كيف نجحت السعودية في احتواء تداعيات الإعدامات الجماعية؟
كيف أمكن لهذا النظام أن يسخّر معادلة المال والقمع والفكر، في تجاوز واحدة من أعظم الجرائم الوحشية؟
شكّلت معادلة المال والقمع والفكر أداةً سعودية خارقة في احتواء الرفض الداخلي، كما التنديد الخارجي بالإعدامات الجماعية الأخيرة، وقد مرّ على تنفيذها قرابة ثلاثة أسابيع، في واحدة من أوسع عمليات الإعدام الجماعية الرسمية في العالم، عندما أقدمت السعودية على إعدام واحد وثمانين معتقلاً، بينهم سوري وسبعة يمنيين، دفعة واحدة.
كيف أمكن لهذا النظام أن يسخّر هذه المعادلة برؤوسها الثلاثة، في تجاوز واحدة من أعظم الجرائم الوحشية، وقد تم تنفيذها بصورة رسمية جاهرت بها الدولة السعودية، عبر جهازها القضائي وسلطتها التنفيذية وإعلامها الصريح؟
سبق للنظام السعودي أن دخل في ورطة إعدام المعارض السياسي، جمال خاشقجي، وهو معارض سياسي ضمن بنية النظام ذاته، لكنه يحمل حق الإقامة الأميركية، كما الجنسية السعودية، وتم إعدامه بالتحايل في أرض تركية داخل قنصلية سعودية، فقامت الدنيا ولم تقعد إلا بعد فترة زمنية بعيدة، وضمن فاتورتَي حساب، مالية وسياسية، دفع فيهما ابن سلمان ثمناً باهظاً إلى مائدة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، المتعطش إلى المال الخليجي[i].
وسبق لهذا النظام أيضاً، أن تسبب بأزمة حادة مع إيران وبعض القوى الإقليمية، عقب إعدامه العالِم السعودي المعارض نمر النمر، بموجب تُهَم لا تتجاوز رأيه السياسي وانتماءه المذهبي، وهي أزمة ما زالت تبعاتها الثقيلة تلقي بظلالها على التصدع الإقليمي الراهن، برأسيه الإيراني والسعودي، في واقع ملبَّد بالتدخلات الغربية والعامل الإسرائيلي الداعم للنفوذ السعودي، كما على وقع الحرب السعودية العبثية ضد اليمن[ii].
لم تكن موجة الإعدامات الأخيرة الأولى في بلاد الحرمين، لكنها كانت الأوسع، وخصوصاً أنه كان بين الذين تم إعدامهم واحدٌ وأربعون ناشطاً سياسياً من الحراك السلمي في المنطقة الشرقية، المهمَّشة سياسياً واقتصادياً، على الرغم من أنها الأغنى نفطياً، تحت مبرر الانتماء المذهبي، ليتم إعدامهم من دون جريمة مباشرة ارتكبوها، إلاّ ما يقال عن تصديهم للقمع الأمني في مدنهم وقراهم[iii]، بخلاف التهم المحددة التي وجَّهها النظام السعودي إلى أربعين آخرين تم إعدامهم، بزعم ارتكابهم جرائم قتل، بعضها بأوامر من تنظيم "داعش" الإجرامي والإرهابي.
وارتبطَ بعضُ حالات الإعدام السعودية، هذه، بمعتقلين ارتكبوا جرائم فظيعة، كثمرة خبيثة للتعبئة الفكرية السلفية الوهابية، والتي يشرف عليها النظام ومؤسساته، وخصوصاً هيئتَي كبار العلماء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي سبق لابن سلمان أن اعترف بأنها جاءت بتشجيع أميركي، وخصوصاً ما اتصل منها بمجابهة المد الشيوعي. وهي في جوهرها ممعنة في التكفير على فرعيات دينية هامشية، ومنها تلك التي دفعت شقيقين متعصبين إلى قتل والدتهما، تحت زعم خروجها عن الدين، أو لعلها الفتوى التي أجازت للولد قتل والده المشرك، وهذا منصوص عليه في المنهاج التعليمي السعودي. والشِّرك، وفق العقل الوهابي، هو محض ما يراه من الابتداع في الدين أو التبرك في القبور[iv].
