هل تنجح مبادرة باتيلي في حل الأزمة الليبية؟
مبادرة المبعوث الأممي إلى ليبيا متفائلة أكثر مما يجب، ذلك أنها رفعت سقف التوقعات والخطوات بإمكانية إجراء الانتخابات هذا العام، في حين أن المعطيات والتحديات العسكرية والأمنية تدفع بخلاف ذلك.
بعد سنوات عجاف من المراحل الانتقالية التي مرت على المشهد الليبي على مدار 12 عاماً، يأمل الليبيون أن يكون 2023 عاماً لتجدد الأمل بإمكانية توافق الأطراف السياسية على الوصول إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية تضع نهاية للمراحل الانتقالية.
وقد كان مقرراً أن تشهد ليبيا انتخابات رئاسية وتشريعية في 24 كانون الأول/ديسمبر 2021، أُرجئت حتى اللحظة بسبب الخلاف بين الفرقاء. وتدحرج المشهد من الخلاف على مرجعية الانتخابات إلى الانقسام الهيكلي السياسي بوجود حكومتين؛ الأولى مكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا، ومقرها مدينة سرت، والأخرى حكومة الوحدة الوطنية يرأسها عبد الحميد الدبيبة، وتحظى باعتراف الأمم المتحدة.
باتيلي يطرح مبادرة لحل الأزمة الليبية
بينما تتباين المواقف الداخلية والدولية بشأن حل الأزمة الليبية وإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، قفزت إلى المشهد مبادرة طرحها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس بعثتها للدعم في ليبيا، عبد الله باتيلي، في 27 شباط/فبراير 2023، لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المؤجلة منذ كانون الأول/ديسمبر 2021.
وفي إحاطة أمام مجلس الأمن الدولي، قال باتيلي: "استناداً إلى المادة 64 من الاتفاق السياسي الليبي لعام 2015، وبناء على الاتفاقيات التي توصل إليها الأطراف الليبيون في السابق، قررت إطلاق مبادرة تهدف إلى التمكين من إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية خلال عام 2023".
وأوضح أنه يعتزم إنشاء لجنة توجيه رفيعة المستوى في ليبيا للدفع قدماً بالتوافق على الأمور ذات الصلة، مثل تأمين الانتخابات واعتماد ميثاق شرف لجميع المرشحين.
تقتضي المبادرة التي طرحها المبعوث الأممي تشكيل لجنة توجيهية رفيعة المستوى تجمع كل أصحاب المصلحة والمؤسسات والشخصيات والقادة القبليين والنساء والشباب، وتكون مهمتها الوصول إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، من خلال تيسير اعتماد الإطار القانوني وخارطة الطريق المحددة وفق جدول زمني لعقد الانتخابات في 2023.
مبادرة من أجل المبادرة
قفزت مبادرة المبعوث الخاص للأمم المتحدة في حقل الألغام في المشهد الليبي، واختصرت الحل بتشكيل لجنة لم تخض في تفاصيلها من ناحية العدد، والجهة التي ستقوم باختيار أعضاء اللجنة، والإطار الزمني المتاح لتشكيلها، وبدء عملها، واحتمال انطلاقها من حيث انتهى المجلسان - مجلس الدولة ومجلس النواب - ولم تحدد الجهة التنفيذية التي ستتولى الإشراف على الانتخابات، لا سيما في ظل الصراع الدائر بين حكومة الدبيبة وحكومة باشاغا.
قبل التقاط الأطراف الليبية المبادرة الأممية، ألقى باتيلي قنبلتين، الأولى هي إشارته إلى فشل البرلمان الليبي شرق البلاد والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس في التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات، وهو حكم مسبق لم يوفق فيه.
أما القنبلة الأخرى، فهي إقحامه الأطراف الإقليمية والدولية في المشهد الليبي، وذلك بتأكيده أن كل الشركاء الإقليميين والدوليين وافقوا على إجراء انتخابات في 2023، لافتاً إلى أن جميع الدول أكدت أن مصالحها لن تتحقق في ليبيا إلا بإنشاء دولة مستقرة ومسالمة، الأمر الذي يعني أن مبادرة باتيلي اهتمت بالدول المؤثرة في الأزمة الليبية، من دون الالتفات إلى مواقف الأطراف الليبية التي يبدو أنه أغضبها.
موقف الأطراف المعنية من المبادرة الأممية
لم تتأخر ردود فعل الأطراف الليبية على المبادرة الأممية بين رافض لها ومرحب بها وصامت عنها، فبعد يوم من صدورها، انتقد مجلس النواب الليبي في 28 شباط/فبراير 2023 الإحاطة التي قدمها مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا أمام مجلس الأمن الدولي، وقالت رئاسة البرلمان: "نستغرب ما تضمنته إحاطة المبعوث الأممي من مغالطات بشأن فشل مجلسي النواب والدولة في إقرار القاعدة الدستورية".
