء مع اقتراب العام الانتخابي للرئاسة الأميركية، وهو العام الذي يصبح فيه الرئيس أسيراً لتطلعات الناخبين ورغباتهم.
خاصة وأن استطلاعات الرأي تشير إلى أن المزاج العام الأميركي أقرب إلى المرشح الذي يظهر حزماً وصلابة في التعاطي مع بكين.
لكن، وفي الوقت نفسه، فإن 80٪ من الأميركيين يركزون على الشأن الداخلي (الصحة والتعليم والرواتب والبطالة...إلخ)، أكثر من اهتمامهم بالشؤون الدولية، التي لا تعني بالنسبة لهم سوى وسيلة لتحسين أوضاعهم الداخلية.
ترحيب.. بعيداً عن التفاؤل
على الرغم من أن هناك شبه إجماع على أن زيارة وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو إلى الصين لن تفضي إلى نتائج إيجابية، فإن بكين رحبت بتلك الزيارة وتعاطت بإيجابية معها، أملاً في الوصول إلى وقف للتدهور في العلاقات بين البلدين على أقل تقدير.
تسعى الزيارة إلى تجنب التقديرات الخاطئة بين البلدين، والبقاء في مربع المنافسة الاستراتيجية بينهما، وعدم الذهاب إلى صراع بينهما لا يمكن لعاقل تصور نتائجه.
خاصة وأن الاقتصادين الصيني والأميركي أكبر اقتصادين على مستوى العالم، إذ يشكلان نحو40٪ من الناتج العالمي.
يبدو أن ريموندو حملت رسالة إلى الصين مفادها أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى القطيعة مع بكين، كما أن واشنطن لا تسعى إلى فك الارتباط بين اقتصادَي البلدين، وإنما تسعى لحماية أمنها القومي "الذي بات مهدداً" في ظل الاعتماد والتداخل الكبير بين اقتصادَي البلدين.
جاءت تلك الزيارة في ظل ما تشهده العلاقات بين البلدين من توتر، وبعد فشل جميع الزيارات السابقة واللقاءات الثنائية التي جمعت بين كبار المسؤولين من البلدين.
لكن، وعلى الرغم من التوتر الكبير في العلاقات بين البلدين، فقد استمرت التبادلات التجارية بينهما حتى وصلت في العام الماضي 2022 إلى 690 مليار دولار، وهو أكبر رقم في تاريخ العلاقات بين البلدين.
فالصين ثالث أكبر شريك تجاري لأميركا بعد كل من كندا والمكسيك، وبلغت الصادرات الصينية 563 مليار دولار، مقابل 153 مليار واردات.
تشكل البضائع الصينية 20٪ من إجمالي واردات السلع الأميركية، ونتيجة للتضخم وتدهور الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة ازداد الطلب على المنتجات الصينية الرخيصة التي تلبي احتياجات شريحة واسعة من الأميركيين.
للبلدين استثمارات بينية كبيرة، إذ بلغت الاستثمارات الصينية في سندات الخزينة الأميركية العام الماضي 1060 مليار دولار.
لكن بكين تخلصت هذا العام من 870 مليار دولار منها. تم ذلك كله بهدوء وصمت وتدرج، في ظل ما تعانيه الولايات المتحدة من ازدياد كبير في حجم ديونها الخارجية الذي تجاوز الـ 130% من الناتج القومي الأميركي.
جاءت الزيارة بعد انعقاد قمة "بريكس" التي شكلت حدثاً تاريخياً على حد تعبير الرئيس الصيني شي جين بينغ.
خاصة وأنها شهدت توسعاً في المنظمة وضم ست دول لها وزن سياسي واقتصادي كبير، إذ أصبحت "بريكس" أكبر من مجموعة السبع الغربية.
وتسعى المنظمة إلى تعزيز التبادلات التجارية بين دول المجموعة بعملاتها الوطنية، وتقليل الاعتماد على الدولار.
كما تزامنت الزيارة مع إعلان رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجييفا عن القيام بجولة آسيوية تشمل الصين وإندونيسيا والهند.
يبدو أن الهدف من الزيارة مناقشة إصلاح صندوق النقد الدولي، إذ يشعر الأعضاء في "بريكس" أن نظام التصويت فيه غير عادل، إذ لا يعطي لدول المجموعة سوى 15٪ من القوة الانتخابية للصندوق.
وكان جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأميركي، قد صرح بأن الرئيس بايدن سيدعو إلى إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في قمة مجموعة العشرين القادمة.
هذا التوجّه وغيره قد يشكل أساساً لبناء نقاط مشتركة يمكن البناء عليها بين البلدين، لكن وعلى الرغم من ذلك، فإن الخلافات بين الدولتين كبيرة وهيكلية، ومن غير المتوقع التوصل إلى توافقات حول الكثير منها.
وخلال هذه الزيارة، اتفقت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو ونظيرها الصيني وانغ وينتاو على تشكيل مجموعة عمل جديدة لمناقشة جوانب التوتر بين البلدين في المسائل التجارية.
ستجتمع هذه المجموعة مرتين سنوياً على مستوى نواب الوزراء. وستستضيف واشنطن الاجتماع الأول لهذه المجموعة في مطلع العام 2024.
وتهدف مجموعة العمل إلى "السعي لإيجاد حلول لقضايا التجارة والاستثمار ودفع المصالح التجارية الأميركية في الصين".
ومن المتوقع أن يلعب رجال الأعمال الأميركيون في الصين دوراً في الضغط على توجهات الإدارة الأميركية لتصحح من توجهاتها نحو بكين.
هل نجحت الزيارة؟
من المبكر الحكم على نجاح زيارة وزيرة التجارة الأميركية إلى بكين. ويبدو أن معيار نجاح تلك الزيارة يتوقف على اتفاق البلدين على عقد لقاء بين رئيسيهما خلال هذا العام، وهو ما كان الرئيس بايدن قد توقعه منذ فترة.
وكان الرئيس بايدن قد توقع بعد قمة كامب ديفيد، أنه سيلتقي مع الرئيس الصيني خلال هذا العام.
ودعا بايدن نظيره الصيني إلى زيارة سان فرانسيسكو خلال انعقاد قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، الذي يضم الصين، والتي ستعقد في تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام.
كما أنه من المحتمل أن يلتقي الزعيمان الشهر المقبل في نيودلهي على هامش قمة مجموعة العشرين لكبرى الاقتصادات العالمية.