جنوب أفريقيا: أزمة الحزب الحاكم وفضيحة "فارمغيت" ونتائج المؤتمر الوطني الـ55
على المستوى الأفريقي، قد يكون إعادة انتخاب الرئس رامافوسا في جنوب أفريقيا إيجابياً للقارة، حيث أولى اهتماماً كبيراً بالقضايا الأفريقية.
تؤكد تطورات المشهد السياسي في السنوات الأخيرة في جنوب أفريقيا على أن "حزب المؤتمر الوطني الأفريقي" - أقدم حركة تحرر نشطة في أفريقيا – تعاني أزمة داخلية وتحديات وجودية رغم هيمنة الحزب على سياسة جنوب أفريقيا منذ نهاية الفصل العنصري عام 1994؛ إذ أخفق الحزب في السنوات الأخيرة بالوفاء بوعوده، مما أثّر في ضعف نموه في مقاطعات جنوب أفريقيا على مدى السنوات العشر الماضية.
ويفقد حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" أيضاً منذ الانتخابات المحلية لعام 2016 بعض معاقله. بل انخفضت نسبة الدعم والتصويت من 62% في عام 2014 إلى 57% في عام 2018، وتعرّض لضربات في انتخابات الحكومة المحلية لعام 2021 رغم المسيرات والحملات التي نظمها من باب إلى باب في الفترة التي سبقت الانتخابات، حيث انخفضت حصة التصويت للحزب إلى أقل من 50% للمرة الأولى على مستوى البلاد.
وقد ساهم في تراجع الدعم العام للحزب في جنوب أفريقيا لما يُتصور من غرق أعضائه وزعمائه في الفساد وتضاؤل اهتمامهم بتحقيق الرفاهية العامة. وساءت سمعة الحزب طوال فترة رئاسة الرئيس السابق، جاكوب زوما، من عام 2009 إلى عام 2018 حيث اتُّهِم بفساد غير مسبوق إلى جانب دوره في قضية "السيطرة على الدولة" التي ترمز إلى الفساد المستشري في عهده وعلاقته مع عائلة "غوبتا" المتهمة بالتحكم في السياسة ومفاصل جنوب أفريقيا.
وقد أدت جهود تنظيف الحزب من الاتهامات والسمعة السيئة إلى حملة لإزحة الرئيس "زوما" والتي قادها وقتذاك الرئيس الحالي، سيريل رامافوسا، صديق الزعيم نيلسون مانديلا، ونائب الرئيس "زوما" بين عامي 2014 و2018.
ونجح رامافوسا في حملته، حيث استدعت اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" الرئيس زوما، بعد أسابيع قليلة من اختيار رامافوسا لخلافة زوما كرئيس لحزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" في ديسمبر 2017. وجرى خامس التصويت في البرلمان لحجب الثقة عن زوما الذي استقال في 14 شباط/فبراير 2018 وتولى رامافوسا المنصب الرئاسي في اليوم التالي.
ومع ذلك لا يزال زوما يتمتع بنسبة كبيرة من القوة داخل الحزب، حيث ينقسم قادة الحزب بين الموالين للرئيس الحالي رامافوسا وسلفه زوما الذي يواجه إلى اليوم إجراءات جنائية في قضايا الفساد، ولا سيما تلك التي تنطوي على رشاوى دفعتها شركة فرنسية للحصول على عقود دفاع منذ أكثر من 10 سنوات. وقد حاول زوما ومحاموه تحويل الدعوى والتهم إلى قضية سياسية.
رامافوسا وقضية "فارمغيت"
كان أمل مواطني جنوب أفريقيا قبل 5 سنوات أن مجيء الرئيس الحالي سيريل رامافوسا سيحوّل الوضع نظراً لشخصيته وخبرته، وأنه سيضع حداً لعقد قاتم من الفساد والانهيار الاقتصادي؛ إذ كان ناشطاً عُمًّالياً سابقاً ومن المفضلين لدى نيلسون مانديلا لرئاسة جنوب أفريقيا. وكسب رامافوسا ثروته كرجل أعمال أثناء فترة استراحته من السياسة نتيجة تفضيل حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" أشخاصا آخرين لقيادة البلاد قبل عام 2014. وكانت حملته أيضا في عام 2018 قائمة على معالجة عاجلة للوضع الاقتصادي من خلال تعزيز الاستثمار المحلي والدولي ووضع مبادرات لتعزيز الديمقراطية.