إذاً، لم تقتصر هذه الإعدامات على مجرد دواعش سلفيين أو وهابيين، ارتكبوا جرائم قد يصح بعضها وقد لا يصح، فالمنهجية الأمنية السعودية برمتها موضع نظر، والجهاز القضائي السعودي مسيَّر لا مخيَّر، كحال النمط العقائدي الذي لطالما روّجته الوهابية بصفتها الظهير الخلفي لآل سعود في حكمهم الأمني السياسي، وهو نمط رعته المشيخة الوهابية منذ التأسيس، عبر امتدادات تاريخية تراثية، جوهرها استثمار الدين التراثي وفق تقليعته الجبرية، باعتبار الحاكم في الإسلام صورة مقربة لإرادة الله التي لا رادّ لها، وأن الإنسان مسيّر لا مخيّر قضاءً وقدراً، وهي صورة استقر عليها الناتج الديني الرسمي للعهد الأموي، وساعدته بدورها على احتواء تداعيات المجازر الأموية وما أعقبها من محاولات للتغيير والنهوض[v].
عمدت المؤسسة الأمنية/القضائية في السعودية إلى خلط الأوراق في طبيعة حالات الإعدام الأخيرة، فجعلتها على النصفين، بقصد التمويه وخلق نوع من الالتباس بين متهَمين بالقتل الدموي، وبين مجرد فِتْية لا تهمة لهم إلاّ التظاهر السلمي العام وفق أرضية حراكية محكومة منضبطة الإيقاع، ليس فيها ما يهدد السلم الاجتماعي، ولا مواجهة أصل النظام السياسي. ففي الوقت التي فُصِّلت فيها تهم القتل ونوعه وطبيعته ووقته لمن اتهمهم الأمن السعودي بالارتباط بـ"داعش" مثلاً، في جرائم خلّفت عشرات القتلى المعلن عنها والمعروفة للجمهور من قبلُ، نجد أن تهمة شُبّان الحراك السلمي جاءت مشتركة عامة، من دون تفصيل بين هذا وذاك، كأنها عنوان عام للقتل الجماعي فشلت عملية إخراجه المسرحي، بزعم إشاعة الفوضى أو اعتناق فكر ضالّ[vi].
إنه الفكر الضال، إذاً، والمعتقدات المنحرفة، وقد شكّلت، في جملتها، عنواناً عاماً لحملة الإعدامات الأخيرة، في عنوان لطالما اختبأ النظام السعودي خلفه، ليمارس كل صنوف الإجرام السياسي، وقد ضمن تماسكه الأمني السياسي من جهة، وأطلق كل أبواق التعبئة كسياج يحميه من جهة أخرى، في تعبير متجدد عن طبيعة تكوين النظام في أصوله الأولى، كتحالف مصالح بين زعيم القبيلة وشيخها، وهو الذي تم منذ عام 1744م بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب، فيما عُرف بميثاق الدرعية، الذي نص على تصحيح عقيدة الناس مما علق فيها من شِرْك وبِدَع[vii].
ربطُ الإعدامات بالضلال، وهو ما حرصت داخلية السعودية وجهازها الإعلامي على إبرازه، مثّل ما يشبه إبرة المخدّر، في مجتمع قبلي اعتاد أصولَه الدينية الجامدة وفرعياتها المتحجرة، على نحو نمطي قارب، في هذا الاعتياد، تلك الرمال الساكنة في صفحة شبه الجزيرة العربية الشاحبة الصفراء، وقد ران عليها طول أمد التعبّد السطحيّ في رعاية السلطان كظل لله في الأرض، وهو ظل تمتد خيراته، ولو في يوم يقام فيه الحدّ على الضعفاء، فيكون خيراً من أن يُمطر الناس أربعين يوماً[viii].