وأعلنت الحكومة المنبثقة من مجلس النواب، برئاسة فتحي باشاغا، تحفظها عليها، وعبرت عن استغرابها عدم ذكرها في إحاطته، ورأت خارجية حكومة باشاغا أن "محاولة تجاوز الأجسام السياسية الرسمية" أمر "لا يساعد في الوصول إلى حلول ناجحة ومرضية، ويضع البعثة في موقف متناقض وغير محايد".
بخلاف مجلس النواب، رحب "تكتل إحياء ليبيا" - يضم 24 حزباً سياسياً - بالمبادرة الأممية، وشكر للمبعوث الأممي "احترامه إرادة الناخبين"، معلناً دعمه إنشاء اللجنة الجديدة، "على أن يتم هذا العمل فعلاً لا قولاً، فيما لم يبدِ رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي أي موقف إزاء مبادرة باتيلي وقررا الصمت.
دولياً، التقطت واشنطن الحاضرة مؤخراً بقوة في المشهد الليبي وحيثياته مبادرة باتيلي، واستضافت في اليوم التالي لإعلان المبادرة باتيلي وممثلين عن بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا ومصر وتركيا وقطر والإمارات لمناقشة مسار الانتخابات. وأعلنت نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي شيرمان اتفاق الولايات المتحدة مع باتيلي على ضرورة المساعدة في أن يكون 2023 عاماً لانتخابات ليبية حرة ونزيهة.
أما موسكو، فقد أظهرت كلمة النائب الأول للمندوب الدائم ديمتري بوليانسكي في بعثة الاتحاد الروسي للأمم المتحدة، في اجتماع مجلس الأمن، تحفظاً على المبادرة، معتبرة أن المخرج من الوضع الحالي في ليبيا هو تنظيم انتخابات وطنية، غير أنها حذرت من التسرع وتجاهل إنجازات مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
المبادرة الأممية تحرك الفرقاء الليبيين
حركت مبادرة المبعوث الأممي المياه الراكدة في المشهد السياسي الليبي، وأفضت إلى مجموعة مستجدات، أبرزها إعلان رئاسة المجلس الأعلى للدولة إقرار التعديل الدستوري الثالث عشر عبر التصويت عليه في جلسة الخميس 2 شباط/فبراير 2023، بعد 4 محاولات فاشلة لإقراره، بسبب انقسام أعضائه، وهو ما أغضب العشرات من أعضاء المجلس احتجاجاً على التصويت على التعديل بعدما مضى الزمن المقرر لتحقق النصاب وفق اللائحة المنظمة لعمل المجلس، الأمر الذي دفع بعض الأعضاء المعارضين إلى الدائرة الدستورية في المحكمة العليا للطعن في تمرير رئاسة المجلس للتعديل.
وعلى الرغم من أن طريقة إقرار المجلس الأعلى للدولة التعديل الذي يتضمن أساساً لتنظيم الانتخابات من دون الدخول في التفاصيل الخلافية، مثل شروط الترشح للرئاسة، فإنَّ رئاسة المجلس أكَّدت قانونية الجلسة، وانتقلت إلى الخطوة التالية الخاصة بتشكيل لجان مشتركة مع مجلس النواب لوضع القوانين الانتخابية بناءً على التعديل الدستوري.
نجاح المجلسين - النواب والأعلى- في إقرار القوانين الانتخابية يعني أنه لن يكون أمام باتيلي إلا التسليم بقرارهما، لكونهما جسمين وطنيين، إضافة إلى أن اتفاق المجلسين يُحرج المبعوث الأممي، وخصوصاً أنه تحدث خلال إحاطته في مجلس الأمن عن عدم توافقهما، وعن تعذّر تمرير التعديل الدستوري من قبل مجلس الدولة.
الحيثيات الحاصلة عقب إقرار التعديل الدستوري لا تعني قطع الطريق على مبادرة المبعوث الأممي نهائياً، لكنها تشوش عليها، وخصوصاً أن كلاً من مجلس النواب ومجلس الدولة أقرا ومرّرا التعديلات الدستورية المطلوبة لإجراء الانتخابات، ما يعني سحب البساط من تحت أقدام باتيلي، بذريعة أن مبادرته لا تحظى بتوافق الأطراف السياسية المعنية، وأن هذه الأطراف قادرة على تجاوز خلافتها والذهاب إلى التوافق من دون تدخل المبعوث الأممي.
