دول تحت مظلة "سنتكوم" لا ترتجى منها نصرة غزة
لماذا عمد الاحتلال الصهيوني إلى تسريب خبر لقاء المنامة، على الرغم من علمه المسبق بمقدار الحرج الذي يسببه ذلك للمشاركين في ظل عدوان صهيوني همجي على غزة؟
نال موقع "أكسيوس" قصب السبق إعلامياً في 12/6/2024 عندما كشف عن لقاءٍ جمع رئيس هيئة أركان قوات الاحتلال الصهيوني هرتسي هليفي وقادة كبار من جيوش البحرين والإمارات والسعودية والأردن ومصر.
وبحسب تقرير "أكسيوس"، يفترض أن اللقاء جرى برئاسة قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، في المنامة يوم الاثنين الموافق 10/6/2024، وأن الغرض منه بحث "الأمن الإقليمي" في سياق التأكيد على استمرارية الحوار والتعاون العسكريين بين "دول عربية وإسرائيل" تحت مظلة "سنتكوم" CENTCOM، أي القيادة العسكرية الأميركية المركزية.
وجاء ذلك اللقاء، بحسب التقرير ذاته، على خلفية شبكة الدفاع الجوي والصاروخي التي عمل البنتاغون و"سنتكوم" على تأسيسها في المنطقة منذ سنوات، والتي أثبتت فعاليتها في صد الهجوم الإيراني على الكيان الصهيوني في 13/4/2024.
لا جديد إلى هنا، إذ غطت وسائل الإعلام العربية والغربية والإسرائيلية تقرير "أكسيوس" بكثافة، ولم يصدر نفي من أي جهة قال التقرير إنها شاركت في لقاء المنامة، في حين رفض جيش الاحتلال التعليق عليه، ولم تؤكد "سنتكوم" حدوث اللقاء ولم تنفه، لكنها زودت كاتبه باراك رافيد بسياقٍ عامٍ استند إليه في وضع تقريره، كما نفهم لدى قراءته.
باراك رافيد، واضع التقرير، "إسرائيلي"، كما تدل سيرته الذاتية في الإنترنت، وسبق أن جُنِّدَ سنواتٍ في الوحدة الاستخبارية 8200، المسؤولة عن الحرب السيبرانية في جيش الاحتلال، قبل أن يصبح إعلامياً، وهو يكتب حالياً لموقع "والا" الصهيوني، إلى جانب كتابته في موقع "أكسيوس".
لا داعي للتكهن كثيراً إذاً بشأن مصدر المعلومات الواردة في تقرير موقع "أكسيوس"، وهي على الأرجح من وحدة "أمان"، أي الاستخبارات العسكرية التي تمثل الوحدة 8200 أحد فروعها، مع العلم أن "أمان" تتبع رئاسة هيئة الأركان، أي لهرتسي هليفي ذاته!
ليس موقع "أكسيوس" موقعاً صغيراً أو ثانوياً، بالمناسبة، إذ استحوذت عليه مجموعة "كوكس" الإعلامية، أحد عمالقة الإعلام الأميركي، في مقابل 525 مليون دولار بحسب "نيويورك تايمز" في 8/8/2022.
ويعتمد الموقع في أسلوبه على المواد التي لا يزيد طولها على 300 كلمة، وهي تكتب كأنها منشورات معدة لـ"فيسبوك" و"سناب شُت"، من أجل زيادة الاختراق بمواد نوعية قصيرة. ويبدو أن "أكسيوس" بات منصةً للتسريبات، ومنها ما تسرب عن دورٍ أميركي في الغارة الدموية على مخيم النصيرات في غزة مثلاً.