وقد كانت مهمة رامافوسا الأولى بعد تسلمه السلطة الرئاسة، أن يحاول توحيد صفوف أعضاء الحزب، ولكن نجاحه في هذه المهمة كان طفيفاً. وبعد فوزه في انتخابات عام 2019 بدأ العمل الشاق بإعادة بناء مؤسسات الدولة التي أثّر فيها الفساد في عهد الرئيس السابق جاكوب زوما، وتشمل هذه المؤسسات النيابة العامة ومساعي الاحتكارات الضخمة لمرافق الدولة وإدارة جباية الضرائب. ولكنه واجه في هذه المساعي أيضاً مقاومة شرسة من الموالين لزوما.
على أن سمعة رامافوسا ومصالحه التجارية وشخصيته مهددة بسبب فضيحة هزّت الأجواء السياسية بجنوب أفريقيا مؤخراً؛ إذ تورّط في قضية أُطلق عليها اسم "Farmgate" في الوسائل الإعلامية المحلية والتي أدت إلى محاولات إزاحته عن زعامة حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي".
وتتمثل الفضيحة في أنه في أوائل عام 2020 سُرق ما بين 500 ألف دولار و5 ملايين دولار من مزرعة رامافوسا للألعاب في "فالا فالا" في مقاطعة "ليمبوبو"، ولكن تم التستّر على الحادث حيث لم تُعلَن السرقة ولم تبلغ الشرطة بها، إذ بدلاً من ذلك كُلِّف حارس شخصي رئاسي بمهمة تعقب الأموال ومن ثم دفع مبلغ معين للجناة. وكلها خطوة خالفت اللوائح المحلية الصارمة لغسيل الأموال أو للضرائب وأثارت تساؤلات حول طريقة الحصول على تلك المبالغ من الأموال.
وفي عمليات التحقيق في هذه الفضيحة؛ أفادت لجنة مستقلة عيّنها برلمان جنوب أفريقيا بأنها عثرت على أدلة على ارتكاب رامافوسا لمخالفات يمكن أن تشكل سوء سلوك جسيم وانتهاكًا للدستور وخرقًا للقسم الرئاسي. وبالرغم من أن رامافوسا ينفي دوره في الفضيحة ويصر على براءته، إلا أن إعلان لجنة البرلمان شوّه صورته كرئيس منتخب لإزالة الفساد واستعادة النزاهة في الحياة العامة. بل وأدى إلى محاولة فاشلة من قبل البرلمان لعزله من المنصب الرئاسي، حيث صوّت المشرّعون في يوم 13 كانون الأول/ديسمبر 2022 حول بدء إجراءات عزله ولكن الأغلبية صوتت لصالح رامافوسا بـ 214 صوتاً ضد قرار عزله (غالبية هذه الأصوات من حزبه المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم) مقابل 148 صوتاً مؤيداً لعزله.
المؤتمر الوطني الـ55 وما يعنيه لرامافوسا
انعقد في الفترة من 16 إلى 20 كانون الأول/ديسمبر 2022 المؤتمر الانتخابي الوطني الخامس والخمسون (55) لقيادة حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" الحاكم. وجاءت نتيجة المؤتمر بخلاف التوقعات السائدة بأن الرئيس سيريل رامافوسا قد يخسر زعامة الحزب في هذا المؤتمر وأنه قد يستقيل أو يطرده الحزب بسبب فضيحة "فارمغيت"، ولكن رامافوسا فاز بولاية أخرى كرئيس للحزب، حيث صوّت المندوبون في المؤتمر الانتخابي الوطني بـ 2476 صوتاً لصالح رامافوسا و1897 صوتاً لمنافسه زويلي مخيزي، وزير الصحة الذي أوقفه الرئيس رامافوسا بعد تورطه في فضيحة فساد تتعلق بمنح عقد اتصالات كوفيد-19 وأُجبِر على الاستقالة في آب/أغسطس عام 2021.