مثّلت استهلالات البيان الرسمي السعودي، في توقيعه إعدام هؤلاء الأشخاص الواحد والثمانين، خطوة أولى في عملية احتواء كل تداعيات محتملة قد تترتب عليها، فجاء العنوان تعبيراً رسمياً عن حماية البلد من الفكر الضالّ، وهو كل فكر يخالف ما اعتادته أغلبية السعوديين، بينما استُخدمت آيات الحرابة في القرآن الكريم حدّاً شرعياً في مواجهة كل خارج على الدولة، وخصوصاً مع حرص البيان على الإشارة إلى الأجندة الخارجية لهؤلاء "الضالّين المنحرفين"، باعتبار السعودية أرض التوحيد الخالص، وكلُّ ما سواها مرتعٌ للشِّرك، وهو ما سبق أن رسّخته المنظومة الثقافية والمنظومة التعليمية والمنظومة الوعظية، عبر قرون خلت[ix].
والأجندة الخارجية عند ابن سلمان ليست "إسرائيل" بالتأكيد. وصرّح، قبل الإعدامات بأيام، أنه لا ينظر إلى "إسرائيل" كعدو بل كحليف محتمل في كثير من المصالح. وتحالفٌ كهذا، بما فيه من مصالح، يفرض على النظام السعودي تحديد مساراته وضبط ترددات الداخل وفق إيقاعها. فالأجندة التي توصل صاحبها إلى الإعدام هي التي تعارض مصالح "إسرائيل"، وقد صار التحالف معها هدفاً وخطة ظَهَرا للعلن، بعد طول اختباء خلف مبادرات سلمية كانت القضية الفلسطينية بنداً في أجندتها[x].
ضبطُ الداخل للذهاب نحو التحالف مع عدو الأمة التاريخي والمركزي، "إسرائيل"، التي لم تعد عدواً وفق ابن سلمان، أو نحو دموية إضافية في اليمن، بما يلحقها من خراب اقتصادي في السعودية، ظهرت آثاره عبر قدرة اليمن على شل الإنتاج النفطي، هو ضبطٌ تجاوز إعدام نمر النمر ومعه العشرات، ثم إعدام هؤلاء الثمانين زائداً واحداً، إلى ما هو أبعد من ذلك. فهناك خلف القضبان معتقلو رأي بالمئات، يتصدَّرهم مشايخ كبار، كسلمان العودة وحسن بن فرحان المالكي وعوض القرني، وكثيرون منهم من المدرسة السلفية الوهابية ذاتها، لكن سبق لهم أن تجاوزوا خطوط النظام الحُمر بشأن عدم الطاعة العمياء، ولو في جزئية بسيطة، جعلت سلمان العودة يتمنى الصلح مع قطر، في وقت لم يُرِد ابن سلمان مع قطر صلحاً، أو جعلت حسن بن فرحان يُصدر بحوثاً في التاريخ وحقوق الإنسان، ضد مفهوم الفرقة الناجية، ويتحدث عن الأمة الناجية، فاستحق المطالبة القضائية بإعدامه[xi].
وانطلقت موجات الإعلام في الداخل والخارج، لتموج في الإشادة بالحسم والضبط هذين ضد دعاة الفتنة، على نحو يهيّئ الفضاء النفسي ويدفعه إلى قبول مزيد من القتل والدموية. وهو فضاء تلبّدت غيومه منذ زمن بعيد، بهذا الفكر الوهابي، وقد أغلق على عامة الجمهور السعودي كل أبوابه، فلا يرى إلاّ ما يراه الحاكم ما دام يحكم بعقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، عبر تنقية الناس من البِدَع والتبرّك عند القبور والدعاء عند الأضرحة ومحاربة الفِرَق الإسلامية الأخرى من صوفية وأشعرية وشيعية.