والأهم أن التوافق السياسي تزامن معه توافق في المسار الأمني، من خلال الإعلان عن تشكيل قوة مشتركة بين رئاسة أركان قوات الشرق الليبي وأركان الغرب، وهو ما يعني حدوث نقلة نوعية في العلاقات الأمنية بين الجبهتين، الغربية والشرقية. وقد كانت العلاقة عدائية إلى وقت قريب.
معوقات مبادرة باتيلي
يمكن إيجاز معوقات المبادرة بالتالي:
1- اختصرت مبادرة المبعوث الأممي إلى ليبيا حل الأزمة الليبية بكل مشكلاتها وتعقيداتها وحسابات أطرافها في الذهاب لإجراء الانتخابات، حتى بدت كأنها هدف في حد ذاته، وليست مجرد أداة للذهاب إلى الحل.
2- المبادرة لا تختلف في حيثياتها عن مبادرات محلية ودولية سبقتها إلا في كونها مبادرة أممية، مضافاً إلى ذلك أن المبادرة وقعت في فخ اللجان. وعربياً، إذا أردت قتل موضوع وتذويبيه، شكّل له لجنة تنبثق منها لجان توصي بتشكيل لجنة وهكذا. وهذا ما وقعت فيه المبادرة.
3- لم توضح مبادرة باتيلي الآلية التي سيتم من خلالها تشكيل اللجنة، أي مكونات اللجنة وممثليها من القبائل والقوى الأمنية والسياسية ومنظمات المجتمع المدني والنساء والشباب، وخصوصاً في ظل التعدد القبلي والاجتماعي والجهوية والمناطقية الموجودة والمتصارعة فيما بينها.
4- هناك خشية من أن يكون التوافق الأخير بين مجلس النواب ومجلس الدولة على إقرار التعديلات الدستورية محاولة للالتفاف على مبادرة باتيلي، من أجل كسب الوقت وإطالة عمر الأزمة السياسية، حتى تتلاشى بعد يأس الليبيين من إمكانية تطبيقها وتنفيذها.
5- على الرغم من عدم ثقة قوى وطنية سياسية واجتماعية ليبية بكل من مجلس النواب ومجلس الدولة، فإنَّ هذه القوى لا تثق أيضاً بمواقف ومبادرات وجدية البعثة الأممية التي تركت الليبيين يتصارعون على مدار أكثر من عقد كامل، واكتفت بإدارة الأزمة بدلاً من حلها.
وبالتالي، تشعر هذه الأطراف بأنَّ مبادرة باتيلي أُسقطت عليها من المجتمع الدولي بهدف إعادة تقاسم الموارد الليبية، أهم من هدف إجراء انتخابات حقيقية تُلبي تطلعات الليبيين، حتى ظهر مطلب إجراء الانتخابات تعبيراً عن المصالح الأميركية والغربية أكثر من كونها حلاً للأزمة الليبية.
6- تعدّ ليبيا مرتعاً للتدخلات والمصالح الدولية، وبالتالي أي مبادرة، دولية كانت أم أممية، لا تُلبي كل هذه المصالح لا يمكن أن تمر. لم تراعِ مبادرة باتيلي ذلك، واكتفت، كما يبدو، بدعم واشنطن، وأسقطت من حساباتها مواقف باقي الأطراف الإقليمية والدولية ومصالحهم، لا سيما روسيا.
كذلك، لا يوجد توافق أو انسجام بين الدول الكبرى والإقليمية بشأن ليبيا، رغم إعلان الجميع دعمهم إجراء الانتخابات، فالمهم بالنسبة إلى هذه الأطراف هو استمرار تدفق النفط والغاز الليبي.
7- مبادرة باتيلي متفائلة أكثر مما يجب، ذلك أنها رفعت سقف التوقعات والخطوات بإمكانية إجراء الانتخابات هذا العام، في حين أن المعطيات والتحديات العسكرية والأمنية تدفع بخلاف ذلك.
وإضافة إلى تجاهل المبادرة للملفات المركزية الشائكة، كملف فوضى السلاح والقوات الأجنبية، فقد تجاهلت مصير أكثر 20 ألف عنصر من المرتزقة - وفق تقدير الأمم المتحدة - يقاتلون في ليبيا.
ختاماً، إن مسألة نجاح مبادرة باتيلي مرتبطة ومرهونة بالدعم الدولي والضغط الأميركي أكثر من ارتباطها بمواقف ومحددات الأطراف الليبية المتصارعة والمعرقلة للانتخابات. وبالتالي، المهم هو كيفية إقناع الأطراف الليبية بالمبادرة والحل، لا الرهان على المواقف الدولية فقط.
وحتى يتحقق ذلك وتتفق الأطراف الليبية وتتوافق فيما بينها على الحلّ ذاتياً من دون تدخلات دولية وضغوطات، تبقى مبادرة باتيلي معلقة، وتظل الأزمة السياسية الليبية مستمرة.