لقاء المنامة في السياق
السؤال الحقيقي هنا: لماذا عمد الاحتلال الصهيوني إلى تسريب خبر لقاء المنامة، على الرغم من علمه المسبق بمقدار الحرج الذي يسببه ذلك للمشاركين في ظل عدوان صهيوني همجي على غزة، أي في حالة حرب مستعرة ينحاز فيها عموم العرب والمسلمين وأحرار العالم ضد الكيان الصهيوني، وخصوصاً بعدما بلغ عدد الشهداء الغزيين، من دون حساب شهداء الضفة الغربية وجنوب لبنان، على أهميتهم، إلى أكثر من 37 ألفاً، ناهيك بعدة آلاف من المفقودين؟
ويصح التساؤل أيضاً: لماذا يسرب خبر انعقاد لقاء برعاية "سنتكوم" الأميركية بعد يومين من مجزرة مخيم النصيرات التي توالت تقارير كثيرة عن مشاركة قوات أميركية خاصة فيها، وعن استخدام الرصيف البحري الأميركي منصةً لتنفيذ الغارة على المخيم ذهاباً وإياباً، إضافةً إلى تقارير أميركية وإسرائيلية تؤكد تزويد قوات الاحتلال بدعم لوجستي واستخباري أميركي وبريطاني، وخصوصاً عبر وحدة خاصة مقرها السفارة الأميركية في فلسطين المحتلة؟
والجواب أن الصهاينة يستفزهم التطبيع سراً بشدة، ويعمدون دوماً إلى إحراج المطبعين بكشف تطبيعهم إن عاجلاً أم آجلاً، كما يدل سجلهم بالعموم. أما توقيت التسريب سياسياً، فمن أجل إظهار "جبهة متحدة" ضد محور المقاومة مع تصاعد احتمالات انفجار جبهة جنوب لبنان-شمال فلسطين المحتلة. أما هدف التسريب إعلامياً، فهو جزءٌ من حربٍ نفسية لإحباط المتعاطفين مع غزة ومقاومتها في الدول العربية المشاركة في لقاء المنامة، وكنوعٍ من الضغط المضاد على الأنظمة العربية رداً على ضغوطها على حكومة نتنياهو لتقديم تنازلات في غزة.
يبقى السؤال الأكبر طبعاً: إذا صح تقرير "أكسيوس" عن لقاء المنامة، فلماذا يشارك فيه قادة من عدة جيوش عربية في خضم حالة حرب مع عدو صهيوني مدعوم علناً من الولايات المتحدة، وعبر "سنتكوم" تحديداً؟
الجواب أن مثل هذه اللقاءات تمثل أحد استحقاقات الانضواء في منظومة "سنتكوم" ذاتها، كما سنرى، بصفتها أحد هياكل ترسيخ هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة عسكرياً وأمنياً والدفاع عن أمن "إسرائيل".
نستعيد هنا سابقة ليست ببعيدة، عندما عُقد بإشراف "سنتكوم" لقاءٌ في شرم الشيخ في آذار/مارس 2022 لقادة عسكريين كبار من الكيان الصهيوني ومصر والأردن والسعودية وقطر والإمارات والبحرين، بحسب ما كشفته "وول ستريت جورنال" في 26/6/2022. والفرق أن أنباء ذلك اللقاء سُربت إلى الإعلام بعد 3 أشهر من حدوثه، لا بعد يومين، كما حدث هذه المرة.
نقلت "هآرتس" الخبر عن "وول ستريت جورنال" يومها مضيفةً، نقلاً عن بني غانتس وزير الحرب الصهيوني آنذاك، أن ما سماه "تحالف الدفاع الجوي الشرق أوسطي" بات قيد الخدمة، وأنه قاد شخصياً "برنامجاً مكثفاً على مدى العام الماضي مع شركائي في البنتاغون والإدارة الأميركية من شأنه تعزيز التعاون بين إسرائيل ودول المنطقة". ولعل أحد أهداف إيران من إرسال بعض الصواريخ والمسيرات المتقادمة، من بين ما أرسلته يوم 13/14 نيسان/أبريل الفائت باتجاه الكيان الصهيوني، هو استكشاف معالم ذلك التحالف وصلابته وطريقة عمل مفاصله.
بعد كشف النقاب عن لقاء شرم الشيخ، نشر موقع "سنتكوم" في الإنترنت يوم 17/7/2022، أي قبل عامين، خبراً عن زيارة الجنرال مايكل كوريلا، قائد "سنتكوم"، إلى الكيان الصهيوني، حيث التقى قياداته العسكرية لبحث موضوع الدفاع الجوي والصاروخي المتكاملين والحاجة المستمرة إلى "تعاون أمني إقليمي قوي".
لا نُفاجأ كثيراً إذاً من المنامة بعد شرم الشيخ، وصودف أن بعض الدول المدعوة للقاء المنامة مؤخراً هي ذاتها التي خاطبها الأميركيون من أجل تولي أمر "اليوم التالي للحرب في غزة"، تمويلاً وأمناً وحراسة، وأن "سنتكوم" هي الطرف المعني بالإشراف مباشرةً على تلك العملية، من دون إشراك قوات أميركية على الأرض، فهل كانت إيرانُ العنوانَ الخارجيَ، في حين كان موضوع النقاش الحقيقي هو غزة أم كان كلاهما موضوعي المحادثات؟
أورد تقرير لـ"فايننشال تايمز" البريطانية، في 14/5/2024، أن إدارة بايدن تحث حلفاءها العرب على المشاركة في "قوة حفظ سلام متعددة الجنسيات" في غزة، وأن مصر والإمارات والبحرين والمغرب وغيرها تدرس الموضوع، لكنها تشترط اعترافاً أميركياً بـ"دولة فلسطينية" أولاً.