وتمتدّ جذور الدموية الوهابية المتسترة برداء ديني، منذ تواطأ فقهاء السلطان على خنق كل رأي معارض باعتباره زندقة في الدين، وهو ما حفلت به كتب الوهابية وتغنّت به، ولا تجد مسجداً إلّا ومكتبته تغص بهذه الكتب، وهي تدعو صراحة إلى إقامة حدود الدين بحق المبتدعة، باعتبارهم ينشرون الفكر الضال. ولو تأملنا قدوتهم في ذلك لرأيناه فيما تفاخر به ابن تيمية قائلاً "والدَّاعِي إلَى الْبِدْعَةِ مُسْتَحِقٌّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُقُوبَتُهُ تَكُونُ تَارَةً بِالْقَتْلِ، وَتَارَةً بِمَا دُونَهُ كَمَا قَتَلَ السَّلَفُ جَهْمَ بْنَ صَفْوَانَ وَالْجَعْدَ بْنَ دِرْهَمٍ وَغَيْلَانَ الْقَدَرِيَّ وَغَيْرَهُمْ". "وَمَنْ كَانَ دَاعِياً مِنْهُمْ إلَى الضَّلَالِ لَا يَنْكَفُّ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ قُتِلَ أَيْضًا؛ وَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ كَأَئِمَّةِ الرَّفْضِ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ"[xii].
وكان للمال دوره الهائل في اعتياد الداخل السعودي، وحتى بعض الخارج على تجاوز هذه الإعدامات، وربما قبولها وغيرها من صنوف القمع والإجرام، والتي فاق بها النظام السعودي غيره من الأنظمة الدموية في الماضي والحاضر، عندما نجح في تطويع فئات اجتماعية واسعة لتسبّح بحمده، وقد أغرقها في نمط معيشي رغد، ومستوى عالٍ من الرفاهية، حتى صارت بعض عوائلها تتصدر الغنى عالمياً، وهو ما جعلها تنبري للدفاع عن وضع اجتماعي اقتصادي صارت مكوناً أساسياً فيه، كلما أشعرها النظام بأنه عرضة للخطر. وعلى أعتاب هذا الشعور أو ذاك الخطر، نرى صمتاً يخيم على المشهد الحقوقي في السعودية، انسحب على نسيجه الاجتماعي على الرغم من تباينه[xiii].
كما أدى هذا المال السعودي دوراً محورياً في احتواء كثير من ردود الفعل العالمية المتوقَّعة، والتي جاءت يتيمة، بخلاف ما رأيناه عند اغتيال خاشقجي، على الرغم من أن المال حسم قضية خاشقجي في النهاية. ونجا ابن سلمان عندما تم حصر تهمة قتله بالمنفذين من دون الموجهين في هرم السلطة الرسمي، وهو المال الذي أغدقته السعودية على ترامب ومؤسساته العسكرية بمئات المليارات، كما فاحت رائحته وقد ملأ عبقه مراكز رأي ومؤسسات إعلامية وبحثية وأكاديمية في أميركا وبريطانيا، نشطت في الدفاع عن السياسة السعودية، داخلياً وخارجياً، على حد سواء، على نحو يعارض بصورة فظة كامل الشعارات التي لطالما تشدَّق بها الإعلام الأميركي والإعلام الغربي وإفرازاتهما[xiv].
ولم تتجاوز بيانات التنديد العالمية لهذه الإعدامات، ما صدر عن مفوضة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، التي قالت إن "بين الذين قُطعت رؤوسهم 41 من الأقلية الشيعية، وقد شاركوا في تظاهرات ضد الحكومة في فترة 2011-2012 للمطالبة بمشاركة أكبر في العملية السياسية، بالإضافة إلى سبعة يمنيين وسوري. وأُدين بعض الذين أُعدموا بعد محاكمات لا تفي بالمعايير الدولية. وفيما يخص اليمنيين، يبدو أن عمليات الإعدام مرتبطة بالحرب المستمرة في اليمن". وهؤلاء اليمنيون يُفترض أنهم أسرى حرب، ولا يجوز إعدامهم، في أيّ حال. وكذلك ما صدر عن منظمة هيومن رايتس ووتش، التي جزمت بانعدام العدالة في السعودية، في قولها "نظراً إلى الانتهاكات المتفشية والممنهجة في النظام الجزائي السعودي، فمن المرجح جداً أن أيّاً من الرجال لم يحصل على محاكمة عادلة[xv]".