ويعني هذا الفوز بولاية أخرى كرئيس حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" أن لرامافوسا فرصاً أخرى كي يركّز على برامجه ويحقق تعهداته، وخاصة في ظل تفاقم تحديات أخرى تشمل أزمة انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 7 ساعات في اليوم، ومعدل بطالة يبلغ 35%، وتقارير عن تصاعد معدل انتشار الفساد.
وقد اعترف الرئيس رامافوسا نفسه بأن حكومته مسؤولة جزئياً عن أزمة الكهرباء متعهدا بالسعي نحو ضمان إمداد كافٍ من الكهرباء من خلال توسيع دائرة اقتناء الطاقة المتجددة خلال السنوات القليلة المقبلة.
ويضاف إلى ما سبق أن المؤتمر الوطني أتى بنتائج تهميشٍ لشخصيات بارزة من منتقدي الرئيس رامافوسا داخل الحزب، بمن فيهم نكوسازانا دلاميني زوما، وزيرة الحوكمة التعاونية والشؤون التقليدية التي صوتت في البرلمان لصالح إجراءات عزله، ولينديوي سيسولو وزيرة السياحة.
كما يعني الفوز أن الطريق أصبح ممهّدا أمام رامافوسا للترشح لولاية ثانية كرئيس جنوب أفريقيا في انتخابات عام 2024، حتى وإن كان الحزب لا يزال منقسماً بشدة حيث يقود الرئيس السابق زوما ما يقرب من نصف الحزب المعارض لرامافوسا وحملته لمكافحة الفساد. ومن بين الشخصيات الرئيسية للمجموعة المعارضة، زويلي مخيزي، الذي حصل على قرابة 1900 صوت في المؤتمر الوطني الـ 55 للحزب.
ومما يلاحظ أن هذا الانقسام الداخلي وارتباط شخصيات كثيرة في حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" بفضائح فساد وسوء الإدارة العامة كلها تؤثّر في استياء شباب جنوب أفريقيا من الحزب, وأن المؤتمر لم يستقطب المخيلة الوطنية كمؤتمرات الحزب السابقة، مما يؤشر على أن أهمية الحزب ورمزيته لدى العوام سيتضاءلان بشدة بعد الانتخابات الوطنية القادمة في عام 2024.
وهناك شكوك حول ما إذا كان القادة الذين يختارهم مندوبو الحزب مناسبين لوظيفة إخراج البلاد من أزماتها الاجتماعية والاقتصادية الحالية، بينما يرى البعض أن حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي" بقيادة رامافوسا لا يملك خطة فاعلة لمعالجة المشاكل الملحة في جنوب أفريقيا.
وفيما يتعلق بإعادة انتخاب رامافوسا على رأس الحزب رغم فضيحة "فارمغيت"؛ فإن ما يبدو أن أعضاء الحزب يتوقعون منه معالجة الانقسامات داخل الحزب أو أنهم أعطوه فائدة الشك رغم طلب الكثير منهم شرح تفاصيل الحادث كاملاً.
وعلى المستوى الأفريقي، قد يكون إعادة انتخابه إيجابيًا للقارة حيث أولى الرئيس رامافوسا اهتماماً كبيراً بالقضايا الأفريقية. وقد أشاد في شباط/فبراير 2022 بالتحديات التنموية التي تواجهها القارة مشيراً إلى أن بناء أفريقيا أفضل هو حجر الزاوية في سياسة جنوب أفريقيا الخارجية، وأنه لكي تلعب أفريقيا دوراً كاملاً ومتساوياً في الشؤون العالمية يجب على الحكومات الأفريقية تطوير اقتصاداتها من خلال مبادرة "منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية" (AfCFTA) وتعزيز الاستثمار والسياحة داخل القارة وتسريع قطاع التصنيع ودفع النمو الأخضر والتنمية منخفضة الكربون، إلى جانب ضرورة إنهاء كل النزاعات وترسيخ مبادئ الحكم الرشيد.