وزار الجنرال كوريلا الكيان الصهيوني الشهر الفائت، والتقى هاليفي، وكان من ضمن المواضيع التي جرى التطرق إليها، إلى جانب غزة والرصيف البحري، "الأمن الإقليمي".
عاد الجنرال كوريلا إلى الكيان الصهيوني مجدداً إبان مجزرة النصيرات، إذ بحث مسرح العمليات الميداني من غزة إلى جنوب لبنان مع هرتسي هاليفي وتعزيز "التعاون الاستراتيجي بين البلدين بشأن إيران ووكلائها في المنطقة"، بحسب "جيروزاليم بوست" في 11/6/2024".
وبعد تلك الزيارة مباشرة جرى لقاء المنامة كما يبدو.
وأخيراً، إذا كان موضوع اليوم التالي للحرب في غزة على جدول الأعمال، فهل سربت حكومة نتنياهو أخبار لقاء المنامة لإفشال مشروع القوات متعددة الجنسيات ولشراء الوقت لتمديد حملتها العسكرية في غزة وهي تعلم مسبقاً أن الدول المدعوة إلى المنامة كانت مضطرة إلى الحضور نتيجة انضوائها في "سنتكوم"؟
ما هي "سنتكوم"؟ وما دورها؟
تغطي "سنتكوم" 21 بلداً، من ضمنها كل الدول العربية جنوبي غربي آسيا، زائد مصر وإيران، وكل دول آسيا الوسطى (السوفياتية سابقاً)، زائد أفغانستان وباكستان، كما جرت إضافة الكيان الصهيوني رسمياً إلى منطقة عمليات "سنتكوم" بداية عام 2021، بعد الاتفاقيات الإبراهيمية، كما يبدو.
بعد الانسحاب من أفغانستان، باتت أراضي الدول العربية الواقعة في آسيا ومياهها مركز الثقل الرئيسي لوجود "سنتكوم" عسكرياً. وقد أُحصي أكثر من 52 ألف جندي أميركي فيها، كما فصلت في مادة "مدرج الطائرات الضخم في جزيرة عبد الكوري" في 31/3/2024، مع أن الأرقام المعلنة رسمياً تتراوح بين 30 و40 ألفاً فقط، لكن من قال إن الجيوش تكشف العدد الحقيقي لعناصرها في أي موقع من المواقع؟
يدور الحديث هنا عن القوات الموجودة في قواعد ثابتة لـ"سنتكوم" في الجناح الآسيوي للوطن العربي، ما عدا القوات المنتشرة في مياهه، مثل الأسطول الخامس الذي تمتد منطقة عملياته بين ميناء البصرة وقناة السويس، ومثل الأسطول السادس في البحر الأبيض المتوسط، وما عدا 5000 جندي في جيبوتي يتبعون لقيادة أفريقيا في البنتاغون.
عزز الأميركيون حضورهم عسكرياً في منطقة "سنتكوم" بعد 7 أكتوبر، ومن ثم بعد دخول اليمن على خط نصرة غزة، من خلال عملية "رامي بوسايدن"، ولن ندخل في تعداد القوات التي تأتي لمهام مؤقتة، مثل المناورات والتدريبات العسكرية أو القوات الغربية غير الأميركية وقواعدها، مثل القواعد البريطانية في الإمارات والبحرين وعُمان وقطر، أو الفرنسية في الأردن والعراق، أو قوات "أسبيدس" الأوروبية في البحر الأحمر.
رسم البنتاغون إذاً حيزاً جغرافياً قرر أنه "منطقة مسؤولية" AOR "سنتكوم"، وراح يدير تلك المنطقة انطلاقاً من قاعدة مركزية في تامبا في ولاية فلوريدا الأميركية، وطفق يعقد ائتلافات مع دول من خارج "منطقة مسؤولية سنتكوم" ومن داخلها لتنفيذ مهام عسكرية وعملياتٍ فيها.