أمّا عربيّاً، فلم يعد يخفى على المُتابع العربي طبيعة الأدوات السعودية المنبثة في كل مناحي الحياة العربية، وخصوصاً في الصحافة والإعلام، كما المؤسسات الدينية التي تتلقى الدعم السعودي المالي، كرِشىً صريحة لضمان تأييدها العلني عند كل حدث متجدد، مثل ما نشهده من بيانات رسمية وغير رسمية تتبارى في إصدارها دول وقوى متعددة، تأييداً للسياسة السعودية في حربها على اليمن، أو في قمعها الأمني للمعارضة وحرية الرأي، وليس آخرها موجة الإعدامات الأخيرة، وقد حرصت هذه الأدوات الخارجية على إبراز جانب "الدعشنة" من دون حقيقة المظلومين فيها ممن ليس لهم جرم إلاّ التعبير عن الرأي في مواجهة الصلف الأمني والتهميش الاقتصادي والتكفير الديني، لعامة سكان المنطقة الشرقية، على الرغم من خصوصية حقولها الغنية بالنفط[xvi].
وحده محور المقاومة من بذل وسعه في التنديد بهذه الإعدامات، باعتباره المتضرر الأول من وحشيتها، فقد انسحبت إيران من اجتماع كان مقرَّراً سلفاً مع السعودية بوساطة عراقية، ضمن سلسلة اجتماعات تفاوضية. وقالت المعارضة السعودية في بيروت إن المحاكم في السعودية هي محاكم سياسية بامتياز، وإن تلك الإعدامات تصدر بأمر من محمد بن سلمان. وأكدت أن النظام السعودي يستغل عنوان "الحرب على الإرهاب" لتنفيذ المجازر المروعة ضد مجموعة من الشبّان الذين مارسوا حقهم المشروع في التعبير عن الرأي والمطالبة بحقوق مشروعة. ودانت اللجنة الوطنية لشؤون الأسرى في اليمن، إقدام النظام السعودي على جريمة إعدام أسيرين ضمن إعدام العشرات من الأسرى اليمنيين، مشيرة إلى أنها تُعَدّ سابقة خطيرة تنذر بعواقب وخيمة، وهو ما لا يمكن السكوت عنه، في أي حال. كما ندّدت حركة النجباء وكتائب حزب الله في العراق "بما يتعرض له أتباع أهل بيت النبوة على أيدي حكّام بني سعود في أرض نجد والحجاز، وهو برهان واضح على مدى وحشية هذه العصابة وتعطشها إلى الدماء، بل يثبت خطر وجودها على الإنسانية"[xvii].
وكان للقمع الأمني دوره الحاسم في ضبط الداخل، وخصوصاً في القطيف والأحساء من المنطقة الشرقية، التي شهدت عدداً من المجازر الوحشية في الشوارع، في ظل أجهزة أمنية ضليعة في التعسف. وتوقّف هذا القمع الأمني لأهل المنطقة الشرقية برهة من الزمن بعد عام 1993م، في إثر لقاء الملك فهد أربعةً من وجوه المنطقة الشرقية، من أجل إيقاف المعارضة نشاطها في الخارج في مقابل معالجة التمييز الطائفي، لكنه عاد ليكون سيد الموقف في الميدان، وخصوصاً بعد وصول محمد بن سلمان إلى الحكم، وليّاً للعهد[xviii].
والتعسف الأمني السعودي تعسُّف ممنهج، وفق أصول وتدريب عريق، وتتخلله، في الوقت ذاته، وحشية وتعذيب، جسدياً ونفسياً، لا يتوقف عند الأطفال والنساء. ويكفي في ذلك قصة الصبيّ الشرقيّ مرتجى قريريص، الذي اعتُقل ولم يتجاوز عمره ثلاثة عشر عاماً، وطالبت النيابة بإعدامه بموجب تُهَم نُسبت إليه، ولم يتجاوز عمره وقتها العاشرة، بزعم قيادته احتجاجات واسعة من أجل حقوق الأقلية الشيعية، بحسب وصف "السي أن أن"، وهو ما دفع الجهاز القضائي السعودي، في النهاية، إلى الحكم عليه بالسَّجن مدةَ ثمانية أعوام[xix].
وبعض هذا القمع الوحشي نجده فيما خرج إلى العلن، على لسان لجين الهذلول ومثيلاتها من معتقلات الرأي في السعودية، واللواتي أمضين أعواماً طويلة في السجن وسط معاملة وحشية قلّ نظيرها، وهو ما دفع منظمة العفو الدولية إلى إصدار عدة بيانات تناولت فيها بعض أشكال هذا القمع بحق المتظاهرين السلميين ومؤيدي الإصلاح السياسي في البلاد، وقد أصبحوا هدفاً دائماً للاعتقال، وذلك في محاولة للقضاء على الدعوات المطالبة بالإصلاح. وأكدت منظمة العفو أن الحجج المستخدَمة في تبرير هذا القمع الواسع النطاق، تُماثل بصورة مخيفة تلكَ التي لطالما استخدمتها السلطات ضد المتهمين بتهم إرهابية[xx].
ولئن استطاع النظام السعودي تمرير موجة الإعدامات الراهنة، وما سبقها، إلّا أنه أشعل تحت الرماد جمرات تتقد. فكما رأينا جمرة اليمن التي لطالما اتَّقَدت بالعسف السعودي منذ عقود بعيدة، قد اندفعت، وإن بعد أزمان وأزمان، لتُذيق الحمق السعودي في مقتل كبره، والعالم أجمع يشاهد نبع ماله يحترق في أرامكو، كما احترق نبع غطرسته في هزائم تترى عبر الحدّ الجنوبي، على نحو يشجع الشعب السعودي على أن ينعتق يوماً ما من هذا الكابوس، وقد طال أمده.
مصادر ومراجع
[i] جريمة خاشقجي: هكذا وظّف ابن سلمان المال لتجاوز مأزقه (alaraby.co.uk)
[ii] من هو الشيخ نمر النمر الذي أعدمته السعودية؟ | الميادين (almayadeen.net) -
[iii] http://annabaa.org/nbanews/62/4.htm
[iv] ابن سلمان: نشر الوهابية كان بطلب من الحلفاء لمواجهة السوفيات - وقفة مع الحدث (france24.com)
[v] https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=465838
[vi] ابن سلمان ينتقم من المعارضة في أكبر عملية إعدام جماعي في تاريخ السعودية - قناة العالم الإخبارية (alalam.ir)
[vii]السعودية تستعيد 17 عاماً من عمرها أخفتها الرواية الدينية | إندبندنت عربية (independentarabia.com)
[viii] درجة حديث حد يقام في الأرض خير للناس من أن يمطروا أربعين صباحاً - إسلام ويب - مركز الفتوى (islamweb.net)
[ix] https://www.almasryalyoum.com/news/details/2546858
[x] الأمير محمد بن سلمان: نرفض التدخل في الشأن السعودي... ولا أحد يمكنه إفشال مشروعنا | الشرق الأوسط (aawsat.com)
[xi]الشيخ حسن فرحان المالكي نُقل من إدارة التحريات والبحث الجنائي إلى سجن الملذ في الرياض | الميادين (almayadeen.net)
[xii] ابن تيمية، مجموع الفتاوي، ج35، ص414. ج28، ص555.
[xiii] عائلة آل سعود: كيف وصلت إلى الحكم وأسست الدولة التي منحتها اسمها؟ (france24.com)
العائلات الكبيرة في السعودية - Google Search
[xiv] https://www.bayancenter.org/2016/03/1853/
[xv] مفوضة أممية تدين ″الإعدامات الجماعية″ في السعودية | أخبار DW عربية | أخبار عاجلة ووجهات نظر من جميع أنحاء العالم | DW | 14.03.2022
[xvi] https://al-akhbar.com/Politics/22873
[xvii] https://www.alalam.ir/news/6084663
[xviii] http://annabaa.org/nbanews/62/4.htm
[xix] https://rassd.com/476650.htm
[xx] https://arabic.rt.com/middle_east/1302895