وبحسب موقع "سنتكوم" الرسمي في الإنترنت، بلغ عدد الدول المشاركة في "ائتلاف سنتكوم" 46 دولة، منها دول تقع تحت مظلة "سنتكوم"، وتعد صديقة للولايات المتحدة، مثل مصر ولبنان والأردن وعدد من الدول الخليجية وباكستان، ومنها دول أخرى من خارجها، مثل المغرب وكندا وأوكرانيا وتركيا واليابان وكوريا الجنوبية وعدد من الدول الأوروبية الشرقية والغربية.
تقع قيادة "سنتكوم" البحرية في البحرين، وتقع قيادة "سنتكوم" العملياتية المتقدمة في قطر. وتنتشر القواعد والأساطيل الأميركية في أرضنا ومياهنا العربية بناءً على تفاهمات سياسية يسميها البنتاغون "تحالفات". ويفرض مثل ذلك الحضور المكثف والمنتشر في مصفوفةٍ استراتيجيةٍ وصايةً سياسيةً أميركيةً على المنطقة بالضرورة.
تدار تلك الوصاية بأدواتٍ محلية ودولية فعلياً، إذ إن الاعتماد ليس على عشرات آلاف الجنود الأميركيين فقط، بل يداوم مسؤولون عسكريون كبار، يمثلون الدول الـ46 في الائتلاف، في القاعدة المركزية لـ"سنتكوم" في ولاية فلوريدا الأميركية بصورةٍ دائمة كي يساعدوا في التنسيق العملياتي ويقدموا معلوماتٍ استخبارية أو "موظفين" ومعداتٍ وأصولاً لاستخدامها على الأرض، وفي الجو أو البحر، دوماً بحسب موقع "سنتكوم" الرسمي في الإنترنت.
وفي مدخل آخر في الموقع ذاته تحت عنوان "أولويات سنتكوم"، نجد 3 أولويات تحت عنوان "خطوط الجهد":
1 – ردع إيران.
2 – محاربة المنظمات العنيفة المتطرفة.
3 – التنافس استراتيجياً مع روسيا والصين من خلال التعاون مع الشركاء والحلفاء الإقليميين.
ونجد أولويتين تحت عنوان "الأولويات الوظيفية":
1 – تأسيس بنى إقليمية، مثل بنية أمنية إقليمية، ومثل "التحالف الجوي الشرق أوسطي" (الذي ذكره غانتس في المقتطف من "هآرتس" أعلاه)، والسيطرة على الأجواء والمياه والحدود بصورةٍ متكاملة.
2 – مواجهة خطر المسيرات المتصاعد، والتي يستخدمها الفاعلون من الدول وغير الدول، ما يمثل تهديداً مباشراً للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها الإقليميين من خلال تأسيس بنية أمنية إقليمية.
باختصار إذاً، توظف "سنتكوم" موارد عسكرية من داخل منطقة عملياتها ومن خارجها لفرض السيطرة عليها، وحلفاؤها وشركاؤها "العرب" أطراف مباشرون في تلك العملية، ولديهم ضباط ارتباط في القاعدة المركزية لـ"سنتكوم"، أي قاعدة "ماكدل" الجوية في تامبا في فلوريدا.
وما دامت تلك الدول مكوناً رئيسياً في منظومة "سنتكوم"، فكيف نندهش إذا صحت التسريبات عن لقاء المنامة وشرم الشيخ من قبله؟ وكيف نُفاجأ إذا قصرت المنظومة الرسمية العربية عن نصرة غزة ونجدتها، بل إذا تآمرت عليها؟ وكيف نستغرب إذا دافعت دولٌ عربية عن "إسرائيل" كما فعلت ليلة 13/ 14 نيسان/أبريل؟
كلمة أخيرة، في ظروفٍ من هذا النوع، لا يمكن الحديث عن "دولة وطنية" ما دامت تخدم أجندات غير وطنية، وما دامت تسهل شروط الهيمنة الخارجية أمنياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، فهي إذاً دول وكيلة للمصالح الخارجية، وأزمتها الوحيدة تكمن في تمرير تلك المصالح بسلاسة، وبأقل قدر من الاحتكاك مع المواطنين. ومن حيث المبدأ، يصعب الحديث عن "دولة وطنية" فصّلها الاستعمار، فما بالكم حين تستمر في العمل في خدمته حتى بعد نيل استقلالها الصوري؟!
ربما يصح القول إذاً إن الوطن العربي كله محتل، وإن البؤر المحررة فيه هي تلك التي تقاوم فحسب، وعلى رأسها غزة اليوم، وإن تحرير العقل من الأوهام هو الخطوة الأولى نحو تحرير الوطن والإنسان.